صفحات الرأي

انا عنصري؟ انت عنصري/ وسام سعادة

 

“العنصرية” مصطلح يُساق في بلادنا العربية للجمع في وقت واحد بين أكثر من مفهوم داحض للكراهية دون الاستحواذ على لبّ أي واحد منها. فالعنصرية، عربياً، قد تفيد “الشوفينية”، أي الغلواء لقوم أو لقومية، أو “العرقية” أو “الريسيزم”، أي الشعور بتفوق بيولوجي أولاً، أو بيولوجي أيضاً، على أبناء جلدة أخرى، أو حتى افتعال هذا الفاصل البيولوجي لو لم يكن ظاهراً. أو قد يراد بالعنصرية التعصّب (فاناتيزم) للملّة الدينية ومهاجمة ملّة دينية أخرى، سواء تركّز الأمر على المعتقد والشعائر، أو راح يتناول العوائد الاجتماعية المحسوبة على هذه الملّة أو تلك. أو قد تحمل على أنّها نزعة الكراهية للأجانب، أو “الكزينوفوبيا”، سواء قدم هؤلاء من وراء البحار، أو اكتفوا باجتياز الحدود الترابية. أحياناً أيضاً، وبشكل متزايد في الفترة الأخيرة، مع فورة “النشاطية المدنية”، تتوسّع االعنصرية لوصف أي عدائية “طبقية” أو كلام تجاه الفقراء، أو أي رُهاب يتصل بالهويات أو التوجّهات الجنسية، ويمكن حتى توقّع أن يتوسّع الاستخدام للحديث عن “عنصرية” ضد الطاعنين في السنّ، أو ضدّ ذوي الاحتياجات الخاصة، أو ضد الأطفال.

لا شكّ أنّ السَوق العربي لمصطلح العنصرية يلتقط حيثيات التداخل والتناقل بين “شوفينية” و”ريسيزم” و”فاناتيزم” و”كزينوفوبيا” وكراهية جنسية أو طبقية أو أي نزعة كراهية قد تنتاب انساناً تجاه آخر، كما أنه يحيل على معطى كوني أوسع، وهو استمرار أصناف من “العنصرية العرقية” من دون الحاجة الى تثبيت مفهوم “العرق البيولوجي”، أي بمعنى آخر، انتشاء “الريسيزم” بعد بوار “الراسيولوجيا”، أي علم الأعراق الزائف.

لم يعد أحد اليوم يستعين بـ”الانثروبولوجيا الفيزيائية” للقرن التاسع عشر، أو يقارن بين الجماجم والجباه والأنوف لينفث كراهيته للمختلفين عنه، أو لمن يعتبرهم كذلك، لكن ذلك لم يكبح هذه المشاعر العدائية، بل أشاعها أكثر، وجعلها تبرّر لنفسها بأساليب من الرياء متجددة دائماً.

فضل مصطلح “العنصرية” العربي يتمثّل هنا في أنه يلتقط حيثية أساسية: وهي أن الكراهية تجذب الكراهية. أجمل، يمكنك بسهولة العثور على أناس تنتابهم مشاعر كراهية متعددة لهذا وذاك في وقت واحد على أساس قومي، وعرقي، وديني، وطبقي، وجنسي، أو حتى على أساس طبّي. لكن غالبية الناس لا تتميّز بهذا الجمع. “العدوانية الشاملة” هي حالة نافرة اجتماعياً، وتحاصر نفسها بنفسها. لكن “العدوانيات الجزئية” أو “الموضعية” هي الشائعة أكثر، وهي الأخطر. ليس ضرورياً مثلاً أن تكون “كارهاً للأجانب في بلدك” وعرقياً، وبطركياً، ومتعصّباً دينياً، في الوقت نفسه. وحتى لو وجد التداخل بين كل هذه المستويات، فان بعضها يطغى على بعضها الآخر، فوجب التمييز. وهذا التمييز يضيع لكثرة استخدامنا مصطلح العنصرية على مدار الساعة، بحيث يفرّغه من كل قصد معرفي، ويؤدي الى تقاذفه بين “العنصريين” المختلفين، ومن ثمّ الى اعادة شحن سياسات وسلوكيات الكراهية بمواد خطابية جديدة، يصطنع فيها “العنصر” تفوقاً “أخلاقياً ذاتياً” على عنصر آخر، هو باختلافه، “بلا أخلاق”. فهذا يتهّم سواه بأنّه “عنصريّ” لأنه يمعن في التركيز على اختلافه، وذاك يردّ عليه تهمة العنصرية، لأنه يكابر على الاختلاف. في الحالتين ثمة تعبير متوتّر عن حالة الاختلاف. وفعلاً، الاختلاف يوتّر. فكما أنه في الاختلاف اقصاء، كذلك في الاختلاف حرّية. الاختلاف بين الناس أكثر من بديهيّ، لكن عيشه ليس سهلاً أبداً. لقد أخذت المجتمعات التقليدية قروناً مديدة لتنظيم اختلافاتها.

الى حد كبير، ظلت معايير الطهارة والنجاسة هي التي تحكم الاستقطاب أو الفصل بين الفئات المختلفة، وهي التي تلجم العدوانية فيما بين هذه الفئات. نسف ثنائية “طهارة ونجاسة” أخذ في المقابل يدفع البشر في المجتمعات الحديثة الى التوجّس من النجاسة في كل مكان. هذا التوجّس المحموم، دفع البعض للتفكير ذات يوم كالتالي: حسناً، لنعد الى أحكام الطهارة والنجاسة على أساس علمي، ومادي، وبيولوجي. فكان “علم الأعراق”. من التوجّس، الانقباض، الرُهاب، الهلع، عينه، نبتت معزوفة أخرى: حسناً، لنعد احياء أحكام الطهارة والنجاسة كما كان معمولاً بها فيما مضى، على أساس المصدر الغيبي، النقلي، وبالاستعانة بالعلم الحديث والتكنولوجيا لتطبيقها هذه المرة. فكانت الأصوليات الدينية المعاصرة. لكن أيضاً، بين “علم الأعراق” وبين الأصوليات الدينية، ثمة من يخفي وراء تشبّثه فوق اللزوم بفكرة الدولة الأمة، الغاية نفسها، البحث عن مرجعية لأحكام الطهارة والنجاسة الجديدة، فكانت ثنائية “المواطنون” و”الأجانب”. في “العنصرية” كما تُساق عربياً اليوم خليط من هذه الأشواق الثلاثة لسلام اجتماعي تصونه أحكام الطهارة والنجاسة، بمصادر غيبية، وبمعونة علمية – تكنولوجية، وبالاستعانة بمفهوم الدولة.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى