حسين العوداتصفحات سورية

انتفاضات بمثابة ثورات


حسين العودات

لا أظن أن ما جرى ويجري في بعض البلدان العربية منذ مطلع العام الماضي حتى الآن، هو ثورة أو ثورات، رغم أن وسائل الإعلام العربية والأجنبية والسياسيين والمحللين درجوا على تسميته بثورات الربيع العربي، بل كاد المؤرخون أن يثّبتوا هذه الصفة في دراساتهم الأكاديمية وفي تأريخهم.

للثورة صفات ومضامين وأساليب مارستها منذ بداية عصر النهضة، وأكدتها الثورات الفرنسية والأميركية والبلشفية، ومن أهم هذه الصفات أن الثورة تهدف إلى تغيير النظام السياسي تغييراً شاملاً وجذرياً، بكل معاييره وقيمه، وتمتلك، منذ البدء، مجموعة من الثائرين المتوافقين على عقيدة أيديولوجية وسياسية، ويعملون في إطار تنظيم حديدي، ويمارسون نضالهم تحت مظلة المركزية الديمقراطية، أي تحت مظلة قيادة واحدة، (وهذا ما بالغت جميع الأحزاب الثورية في تطبيقه تطبيقاً خاطئاً، قبل وبعد توليها السلطة.

حيث تحولت القيادة إلى مركزية بدون ديمقراطية)، وأن يكون لهذا التنظيم الثوري برنامج عملي واضح يعالج جميع قضايا المجتمع وهمومه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وله أيضاً نظرة شاملة وعميقة لشكل النظام السياسي الذي تعمل الثورة على إقامته، إضافة إلى أنها تمارس نضالها بمنهجية عمل علمية، وبهذا تكون الانتفاضة ثورة لأنها تهدف لتأسيس دولة جديدة لها معاييرها الخاصة بها، وتجب الماضي أو معظم الماضي، وهذا ما حققته فعلاً الثورة الأميركية والثورة الفرنسية في نهاية القرن التاسع عشر.

والثورة (البلشفية في روسيا) في مطلع القرن العشرين، وكان لهذه الثورات نتائج هامة جداً واسعة الطيف، لم تطاول الشؤون الداخلية فحسب بل الشؤون الإقليمية والعالمية أيضاً، وكان كل منها ذا تأثير كبير (وربما مفصلي) على تاريخ العالم، ثم ما لبثت هذه الثورات أن طورت أيديولوجياتها حتى توصلت إلى قيم جديدة سياسية واقتصادية وثقافية، ومعايير جديدة للدولة التي تبنتها، وهي ما سميت بالدولة الحديثة في الغرب الأوروبي والأميركي، والدولة الاشتراكية في شرق أوروبا وبعض بلدان العالم.

أما الانتفاضات العربية، وهي ما سميت خطأ بثورات الربيع العربي، فأمرها مختلف كلياً عن مواصفات الثورة وبنيتها وأهدافها وأساليب عملها ونظرتها الكلية للكون والحياة، ذلك أن هذه الانتفاضات لم تتبن أهدافاً شاملة في أي من البلدان العربية التي قامت بها، وإنما طالبت أساساً بالديمقراطية (المبنية على الحرية) والمعبرة عن نفسها بمطلب الكرامة التي سلبتها أجهزة الأمن والسلطات القمعية.

ومناوأة الفساد والاستبداد، وهي، أي هذه الانتفاضات، لم تكن تملك تنظيماً موحداً، ولا نظاماً داخلياً صارماً، وليس لها قيادة، ولا أسلوب نضال واحد، ولم يقل أي منها ولا في أي بلد عربي حصلت فيه، ما هو النظام السياسي الذي تريد تأسيسه، ولا النظام الاقتصادي، ولا حتى أسلوب تغيير النظام ومواصفات النظام البديل، وقد ركزت هذه الانتفاضات فقط، كما أشرت، على الديمقراطية والكرامة والعدالة.

ورغم أهمية هذه المعايير إلا أنها لا تشكل إلا جزءاً من مطالب الثورة الشاملة، وزاد الأمور تعقيداً أنها اعتمدت على الشباب، الذين رغم جذوة الثورة التي تعتلج في صدورهم، وتضحياتهم غير المحدودة، إلا أنهم قليلو الخبرة وعاجزون عن تأسيس أنظمة بديلة، وهذا ما رأيناه في تونس ومصر وليبيا واليمن ونراه الآن في سوريا.

وهو ما يلقي ضوءاً على الفرضية التي تقول بأن بعض الجهات سرقت هذه الانتفاضات، وخرج المنتفضون الشباب صفر اليدين، فلا هم أسسوا أنظمة جديدة تحترم معايير الدولة الحديثة، ولا هم أشرفوا على تأسيسها ثم إدارتها، وقد أصبحوا الآن يتفرجون على الآخرين الذين التقطوا النصر دون أن يكونوا فاعلين فيه. أو مناضلين لأجله، بل ربما كان بعضهم مناوئاً للانتفاضة.

ولكن تنبغي الإشارة إلى أن انتفاضات الربيع العربي حققت هدفاً رئيساً وعظيماً وهو وضع البلاد على طريق الديمقراطية والحرية والمساواة وربما العدالة وحقوق الإنسان، ولاشك أن القادم من الأيام، ومهما حصلت ارتباكات واضطرابات في بلدان الربيع العربي، سيؤدي إلى استقامة مسيرة هذه المجتمعات، وتحديث دولها، وتثبيت خطاها على طريق التطور والتحديث، وإذا كان اصطلاح الثورات الذي أطلق على هذه الانتفاضات يقصد به أنها ثورات ديمقراطية، فلا شك بصحته وصوابه ويمكن القول دون تردد أنها انتفاضات بمثابة ثورات.

من طرف آخر، إنني لا أرى صحة الافتراض القائل بالحاجة إلى سنوات طويلة حتى تنتصر هذه الانتفاضات انتصاراً كلياً، وتحول مجتمعاتها إلى مجتمعات ديمقراطية تعددية تداولية تحترم معايير الدولة الحديثة وحقوق الإنسان، أسوة بالثورات الثلاث المشار إليها آنفاً التي احتاجت لسنوات طويلة حتى استقرت على صيغ معينة.

ذلك لأن عصر تلك الثورات هو غير عصرنا وظروفها غير ظروفنا، فقد قصرت الثورة التقانية وثورة الاتصال والمعلوماتية الزمن والمسافات، وعمقت التواصل بين أبناء المجتمع. وما كان يحتاج لسنوات كي يتحقق أصبح يمكن تحقيقه بفترة أقل بما لا يقاس.

أخيراً، بقي أن أشير إلى أن الانتفاضات العربية استنّت أسلوباً جديداً في نضالها نادراً ما شهدته المجتمعات الأخرى من قبل، وهو الانتفاضات السلمية الني تعتمد على الحشد الجماهيري وتستبعد الأساليب العنفية. لولا أن بعض الأنظمة العربية التي قامت ضدها استخدمت العنف والسلاح، مما أدى إلى عنف مقابل وإلى تحول بعض هذه الانتفاضات السلمية إلى انتفاضات عنفية ودموية.

البيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى