انها الحرية ايها الناس
الياس خوري
هل يستطيع النظام السوري ان يطوي صفحة الانتفاضة الشعبية بالعنف؟ هذا على الأقل ما يعتقده قادة الأجهزة الأمنية، الذين حولوا الاحتجاجات السورية الى مسرح دموي وحشي، وجعلوا من مدينة درعا، عاصمة حوران، مدينة شهيدة.
الرهان الوحيد الذي يمتلكه النظام هو القمع. بعد تصريحات بثينة شعبان، على ما فيها من تشاطر وادعاءات اصلاحية، انتهى الكلام. الرئيس السوري تكلم مرتين، لكنه في المرتين صمت عن الموضوع، مقدماً صورة لنظام لا يمتلك سوى ان يلعب ورقته الأخيرة، مغرقا سورية في الدم.
كان يمكن لخطة النظام ان تنجح لو كان في مواجهة مع تيار سياسي محدد، اذ يستطيع ان يؤبلس هذا التيار، محيداًً الأكثرية الشعبية، ما يسمح له باستخدام القبضة الحديد، وهذا ما حصل في حماة عام 1982.
لكن المشكلة ان النظام يواجه ثورة متشعبة تضمّ اطيافاً سياسية متنوعة، كما تتشكل اغلبية المشاركين فيها من مواطنين عاديين، لم يسبق لهم التعاطي في الشأن السياسي، ولا يعرفون معنى المناورات السياسية، لأن مطلبهم ليس سياسياً، فهم يطالبون بالكرامة والحرية، اي بالشرطين اللذين من دون توفرهما لا وجود للسياسة ولا معنى لها.
النظام الذي بنى قبضته على وأد الحرية وشطب كرامة الناس، اعتاد على مجتمع لا يتعاطى الشأن السياسي، فتدجين الشعب ومحوه هو شرط فصل السياسة عن المجتمع، وشرط نظام الاستعباد المديد، الذي بنته جميع الديكتاتوريات العربية.
لذا فوجىء النظام بالانتفاضات المتلاحقة التي عمت المدن والمناطق السورية المختلفة. وبدأت مفاجأته في درعا، حين لم يجد امامه سوى مجموعة من الفتيان الذين كتبوا شعارات على الحيطان تطالب بالحرية واسقاط النظام.
لم تكن ردة فعل الأجهزة الأمنية مفاجئة، فهذه السلطة تبدأ في تعاملها مع الشعب من النهاية. لذا كان من الطبيعي ان يتم تعذيب الفتيان وضربهم واقتلاع أظافرهم والى آخره… وعندما تحرك اهل الفتيان مطالبين باطلاق سراح اولادهم، اطلق رجال الأمن النار، وقتلوا من قتلوا.
حتى الآن كل شيء طبيعي، الكي آخر الدواء، وفي العادة حين تواجه السلطة الناس بالكي، تنتصر، وتعطي الجميع درساً في بلاغة القمع.
ما بدا وحشية مفرطة، هو جزء من ممارسات النظام اليومية، ولم يكن هناك من داعٍ لكل هذا الضجيج، سورية محكومة منذ اربعة عقود بهذا الأسلوب الذي اثبت نجاعته، وجعل النظام يعتقد انه باقٍ الى الأبد والى ما بعد الأبد ايضاً.
في جميع مواجهاته السابقة مع المعارضة استخدم النظام اسلوب الكي. ومن لا يصدق فليعد الى كتابات فرج بيرقدار او مصطفى خليفة او شهادة ياسين الحاج صالح عن اعوام السجن.
نجح النظام في استنباط معادل دائم لمجزرة حماة اسمه سجن تدمر الرهيب، هكذا تم كسر عظم المعارضات السورية المختلفة سواء اكانت يسارية ام ديمقراطية ام اسلامية، واخرج المجتمع من السياسة، عبر عزل المناضلين السياسيين والعقائديين في الزنازين.
غير ان ما اعتقده قادة النظام تمرداً سياسياً يمكن معالجته على الطريقة القديمة، اتخذ شكلاً جديداً وغير مألوف. وهذه هي السمة الرئيسية للثورات الشعبية التي تجتاح العالم العربي. غير المألوف هو ابتعاد الثورات عن الشعارات السياسية المباشرة، لتؤسس مكانها في البنية الأخلاقية التي هي شرط السياسة. ان التركيز على الحريات العامة ورفض الذلّ والدعوة الى اسقاط الأنظمة، اثارت حيرة الأنظمة بقدر ما اثارت ارتباك النخب الثقافية.
الأنظمة عجزت عن الرد، وبدأت تتخبط في محاولة اجتراع الحلول، تغيير الحكومات، الوعود، اعلان الغاء حالة الطوارئ… تنازلاتها لم توقف المدّ الشعبي، بل على العكس زادته اشتعالاً، فأسقط في يدها. رحل النظامان التونسي والمصري بسلام نسبي، لأن المؤسسات الوطنية: الجيش، القضاء…، وعت ان المحافظة على الدولة اكثر اهمية من حماية نظام يتداعى. اما حيث نجح النظام في سحق المؤسسات الوطنية فلقد ادخلت البلاد في اتون حرب اهلية استدعت تدخلات خارجية كما في ليبيا.
اما النخب الثقافية فقد تملكتها الحيرة امام غياب الشعارات السياسية، كغياب شعار اسقاط كامب دايفيد في مصر، وخرجت بعض التأويلات التي تقول بأن هذه الثورات تدلّ على ان المسألة الداخلية طغت على البعد القومي.
كما فشل النظام في قراءة دلالات الثورة، كذلك فشل الفكر التقليدي في فهم معانيها. فالثورات العربية بدأت من مكان آخر وغير تقليدي. كان اشتعالها في تونس ومصر وسورية ردات فعل اخلاقية على محاولة الأنظمة الغاء الأخلاق وتحطيمها. من البوعزيزي الى خالد سعيد وصولا الى فتية درعا، انتفض الناس لكراماتهم. لم يعد الخطاب السياسي التقليدي يعني لهم شيئاً. فهم لا يختلفون مع النظام السوري على ما اطلق عليه اسم الممانعة، بل يختلفون معه على شرط الممانعة وشرط مقاومة الاحتلال الاسرائيلي. وهم في مصر اصيبوا بالذهول من الانحدار المريع لمكانة وطنهم، وفهموا ان انحدار مكانة المواطن هي شرط انحدار مكانة الوطن.
اي ان الثورة غيرت ساحة الصراع مع النظام، فهي لا تطلب منه شيئاً. انظمة بنت سطوتها على الأمن والقمع، لا تُطلب الحرية منها، بل تؤخذ الحرية ضدها.
وجد النظام نفسه عاجزاً عن تلبية المطالب، حتى الحوار الذي بدأه عمر سليمان مع احزاب المعارضة المصرية كان بلا جدوى. لأن تلك الأحزاب التي شرعنها النظام لم تفهم موضوع الثورة، فأعتقدت انها امام صراع تقليدي وقدمت مطالبها. فما كان من ميدان التحرير الا ان قام بتكنيسها مع النظام الذي سقط.
هذا الانقلاب الكبير في المفاهيم السياسية هو المعطى الجديد الذي تقدمه الثورات العربية، وهو معطى مؤهل لتأسيس نهضة عربية جديدة تستعيد روح النضال من اجل الحرية مثلما صاغتها النهضة الأولى في بداية القرن الماضي.
وحين يستعيد العرب حريتهم، فانهم يستعيدون قضاياهم، وهذا ما لم يفهمه احد غير اسرائيل التي تنظر بريبة وقلق الى التغيير العربي وتشعر ان ايام سطوتها باتت معدودة.
المأزق الذي يبدو اليوم في سورية مع اشتداد آلة القمع ليس مأزق الشعب الثائر بل مأزق النظام، صحيح ان التضحيات كبيرة جداً، وتثير الدهشة والاعجاب والتماهي، لكن الشعب الذي كسر جدار الخوف، واعلن قطيعته مع النظام لا يستطيع التراجع. اما النظام فقد فشل في حملته لأبلسة الانتفاضة واتهمها بالسلفية، ففقد قدرته على عزل الثورة عن الشعب، ولم يعد امامه سوى الدم الذي لن يكون سوى اعلان نهايته.