اليساري/ عناية جابر
رحلات السفر غنية لي في الغالب.. في رحلة كانت تقلني الى بيروت التقيت على متن الطائرة صديقاً قديماً كان متوجهاً بعد سنين الى بيروت. عن أسباب هجرته وإقامته في الخارج، وهو اليساري الذي شغل الساحات مرة ولم يكن يرضى بأقل من العدالة في الأرض كلها، وليس في لبنان أو الوطن العربي فقط. سألته فقال: “لأنني أخطأت الحساب”.
وقبل أن يترك لي مجالاً للتعبير عن أي استنكار أو تعجب تابع يقول ما معناه إن المناضل هو كالضابط المسؤول عن الجبهة في الحرب، إذا تبين له خطأ كل حساباته من حيث نسبة القوى ونوعها وطبيعة المعركة فعليه، إذا كان صادقاً، أن يستقيل من منصبه فوراً، لعلّ الجنود يقعون على ضابط آخر أكثر حظاً في قراءة الوقائع واستشراف المستقبل. هذا إذا كان هدفه، كما أضاف، ربح المعركة فعلاً لا الظفر بنفسه والعمل فقط من أجل تلميع صورته والتلوّن وفق التحولات الجارية.
اليساري كما يفهمه هو التقدمي في بلاده. أي الشخص الذي يرى قبل غيره إمكانية رؤيوية لتطوير بلاده والقضاء على مشاكلها. لذلك عليه أن يقرأ البلاد وواقعها وأن يعيّن أسباب علّتها الرئيسة، وأن يقترح وجهة معينة، هدفاً، على من يظنهم أصحاب مصلحة في هذه الوجهة. ويضيف صديقي إن العملية كلها مرتبطة بالفعالية أي بالنتيجة. اليسار إذن ليس جمعية خيرية، ولا مجموعة صلبة عظيمة اللحمة الداخلية، ولا قرابة طبيعية أهلية قائمة على قرابة الدم المقدسة ووجودها هو الأسبق على كل شيء.
وتابع صديقي الكلام بحمية من وجد أخيراً فرصة للكلام، فقال إن اليسار صاحب “فكرة” عن مجتمعه، فإذا تبين له أن قراءته لمجتمعه وعن طبيعة القوى وطبيعة التناقضات هي غير ما توقع واستشرف فإن الشرف يفرض عليه الاستقالة والاعتراف أمام مَن قادهم بالخطأ، خطأ الفكرة. دخلنا الى المجتمع يا سيدتي من باب سياسي معيّن، فإذ بنا امام مجتمع متناقض تماماً مع معادلاتنا، ومع تصوراتنا عنه. رأينا “الطبقة العاملة وجموع الكادحين”، رأس حربتنا، منقسمة وفق قواعد لم نستشرفها أبداً. دخلنا من الطبقة فوقعنا على الطائفة. كل قراءتنا ذابت كملح في الشمس.
اليسارية، على نيتها الحسنة، لا تحمي المغفلين، بحسب رفيق الطائرة. اليسارية ليست قلعة محصّنة بل مساحة تأثير. فإذا فقدت وهجها فقدت كل شيء لأن غرضها تقدم البلاد لا تقدم أصحابها، بناء البلاد لا بناء أصحابها. وكأنه توقع سؤالي سلفاً عن التعديل في الوجهة فقال: التعديل يفترض المراجعة الكاملة لأدوات التحليل، وبصراحة لم أكن أملكها. بمواجهة مجتمع الطوائف “الدائري” تعطلت لغة الكلام.
“اليسارية اليوم هي الإجابة عن سؤال مركزي يدور حول الموضوع الذي يمكنه ان يوحِّد ما لا يوحَّد في هذا النسيج الاجتماعي المرقّط. وهنا اليسار العربي في الرؤية بحسب الصديق لا في السلوك الفرداني “المريض” لأعضائه، ولا في تخليهم عنه عند أول صعوبة”.
السفير