باراديغم ياسين الحاج صالح/ شادي لويس
نشر موقع “الجمهورية”، يوم الجمعة الماضي، مقالاً لياسين الحاج صالح، بعنوان “الباراديغم السلفي الجهادي وهيمنته“. توسل صالح، في مقاله، مفهوم الباراديغم الذي صكه مؤرخ العلوم، توماس كون، مطلع الستينات، لتحليل انتشار السلفية الجهادية في سوريا في وقت قياسي. يعرّف كون، الباراديغم، بوصفه نموذجاً إرشادياً من النظريات والأفكار والقوانين والإفتراضات والممارسات التي تحدد طرق معرفتنا بالإسئلة العلمية، ووسائل فحصها، وطرق تفسير نتائجها. وبحسب كون، فإن حدوث الثورة العلمية يقترن بتداعي الباراديغم المهيمن نتيجة أزماته الداخلية، وبزوغ باراديغم بديل له، أكثر صلاحية وقدرة على تقديم تفسيرات للأسئلة التي عجز سابقه عن إجابتها.
وينفي صالح إن تكون استعارته لمفهوم ينتمي إلى مجالي تاريخ وفلسفة العلوم الطبيعية، كإطار لتفسير ظاهرة سياسية وإجتماعية، أمراً إشكالياً، بقوله “إن تاريخ المفاهيم هو تاريخ ترحلها من مجالها الأصلي إلى غيره”، وهو أمر لم يجانبه الصواب في الاستشهاد به. إلا أن معضلة استعارة المفاهيم خارج حقولها المعرفية الأصلية، لا تكمن في إمكانية هجرتها وإقامتها في مواطنها الجديدة، بل بالأحرى في جدوى هذه الاستعارة، ومواءمتها لأهدافها، وضرورتها، ومنطق الحاجة لها. فهل، عن حق، يحمل مفهوم “الباراديغم” فرادة، تستدعي عناء تشذيبه وتوظيفه لاستكمال تحليل ظاهرة كصعود السلفية الجهادية في سوريا؟ وهل يطرح ذلك المفهوم ما تعجز عن تقديمه مفاهيم العلوم السياسية والإجتماعية والتحليل التاريخي، مما يستوجب توسله لإجابة أسئلتها المستعصية عليها؟
في مقدمة كتاب “بنية الثورات العلمية”، يقرّ كون بأن صياغته لمفهوم “الباراديغم” كانت تحديداً بهدف الفصل بين العلوم الطبيعية، والعلوم الإجتماعية، مضيفاً بأن العلوم الإجتماعية لا تحوي ولا يمكن لها أن تحوي “باردايغماً”. هكذا يؤكد كون نفسه، بأن مفهومه قابل للتطبيق فقط وحصراً في نطاق تاريخ العلوم الطبيعية، وإن تمديده ليشمل حتى تاريخ العلوم الإجتماعية – ودعك من الظواهر المعنية بدراستها – محكوم عليها بالفشل. لم تستدعِ حصرية كون تلك، نبذاً لمفهومه من قبل العلوم الإجتماعية بالضرورة. فبالفعل، تم استيعاب “الباراديغم” داخل فلسفة العلوم الإجتماعية وتاريخها، وصك مفهوم “باراديغم العلوم الإجتماعية” في مطلع الثمانينات، ليتمدد لاحقاً ويشمل موضوعات بحثها. لكن ذلك التوسع في الإستخدام، قابَله نقد قاس على مستويين. فعلى مستوى فلسفة تاريخ العلوم، انتُقدت نظرية كون بوصفها خرافة تاريخية، تفترض مساراً تطورياً داروينياً للتاريخ، يحكمه المنطق المجرد ذاتي التسيير، حيث تحل البراديغمات الأكثر صلاحية محل سابقتها التي أضحت عاجزة عن أداء وظيفتها. لم يتركز النقد فقط على طوباوية وتفاؤلية تفسير كون للثورات العلمية، بل امتدت للتشكيك في حدوث تلك الثورات أو الإحلالات البراديغيمة المفاجئة بالأساس.
على مستوى آخر، خضع استيعاب المفهوم، داخل العلوم الإجتماعية، بوصفه مرادفاً لمفهوم “الرؤية الكونية”، لإنتقادات شديدة، منبعها إفتقاد “البراديغما” لعلاقات السلطة-المعرفة، والطبقة، والإستغلال، والهيمنة، والمقاومة وغيرها شديدة الإتصال بموضوعات العلوم الإجتماعية والسياسية، واختزالها جميعاً في ميكانيكية الإحلال، شديدة التجريد، في الوقت الذي لا تفتقد فيه العلوم الإجتماعية وفلسفتها إلى مفاهيم أكثر ثراءً وديناميكية. أي، وفي حالتنا هذه، ألم يكن مفهوم الإيديولوجيا عند ألتوسير، أو الخطاب لدى فوكو، أوالرؤية الكونية لفيلهلم ديلتاي أكثر مواءمة وصالحية، لفحص ظاهرة كالبنية الفكرية للسلفية الجهادية، بدلاً من عناء تشذيب مفهوم الباراديغم العلمي؟
لا يهدف سؤالي السابق إلى جعل محاولة صالح، الجديرة بالاعتبار، في موضع مغالطة، بل على العكس، الهدف هو لفت الأنظار إلى دلالات تلك المشقة الإضافية التي تحمّلها في سبيل التجوال خارج التخوم المفاهمية المعتمدة، ومساراتها المطروقة. يواجه مثقفو المنطقة، ومن بينهم صالح، أزمة تراكمات عجز العلوم الإجتماعية والسياسية وفلسفتها، عن تفسير وفهم الواقع المأساوي لبلادنا ومجتمعاتنا، وعن التنبؤ بمالآت مستقبلها، وقصورها عن إنتاج معرفة قابلة لأن تترجم في صورة برنامج للفعل السياسي. هكذا، يجد المثقفون العرب أنفسهم، أمام خيار الانصراف عن الشأن العام، في شقّه السياسي، أو البحث عن أدوات ومفاهيم وأطر بديلة للتصدي لمأساتهم الفردية والجماعية، رغبة في إضفاء معنى أو منطق عليها. تبدو، في النهاية، مقالة صالح عن الباراديغم، كإعلان متأخر عن سقوط باراديغم العلوم الإجتماعية الحالي، وعجزه عن إجابة معضلات المنطقة، وإن كان لنا أن نكون أقل تفاؤلاً من توماس كون، فذلك الموت المعلن لا يعني بالضرورة ميلاد باراديغم بديل.
المدن