انتشار ورم الصراع في سورية
الملخص التنفيذي
عامان من الزمن، وعشرات آلاف القتلى، وحرب إقليمية تزداد انتشاراً، وملايين اللاجئين والمهجرين داخلياً، والحرب السورية تَلفُّ حول المجتمع الدولي عُقَداً من صنعه هو نفسه. الحلفاء الأجانب للمعارضة السورية، الذين كانوا واثقين ذات يوم من تحقيق نصر سريع، تحولوا إلى نمط من السلوك منفصل بشكل خطير عن الواقع. ويتمثل هذا في الاعتقاد بأن الضغط العسكري سيجبر النظام على تغيير حساباته بحيث إما يلجأ إلى التفاوض على نهايته أو يتعرض لانقسامات داخلية تفضي إلى انهياره. تجاهلت هذه الفرضية تصميم إيران، وحزب الله وروسيا على فعل كل ما هو ضروري للمحافظة على بقاء النظام وإركاع المعارضة المسلحة. واعتمدت على معارضة متقلبة في المنفى تتصارع على حصة من سلطة لم تحصل عليها بعد. وافترضت أن نظام الأسد يستند إلى “حسابات” قابلة للتغيير، وليس إلى نزعة قتالية مصمَمَة كي تدوم. لقد آن الأوان لتنحية الآمال الزائفة جانباً ومواجهة الحقيقة الفجة. إن الخيارات التي تهيمن على النقاش الدائر بشأن السياسات ستعمّق الأزمة، بدلاً من أن تنتج مخرجاً ذا مصداقية منها.
إذا كان الهدف هو وقف هذه الحرب المرعبة، فإن الخيار هو بين التدخل العسكري الكاسح ـ مع ما يترتب عليه من مخاطر وانعدام يقين ـ لتغيير توازن القوى على الأرض بشكل حاسم؛ والقبول بانتصار النظام مع ما ينطوي عليه ذلك من ثمن أخلاقي وسياسي؛ وحل دبلوماسي ترعاه بشكل مشترك الولايات المتحدة وروسيا. الخيار الأخير هو الخيار الأمثل، لكنه بات اليوم خياراً مخادعاً، بحيث يقبل النظام والمعارضة بالتوصل إلى اتفاق أقل من مرضٍ لتقاسم السلطة، ويقبل فيه المعسكران الإقليميان الرئيسيان المتنافسان (اللذان تقودهما إيران والسعودية على التوالي) بسورية غير متحالفة مع أي من هذين المعسكرين. ثمة خيار رابع يتمثل في منح الحلفاء كلا الطرفين ما يكفيهما للبقاء لكن ليس لتحقيق الانتصار، وهو خيار من شأنه أن يديم حرباً بالوكالة يكون فيها السوريون هم الضحايا الرئيسيين. هذا هو الحال في المرحلة الراهنة وهو الحال الأكثر رجحاناً في المستقبل المنظور.
في الوقت الراهن، ينبغي أن ينصب التركيز على الخطوات المباشرة لعكس مسار التصعيد في الصراع ووضع خطة أكثر تفصيلاً لتسوية يمكن أن تشكل أساساً لحل دبلوماسي. وهذا يتطلب الإجابة على أسئلة محورية: ما هو شكل الحل الذي يمكن أن يحمي مصالح النظام والمعارضة على حد سواء؟ ما هو شكل الدولة التي يمكن أن تنشأ عن عملية سياسية وتشكل أساساً لحل دائم؟ كيف يمكن تغيير المؤسسات القائمة بشكل يكسب هذه الرؤية محتوىً حقيقياً؟ هل هناك طريقة للاستجابة لمخاوف اللاعبين الإقليميين المتنافسين؟ وهنا يمكن أن يوجد أكبر قدرٍ من الاتفاق بين السوريين وهنا يمكن معالجة مخاوف حلفائهم. يقترح هذا التقرير أفكاراً يمكن البناء عليها لمزيد من النقاش.
إن كون الخيارات غير مقبولة، أو غير واقعية أو كلا الأمرين يعود في جزء كبير منه إلى ديناميكيات حرب لم تحظَ في كثير من الأحيان بالتشخيص السليم. إنها ليست صراعاً تعني فيه مكاسب أحد الطرفين بالضرورة خسارة للطرف الآخر. يمكن للنظام والمعارضة أن يكونا قويين على بعض الجبهات، وضعيفين على جبهات أخرى. لقد مر كلاهما بعمليات رص صفوف وتعزيز قوى ويتمتعان بقدر كافٍ من الدعم المحلي والأجنبي بحيث يستطيعان الاستمرار. النظام، الذي اكتسب مقاتلوه تجربة وخبرة في معارك زادتهم صلابة، والذي يشارك حلفاؤه بشكل فعالٍ ومباشر إلى جانبه، حقق انتصارات عسكرية تكتيكية هامة. لدى النظام قواعد موالية له؛ والبعض الذي كان حيادياً في مرحلة ما نظراً لمعرفته بالفظاعات التي ارتكبها الأسد لكن الذين أرعبهم السجل البائس لحكم المعارضة وميولها الإسلامية والطائفية المتزايدة، يتغاضون عن هذه الفظاعات ويميلون نحو نظام يزعم بأنه يقاتل نيابة عن شريحة واسعة من مواطنيه. الأهم من ذلك، أن النظام تطور بشكل يجعله إلى حد كبير منيعاً ولا يتأثر بنقاط خلله الكثيرة.
وهذا أحد الأسباب الجيدة للتخلي بسرعة عن نظرية الوصول إلى نقطة الانهيار، والفكرة الخيالية القائلة بأنه حالما تصل المعارضة إلى كتلة حرجة (الاستيلاء على حلب؛ أو الانتقال إلى دمشق؛ أو استمالة طبقة الأعمال إلى جانبها، بين فرضيات أخرى) فإنها ستكتسح النظام. كما ينبغي التخلي عن فكرة أنه تحت الضغوط المتنامية، فإن هيكلية السلطة ستتحول ضد نفسها، من خلال انقلاب عسكري أو انشقاق شخصيات هامة. النظام يأتي كرزمة متكاملة ـ كل لا يتجزأ، ولا يمكن فصل الأجزاء المقبولة فيه عن الأجزاء التي يصعب القبول بها دون تهديم الصرح بأكمله. أنصار الأسد، وهم في كثير من الأحيان من أقسى منتقديه، لا يزالون مقتنعين بأن ما تبقى من الدولة سينهار إذا تنحى.
للمعارضة شكلها وبنيتها المختلفة، لكن هي أيضاً من المستحيل القضاء عليها. ثمة اختلافات بالطبع؛ فهي تعددية ومنقسمة بعمق، وهيكلياتها ارتجالية ومتغيرة، وداعموها الأجانب أقل ثباتاً وتنسيقاً فيما بينهم. رغم ذلك، وكحال النظام، فإنها حققت كتلة هامة ومثابِرة من الدعم وباتت محصنة جزئياً على الأقل ضد آثار أدائها المتفاوت. الطبقة المسحوقة والواسعة التي تشكل العمود الفقري لجمهور المعارضة عانت من العنف المفرط للنظام بحيث يُتوقع أن تقاتل حتى النهاية.
لم يكن الدعم الدولي ثابتاً ومتسقاً في أفضل الأحوال، بل كان غير فعالٍ في العديد من الحالات. إلاّ أن حتى أكثر داعمي المعارضة الخارجيين تردداً من غير المحتمل أن يغيروا موقفهم ويتخذوا مساراً معاكساً؛ وتشير القرارات الأخيرة التي اتخذتها واشنطن بتقديم بعض الأسلحة والتي اتخذتها دول أخرى بزيادة مساعداتها بشكل كبير، إلى أن من المرجح أن يفعلوا العكس تماماً. لقد تم استثمار الكثير في شيطنة النظام، واستُثمر الكثير في ركوب موجة الخلاف مع إيران وحزب الله بحيث لا يمكن توقع غير ذلك. بالنسبة لأولئك الذين ينظرون إلى الصراع بوصفه حرباً بالوكالة مع طهران، فإن بقاء الأسد سيشكل ضربة استراتيجية قوية.
باختصار، فإن تطور النظام والمعارضة على حد سواء جعل الحلول العسكرية والتفاوضية أكثر مخاتلة، في حين أن تحولات السياق الاستراتيجي الأوسع جعلت احتمالات التصعيد أكثر رجحاناً. على حد تعبير مسؤول أمريكي سابق، فما كان عند نقطة معينة صراعاً سورياً ذا تداعيات إقليمية أصبح حرباً إقليمية مركزها سورية. وهذا أمر مخيف.
تتسع الحرب بطريقة تجتذب إليها لاعبين إقليميين ودوليين، وتمحي الحدود بين الدول وتشيد قوساً واحداً عابراً للبلدان من الأزمات. باتت المعارضة تشبه بشكل متزايد تحالفاً سنياً يلعب فيه الشارع السني الذي أصبح أكثر راديكالية، والشبكات الإسلامية، والإخوان المسلمين السوريين، ودول الخليج وتركيا أدوراً بارزة. معسكر النظام، الذي يضم إيران، وحزب الله، والمجموعات العراقية الشيعية المتشددة، باتوا أيضاً يشكّلون تحالفاً شبه طائفي.
باعترافه هو، فإن حزب الله ضالع بشكل مباشر في معركة واسعة النطاق ضد أولئك الذين يشجبهم بوصفهم أصوليين سنة (تكفيريين) متحالفين مع إسرائيل، ويجد بذلك مبرراً لانخراط طويل الأمد. وتتزايد أعداد المقاتلين العراقيين الشيعة، وتتوسع مشاركة إيران. رجال الدين السنة في سائر أنحاء المنطقة يستعملون لغة طائفية صريحة لحث أتباعهم على الانضمام إلى المعركة. لقد أعاد الصراع إثارة التوترات عند أكثر جيران سورية هشاشة ـ العراق ولبنان ـ اللذان عانيا في الماضي القريب من حروب أهلية أيضاً.
لقد ارتفعت الرهانات بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل أيضاً. بالنسبة لواشنطن، فإن القبول بنجاح النظام اكتسب أهمية مقلقة أكثر من العيش مع نظام ضعيف يحكم دولة مارقة ومجتمعاً محطماً. يشبّه بعضهم ذلك بتقوية محور مقاومة أصبح أكثر اندماجاً بقيادة إيران، ومنح موسكو نصراً في إعادة لمجريات الحرب الباردة. إن اندماج القوى العسكرية لإيران، وحزب الله وسورية يمكن أن يغيّر من موقف إسرائيل الحذر، ما يجعل التحقق من أية أنظمة أسلحة يتم نقلها وإلى من أمراً غير مؤكد وبالتالي يجعل القرار باستعمال القوة أكثر احتمالاً.
ما العمل؟ الأمر الذي كان ينبغي القيام به منذ أمد بعيد هو زيادة المساعدات الإنسانية داخل سورية، سواء في الأراضي التي يسيطر عليها النظام أو التي تسيطر عليها المعارضة. كما أنه ثمة حاجة لاستراتيجية “ملحقة” لتجنب عدم الاستقرار في البلدان المجاورة الهشة: منح المساعدات الاقتصادية للأردن ولبنان وللاجئين الذين يستضيفهما البلدان؛ والضغط على البلدان الإقليمية وحثها على عدم إثارة التوترات الطائفية في لبنان، والضغط على رئيس الوزراء العراقي، المالكي، لتبنّي سياسة أكثر تشميلاً حيال معارضته السنية.
الأصعب من كل ذلك هو ما الذي ينبغي فعله حيال سورية. ينبغي أن تكون الأولوية لوقف الحرب؛ وليس هناك خيارات سهلة، لكن هناك على الأقل ضرورة لمواجهة هذه الخيارات بشكل مباشر:
يتمثل أحد الخيارات في أن يقوم الغرب بترجيح كفة الميزان العسكري بشكل حاسم. وهذا ما يستطيع فعله بالتأكيد ـ رغم أن ذلك يمكن أن يتحقق فقط بتدخل أوسع نطاقاً مما يتم التفكير به حالياً أو مما يمكن القبول به سياسياً. حتى في تلك الحالة، من غير الواضح ما إذا كان ذلك سيؤدي إلى “هزيمة” النظام، أو أنه سيحوّله إلى سلسلة من الميليشيات، والأقل وضوحاً هو ما إذا كان سيتم إنهاء الحرب أو مجرّد إعادة تعريفها فقط. ستستمر إيران، وحزب الله، وربما حتى روسيا بالاحتفاظ بالنفوذ، وفي تغذية عدم الاستقرار وضمان عملية انتقالية فوضوية (وقد أثبتت طهران والحركة الشيعية في أمكنة أخرى أنهما تتقنان هذه اللعبة)، وستستمر الحرب الباردة الإقليمية/الطائفية.
يمكن المجادلة بأن أسرع الطرق لتخفيف حدة العنف هي بحرمان المتمردين من الموارد، والقبول بانتصار للنظام بحكم الأمر الواقع والسعي إلى تسوية مع بشار. ستكون التكاليف الأخلاقية، والسياسية والاستراتيجية هائلة، وربما أكبر مما يمكن تحمّله، كما أنه قد لا ينهي المأساة؛ فالسوريون الثائرون الساخطون لن يستسلموا على الأرجح؛ وسيسعى النظام الذي سيكون قد اكتسب جرأة أكبر إلى الانتقام؛ ومن شبه المؤكد أن دمشق ستمتنع عن تقديم التنازلات الضرورية في السياستين الداخلية والخارجية بشكل يسمح لأعدائها الخارجيين بحفظ ماء الوجه.
الحل الأمثل، والمتمثل بتسوية دبلوماسية تفاوضية، ينتمي، في المرحلة الحالية، إلى عالم الخيال. سيتوجب على القوى الخارجية ـ بداية بروسيا والولايات المتحدة ـ إجراء تغيير جوهري في مقاربتها للحل. بالنسبة لموسكو، فإن هذا يعني القبول، ومن ثم الدفع نحو تغيير في بنية السلطة في سورية. وبالنسبة لواشنطن، فإن ذلك ينطوي على التحوّل من السعي ضمناً لتغيير النظام إلى السعي علناً لتقاسم السلطة. إن أي حصيلة تفاوضية سياسية ينبغي أن تقوّي وتطمئن مختلف مكونات المجتمع السوري. اللاعبون الإقليميون، الذين سيدعمون التسوية فقط إذا اعتقدوا بأن الإطار السياسي الجديد يمنحهم نفوذاً كافياً للمحافظة على مصالحهم الجوهرية، سيكونون بحاجة إلى ضمانات. إن تصميم الغرب الظاهري على إقصاء إيران (وقد يكون هذا الأمر موضع مراجعة في أعقاب الانتخابات الرئاسية الإيرانية) قصير النظر؛ حيث أن إقصاء طهران عن جنيف لن يقلل من دورها في دمشق.
كما يشكّل المسار الحالي الذي يتخذه الغرب، والمتمثل في الحث على التوصل إلى حل دبلوماسي واللجوء في الآن ذاته إلى إجراءات وسطية مثل تسليح المعارضة أو، ربما في المستقبل، توجيه ضربات جوية لأهداف معينة وفرض حظر طيران محدود، خياراً أيضاً؛ وهو خيار قد ينتج مزايا إضافية كبيرة، مثل تقليص القدرات العسكرية للنظام، وتعزيز نفوذ الغرب على المتمردين؛ وإعادة معايرة ميزان القوى بين مجموعات المتمردين. لكنه لن يُنتج ما يزعم الداعون إليه أنه سيحققه، كمبرر لتبنّيه، وهو دفع النظام إلى التفاوض بجدية على مرحلة انتقالية حقيقية. ثم، ليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأنه سيوقف الاستقطاب الطائفي، ويحتوي العنف، ويحدّ من قوة المجموعات الجهادية أو يقنع حلفاء سورية بالتراجع. في المحصلة، فإنه سيعني الضلوع على نحو خطير في صراع إقليمي بشع ومتصاعد بين السنة والشيعة، وسيواجه الغرب مخاطر بانحيازه إلى أحد الطرفين.
إذا رغبت روسيا والولايات المتحدة بإظهار الجدية، فإن عليهما أن تطلقا جهوداً لعكس المسيرة المتصاعدة للصراع. على موسكو أن تضغط على النظام لوقف أشكال العنف غير المبرر التي يمارسها (وخصوصاً المجازر بحق المدنيين بحضور أفراد الجيش واستعمال الصواريخ البالستية ضد المدنيين) ووضع حد لاستعمال المقاتلين الأجانب (خصوصاً ذوي الصبغة الطائفية). كما أن على واشنطن أن تدفع المعارضة إلى اتخاذ إجراءات ضد أكثر الجماعات المسلحة تطرفاً فيها وتنفيذ وقف إطلاق نار على جبهات محددة. إن أياً من هذا لن يغير بشكل جوهري مسار الصراع أو يدفع نحو تسويته. لكنه على الأقل سيكون بداية، وهو أفضل بكثير مما يمكن أن يُقال أنه تحقق في هذه المرحلة المؤسفة.
Middle East Report N°14327 يونيو 2013