انشقاق المعارضة السورية: من «إعلان دمشق» إلى “هيئة التنسيق”/ محمد سيد رصاص
كان «إعلان دمشق» (16 تشرين الأول 2005) من أكبر التجمعات السورية المعارضة في مرحلة ما بعد 8 آذار 1963، ومن أكثرها تنوعاً في أطيافه الليبرالية والإسلامية الإخوانية والعروبية الناصرية والماركسية، التي اجتمعت مع أحزاب كردية سبعة دخلت لأول مرة في تحالف يتجاوز الإطار الكردي. ما جمع هذه القوى المعارضة كان توقع حصول التغيير في دمشق في ظل التأزم الأميركي – السوري الذي تبع «أزمة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005» على غرار ما أنتج هذا التأزم، بدءاً من القرار 1559 (2 أيلول 2004)، تغييراً في بيروت مع انسحاب القوات السورية من لبنان في 26 نيسان 2005.
لم يحصل هذا التغيير في دمشق، واصطدمت تلك المراهنات بحائط ملامح تقارب أميركي – سوري في نهاية عام 2005، ولو كان محدوداً، أتى من إسهام دمشق في إقناع حلفائها في المقاومة العراقية بعدم عرقلة الانتخابات البرلمانية العراقية التي جرت لأول مرة في ظل الاحتلال الأميركي، ثم في بداية عام 2006 تحول سياسة «تغيير سياسات النظام السوري، وليس تغييره» إلى سياسة أميركية معلنة مع تصريحات لكوندوليزا رايس: أدى هذا إلى بداية تفجر الخلافات في «إعلان دمشق» بين الطرف الناصري – الماركسي وبقية أطراف الإعلان (ما عدا الحزب اليساري الكردي). في «البيان التوضيحي» الصادر يوم 31 كانون الثاني 2006 جرت محاولة لتجسير الهوة بين الطرفين من خلال نص جديد بالقياس إلى النص التأسيسي، تحدث عن «أن الأخطار التي تتعرض لها سورية متعددة ومتنوعة… تتمثل أساساً في مشاريع الهيمنة والسيطرة الأميركية والصهيونية على المنطقة، وفي الاحتلال الأميركي للعراق والنتائج المترتبة عليه»، كذلك يتجاوز النص عبارة «المنظومة العربية» الواردة في النص التأسيسي إلى عبارة «إن سوريا جزء عضوي من الأمة العربية». ويحاول أيضاً تلطيف ما ورد في ذلك النص حول «المكون الثقافي الأبرز» و«دين الأكثرية». خلال شهر من ذلك اعتبرت افتتاحية جريدة «الرأي»، وهي ناطقة باسم «حزب الشعب الديموقراطي» أنّ «البيان التوضيحي» هو «خطوة إلى الوراء»، كذلك أُقيل ممثل هذا الحزب، أي جورج صبرا، في قيادة الإعلان واستُبدل به شخص آخر في شهر آذار 2006. في الأسبوع الأول من شباط 2006 قام مراقب جماعة الإخوان المسلمين علي البيانوني، بخطوة ابتعادية عن «الإعلان» من خلال الالتقاء في بروكسيل مع نائب رئيس الجمهورية المنشق عبد الحليم خدام أنتجت في ما بعد تحالفاً سياسياً تمثل في «جبهة الخلاص» التي أعلن تأسيسها يوم 5 حزيران 2006. لم يستأذن البيانوني أو يتشاور مع قيادة «الإعلان»، لكن عندما بعث البيانوني بعد اللقاء يستشير قيادة الإعلان ممثلة في «اللجنة المؤقتة»، قام رياض الترك بمنع جورج صبرا، الذي كان الصلة عبر «الإيميل» بين البيانوني وقيادة الإعلان، من إبلاغ الأخيرة برسالة البيانوني الإلكترونية، وهو ما دفع «اللجنة المؤقتة» إلى إصدار بلاغ في 20 شباط بخصوص لقاء البيانوني – خدام تعلن فيه «أن لا علاقة لإعلان دمشق كهيئة اعتبارية بذلك اللقاء، وهو يعني أصحابه فحسب»، في خطوة تفجيرية للتحالف من الترك لما وضع قيادة الإعلان في المجهول لا تعرف شيئاً عما يفعل أحد مكونات الإعلان، وهي بالوقت نفسه لا يمكن عزلها عن اتجاه للرد من قبله على من ضغط من أجل «البيان التوضيحي»، كذلك فإنها تجعل البيانوني طليق اليدين في استكشاف ممكنات التعامل مع نائب الرئيس المنشق والمدعوم من باريس والرياض.
لم ينفجر «إعلان دمشق» يومها، ولكن عاد الغليان الذي كان طوال الشهر الأول من عام 2006، لما كانت المجابهات أثناء تشكيل «البيان التوضيحي». في أثناء حرب تموز من ذلك العام تشظى «إعلان دمشق» في موقفين متضادين بين ناصريي (حزب الاتحاد الاشتراكي) وماركسيي (حزب العمل الشيوعي) من جهة، الذين أيدوا حزب الله في حربه ضد إسرائيل عبر «بيان إلى الأمة» موقّع منهما في 2 آب، وبين «حزب الشعب الديموقراطي»، الذي أصدر بياناً في 17 تموز رأى فيه أن الحرب أتت «على خلفية أسر جنديين إسرائيليين… في إطار تصاعد وتيرة الصراعات الإقليمية وأهداف ومصالح اللاعبين فيها، وهي تجعل من لبنان ساحة للصدام والمواجهة في حرب مفتوحة قد تفضي إلى تداعيات ونتائج تتجاوز الساحة اللبنانية وتدخل المنطقة في المجهول…». ويتابع البيان أيضاً ربط مقاومة حزب الله بموقع فئوي لبناني وليس إجماعي، ويربطها كذلك بموقع اقليمي: «المقاومة حق مقدس وليس استفراداً بالقرار من قبل طرف أو فئة، يجر البلاد إلى مصير مجهول خدمة لمشاريع إقليمية تتخطى المصالح الوطنية للشعوب وتهدد مستقبلها». وهي مسافة قطعها حزب سوري تجاه حزب لبناني كان في مواجهة حربية مع إسرائيل لم تتجرأ على قطعها جماعة 14 آذار اللبنانية في زمن حرب الثلاثة وثلاثين يوماً، ولو أنها عبّرت عن الرأي ذاته بعد أشهر وسنوات من انتهائها.
كان من الواضح عبر هذين البيانين المتضادين من داخل «إعلان دمشق» أن الأخير عربة يقودها حصانان هما في اتجاهين متضادين، وأن هناك رؤية متعاكسة عند الطرفين للعالم الدولي، وخاصة لأميركا، التي أتت للشرق الأوسط عبر جيشها المحتل للعراق، والتي اعتبرت أن حرب تموز «آلام مخاض ضرورية لولادة الشرق الأوسط الجديد»، الذي طرحته واشنطن كمشروع في 13شباط 2004 بعد عشرة أشهر من سقوط بغداد. كان من الواضح غلبة الرأي الليبرالي ــ الإسلامي في نص 16 تشرين الأول 2005، فيما كان هناك انزياح نسبي لمصلحة الطرف الناصري – الماركسي في نص 31 كانون ثاني 2006 قبل أن تأتي حرب تموز وتظهر تباعدهما السياسي وانشقاقهما في خندقين من حيث المواقف تجاه حدث مفصلي هزّ العالم والإقليم والداخل السوري.
أدى هذا إلى أجواء انفجارية لـ«إعلان دمشق» في الكواليس الداخلية، وإلى نشوء أوضاع متوترة في الحياة المؤسساتية للهيئات القيادية، وهو ما انعكس على تحالف «التجمع الوطني الديموقراطي» الذي دخل «الاتحاد الاشتراكي» و«حزب الشعب» من خلال مركبه إلى «إعلان دمشق» ووقّعا عبره إعلانَ يوم 16 تشرين الأول 2005. في حزيران 2007 ضغط «الاتحاد» من أجل انضمام حزب العمل الشيوعي إلى «التجمع»، وهو ما نجح فيه ضد رياض الترك الذي وقف سداً ضد هذا الانضمام منذ آذار1980، كذلك إن انضمام «العمل إلى الإعلان بعد أيام من تأسيسه كان موضع احتكاك بين رياض الترك وحسن عبد العظيم. في يوم 4 تموز 2007 طفت الأجواء الانفجارية إلى السطح على صعيد قيادة «إعلان دمشق» إثر حضور رياض الترك ورياض سيف حفل السفارة الأميركية في دمشق بمناسبة يوم الاستقلال الأميركي. خلال فترة آب – تشرين الثاني 2007 تحولت هذه الأجواء الانفجارية إلى معركة تمحورت حول الورقة السياسية التحضيرية لـ«المجلس الوطني لإعلان دمشق»: تركزت الخلافات وانطلقت ودارت حول عبارة «الوقوف ضد المشروع الأميركي للهيمنة على المنطقة»، أو إدانته: رفض الطرف الليبرالي، ممثلاً في «حزب الشعب» و«لجان احياء المجتمع المدني»، ومستقلين مثل رياض سيف، إضافة هذه العبارة إلى مشروع الورقة السياسية التي كان مقرراً أن تصبح البيان الختامي، وقاومه بضراوة، ضد «الاتحاد الاشتراكي» و«حزب العمل». كانت عواطف الأحزاب الكردية ومواقفها، ما عدا الحزب اليساري الكردي، مع الطرف الأول. اختار رياض الترك وحشد وخطط من أجل أن تكون الجلسة معركة حسم ضد التيار الآخر، مستعملاً سلاح ضم أعضاء مستقلين معظمهم من الليبراليين الجدد أو إسلاميين إلى عضوية المجلس، الذي كان مقرراً أن يكون مؤتمراً موسعاً للإعلان ينتخب مؤسساته القيادية، بدلاً من أن يكون إطاراً تحالفياً تعيّن قيادته عبر إطار تمثيلي للأحزاب المنضوية فيه. انطلى هذا على قيادة «الاتحاد الاشتراكي» لما تم وضعها في معركة انتخابات، مع انعقاد «المجلس الوطني لإعلان دمشق» في 1 كانون الأول 2007، جرى فيها إسقاط حسن عبد العظيم وعبد المجيد منجونة والقيادي في حزب العمل صفوان عكاش، عبر كتلة تصويتية اجتمع فيها تكتل ليبرالي – إسلامي – كردي (الشيء الذي كشفه في ما بعد بعض قيادات الأحزاب الكردية عن الاتفاق المسبق على قائمة جاهزة من أربعة عشر اسماً)، وهو ما تزامن، وربما أتى نتيجة تنظيمية لغلبة سياسية لهذا الفريق في عدم تضمين البيان الختامي تلك العبارة المضادة للمشروع الأميركي للمنطقة التي دار القتال عليها لثلاثة أشهر في قيادة «إعلان دمشق».
كان 1 كانون الأول 2007 انفجاراً انشقاقياً في صف المعارضة السورية، ظل يحكم بمفاعيله مجمل عمل المعارضين السوريين حتى يومنا هذا من عام 2014. وظل يمنع إمكانية توحدها رغم المحاولات العديدة التي جرت عقب انفجار الأزمة السورية منذ 18 آذار 2011: خلال خمسة وثلاثين يوماً من هذا التاريخ قام «الاتحاد الاشتراكي» و«حزب العمل» بـ«تجميد النشاط في إعلان دمشق ومؤسساته القيادية والفرعية»، واتجها مع أحزاب أخرى (مثل تلك المنضوية في «تجمع اليسار الماركسي – تيم»، الذي تأسس في 20 نيسان 2007 وضم أحزاباً وقوى خمسة، من ضمنها حزب العمل والحزب اليساري الكردي، أو مثل الحزب الديموقراطي الكردي (البارتي) بقيادة نصر الدين إبراهيم، وعشرات الشخصيات العروبية والماركسية والكردية) نحو بلورة «مشروع وثيقة توافقات من أجل بلورة وتنظيم التيار الوطني الديموقراطي» ليكون «خطاً ثالثاً» بعيداً عن خطي السلطة و«إعلان دمشق» يجمع حدي «الوطنية» و«الديموقراطية». جرى الاجتماع الأول في بيت الأستاذ فاتح جاموس في بسنادا – اللاذقية يوم الجمعة 11 كانون الثاني 2008 وحضره خمسون شخصاً من مندوبين لأحزاب ومن شخصيات مستقلة، واستمرت عملية بلورة الوثيقة في ثلاثين اجتماعاً حتى تموز 2010، لكن لم تُوقَّع، وإن كانتا، في قوامها كنص وفي من قام بتشكيلها، الإرهاص الجنيني (ولو مع توسيعات منها نوعية مثل حزب «الاتحاد الديموقراطي» الكردي) لـ«هيئة التنسيق» التي أُعلن قيامها في 30 حزيران 2011 بعد ثلاثة أشهر من بدء الأزمة السورية.
سار «إعلان دمشق» في مسار ثانٍ: اجتمع أشخاص، قريبون منه أو محسوبون عليه، مع الرئيس الأميركي بعد أيام قليلة من مجلس 1 كانون الأول 2007، وهو ما أسهم ربما في الاعتقالات التي جرت بعدئذ لقيادات الإعلان. في 23 كانون الأول 2007، في مقابلة مع وكالة «قدس برس» قام رياض الترك بشكر «الرئيس جورج بوش على تضامنه مع شعبنا وأدعو أن يكون جوهر تدخله في المنطقة مساعدة الحركات الديموقراطية لتصبح قوة داخلية للتغيير الديموقراطي». لم يقم جورج بوش بذلك، بل بدأ يدفع ويشجع باريس وأنقرة والدوحة على الانفتاح على دمشق، قبل أن يبدأ باراك أوباما في عامي 2009 – 2010 بانفتاح مباشر على السلطة السورية: تساوق «إعلان دمشق» مع الانفتاح الفرنسي وفي أسبوع زيارة ساركوزي لدمشق، أصدرت «الأمانة العامة لإعلان دمشق» في 5 أيلول 2008 بياناً أعلنت فيه «أن إعلان دمشق لم يكن في نهجه وليس من أهدافه تعزيز عزلة النظام ومحاصرته، بل نحو انفتاح النظام على الشعب السوري قبل أو بالتزامن مع انفتاحه المطلوب على العرب والعالم». أيد البيان المفاوضات السورية – الإسرائيلية غير المباشرة برعاية تركية – فرنسية، ووصف الطروحات التي تدعو لـ«اللاحرب واللاسلم» منذ حرب 1973 بأنها «طروحات تصوغها الكيدية والمزايدة والهروب». مع انفتاح أوباما على دمشق، قال رياض الترك في مقابلة مع «رويترز» يوم 31 أيار 2009 إن «جهود الولايات المتحدة لتحسين الروابط مع دمشق ربما تخدم الاصلاح الديموقراطي… وكذلك تقوض ما وصفه بأنه تحالف غير مقنع بين سوريا وإيران».
جرت محاولة لالتقاء ضفتي المعارضة السورية يوم 10 كانون الثاني 2010 عبر إصدار بيان مشترك بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، وفشلت. دخلت المعارضة السورية عام 2011، الذي شهد شهره الأول ولادة ما سمي «الربيع العربي»، وهي منقسمة ومتشظية.
* كاتب سوري