انتهازية ساذجة/ مروان قبلان
في تعليقه على اتهامات بتورّط بلاده في الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال أوغستو بينوشيه في تشيلي ضد حكومة الرئيس المنتخب سلفادور أليندي عام 1973، رد وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، مستغرباً: “من الساذج الذي يعتقد أن الولايات المتحدة ستحترم العملية الديمقراطية في بلدٍ اختار شعبه أن يصبح شيوعياً؟”.
خلال عقود الحرب الباردة الأربعة (1946-1989)، دعمت الولايات المتحدة انقلاباتٍ عسكرية أحياناً، وساندت حركات تمرّد ضد حكومات منتخبة أحياناً أخرى. المثال الأبرز ترتيب المخابرات المركزية الأميركية الانقلاب الذي قاده وزير الداخلية الإيراني الجنرال فضل الله زاهدي عام 1953، وأطاح فيه رئيس حكومته المنتخب، محمد مصدق، وأعاد الشاه إلى الحكم. نتيجة تلك العملية، حوّلت الولايات المتحدة إيران، عبر نسج علاقات وطيدة مع مؤسستها العسكرية، إلى وكيل إقليمي (Client State) في سياق مواجهتها الكبرى مع موسكو.
من غير المحتمل أن تكون إدارة الرئيس باراك أوباما متورطةً في محاولة الانقلاب التركية. ولا يعدّ أداؤها المرتبك حيالها دليلاً على أنها متورّطة، ليس فقط لأن الحرب الباردة، حيث كانت النخب الأميركية (السياسية والفكرية) مسكونةً بهاجس هزيمة الشيوعية، فكراً وسياسة، قد انتهت، وأن ما تفعله روسيا اليوم لا يعدو محاولةً للحصول على معاملةٍ من الولايات المتحدة أكثر احتراماً، وليس لأن الرئيس أوباما أقلّ انتهازيةً ومكيافيليةً من كيسنجر، وغيره من ساسة حقبة الحرب الباردة، بل لأن أوباما لا يقل انتهازيةً من المستبعد أن يكون متورطاً. فوق ذلك، لو كانت واشنطن متورطةً لربما كانت المحاولة الانقلابية أقلّ بدائيةً، ولربما كانت حظوظ نجاحها أكبر.
واقع الأمر أن الرئيس أوباما، في آخر أيام إدارته، لا يبدو منشغلاً بشيء أكبر كثيراً من حدود تفكيره “الاستراتيجي” الذي خبرناه في سنوات حكمه الثماني، وجعل فيه تنظيم الدولة الإسلامية الشغل الشاغل لقوة عسكرية واقتصادية وتكنولوجية، بحجم الولايات المتحدة. ضرب الاستقرار في تركيا لا يخدم هذه المصلحة، ولا يحقق لأوباما هدفه في القضاء على هذا التهديد “الاستراتيجي”، قبل أن ينهي ولايته. صحيح أن علاقته بالرئيس أردوغان غلب عليها التوتر في السنوات الأخيرة، بسبب السياسة الأميركية في سورية، واعتماد الأكراد حلفاء لها، لكن واشنطن برهنت، في كل مرة، أنها لا يمكن أن تستبدل دولةً بحجم تركيا وأهميتها بحليف مرحلي ومحلي، تم تجنيده للقيام بمهمةٍ محدّدة على الأرض.
ويدرك الرئيس أوباما الذي جاء إلى السلطة، يحدوه الأمل بطي صفحة صراعات طويلة معلقة من أيام الحرب الباردة (إيران وكوبا وفيتنام)، كم سممت إطاحة مصدّق العلاقات بين واشنطن وطهران، وكيف أن هذه القضية ما زالت، بعد ستين عاماً، حيّة في ذاكرة العلاقة المعقّدة بين الطرفين. هل يعقل حينها أن ينهي أوباما عهده “بخطيئةٍ” مثل التي ارتكبها آيزنهاور في بلدٍ لا يقل أهمية اليوم للمصالح الأميركية عما مثلته إيران في عزّ الحرب الباردة.
مع ذلك، ربما تكون هذه الإدارة التي نأت بنفسها عن المحاولة الانقلابية الفاشلة، بسلبيتها وسوء إدارتها الأزمة، قد وصلت إلى النتيجة التي كانت تخشاها، أي خسارة ثقة حليفٍ بحجم تركيا وأهميتها، فهي، وإن كانت غير متورطة في الانقلاب، فعلى الأرجح، علمت به، كما علمت به المخابرات الروسية (أخذاً بالاعتبار حجم التورّط الكبير لجنرالات الجيش)، لكن إدارة أوباما اختارت، كعادتها وبعكس روسيا، أن تبقى في موقع المراقب، بانتظار اتضاح هوية المنتصر في الصراع.
وتشير تسريباتٌ عن أنقرة إلى أن الدولة التي استحقت شكر الحكومة التركية على مبادرتها بالكشف عن المحاولة الانقلابية، قبل ساعاتٍ من وقوعها، لم تكن سوى روسيا التي بادرت مخابراتها إلى الاتصال بنظيرتها التركية، تحذّر من محاولةٍ انقلابية، الأمر الذي دفع الانقلابيين إلى تقديم موعد تحرّكهم إلى مساء الجمعة، بدلاً من فجر السبت، ما ساهم في إفشال مخططهم. وبذلك، كسب الرئيس بوتين صديقاً، كان حتى الأمس في خلافٍ مرير معه، في حين خسر الرئيس أوباما، بسلوكه مسلكاً انتهازياً ساذجاً، ثقة حليفٍ، له مصالح كبرى معه.
العربي الجديد