صفحات الثقافة

بحثــــاً عــــن بدايــــة


عباس بيضون

أن تكتب رواية عربية، أن تكتب قصيدة عربية، أن ترسم لوحة عربية، أن تقدم مسرحاً عربياً أن تؤلف موسيقى عربية ناهيك عن أن تؤلف في الفلسفة العربية وعلم النفس العربي وعلم الاجتماع العربي. هنا بالنسبة لكثيرين هزل خالص فهناك روايات يكتبها عرب لا رواية عربية، وهناك قصائد يكتبها شعراء عرب لا قصيدة عربية، وهناك مؤلفات موسيقية لعرب لا موسيقى عربية ناهيك عن أن هناك شروحاً لجوانب من علم النفس لا علم نفس عربي، وهناك شروح لبعض مناحي علم الاجتماع لا علم اجتماع عربي وعلى هذا فليس هناك علم لغة عربي ولا نقد أدبي عربي ولا نقد موسيقي أو مسرحي أو سينمائي، لا نستطيع أن نقول هذا عن الثقافة الفرنسية أو الانكليزية الأميركية فثمة هنا بالتأكيد أدب ونقد وفنون وعلوم إنسانية يمكننا نسبتها كلها إلى ثقافات بعينها، فيما أن ما يؤلفه الغرب وما يصنفونه ينسب إلى منظومة عالمية ولا ينسب إلى الثقافة العربية فهذه جمع ورصف لنصوص وأعمال لا يمكن أن نجد لها صفة جامعة أم روحاً واحداً أم عقلاً خاصاً، بل لا يمكن نسبتها إلى سابق عربي أو مراجع عربية فهي منسوبة إلى سابق عالمي ومراجع عالمية، وباختصار فإننا لا نستطيع بالقدر نفسه أن نتكلم عن ثقافة عربية وإذا عنّ لنا أن نبحث عن هذه الثقافة وجدناها في التاريخ وفي التراث.

يمكننا أن ننسب طه حسين إلى الاستشراق الغربي ونجيب محفوظ إلى الواقعية الروسية أو الفرنسية والجزار إلى الفن السيريالي وعمر انسي إلى الانطباعية وأدونيس إلى الشعر الفرنسي ويمكننا أن ننسب بالطريقة نفسها إلى التجريد ومسرح العبث وسوى ذلك، وليس في هذا كله مسمى عربي واحد. فالكتاب والفنانون العرب لا يرثون بعضهم البعض انما يرثون اعلاماً في الثقافة العالمية، ويرثونهم بدون مناسبة واضحة وبدون توقيت محدد أو بتأخر واضح عن ظروفهم وأوقاتهم. الرومانسية العربية نشأت مع غروب الرومانسية والسيريالية العربية هلت مع غروب السيريالية والتجريد العربي تواقت مع غروب التجريد. وإذا سعينا إلى التماس شيء عربي في كل ذلك قلنا أنه التأخر وهو تأخر عن الزمن فالمدارس والتيارات تنشأ عندنا في غير وقتها وبعد أن غدت باطلة أو شبه باطلة.

الحقبة الحديثة من تاريخنا السياسي والثقافي متصلة اتصالاً وثيقاً بمسألة الهوية. من هو العربي كان سؤال الفكر القومي ولم يكن الجواب من الحاضر، فالحاضر بالنسبة للعرب لا يعول عليه في شيء، الحاضر لا قيمة له إلا في التسلسل الكرونولوجي. انه موجود فقط بالنسبة للماضي. لكنه زمن لا يُعتد به ولا ينتسب إليه، فالعرب كانوا في يوم وانقطعوا عما كانوه وهم لم يعاودوا البدأ ولم يعثروا بعد على بدايتهم ولم يعرفوا من أين يبدأون، وقد يبدأون مجدداً من نقطة في الماضي، من ابن رشد كما نوه الجابري أو من ابن خلدون أو من المتنبي والمعري أو الواسطي، وقد يبدأون من ماركس الايديولوجية الألمانية او من ماركس رأس المال، وقد يبدأون من ماتزيني أو من بيسمارك. انها بدايات متفاوتة بل ومتضاربة، لكنها بحت مقترحات وإرشادات. اما الحقيقة فهي أننا لم نبدأ بعد ولن نبدأ كما يبدأ الآخرون من الحاضر، بل لن نبدأ من زمن محدد إنما نبدأ من عنصر عزلناه عن الزمن وجعلنا لا زمنياً. فالبدء من ابن رشد أو ابن خلدون ليس شيئاً آخر. والهوية عندئذ ليست طابع شعب أو طابع أمه، انها تلفيق من بداية يستحيل إدراجها مجدداً في نسيج الزمن. إذ لا يمكن لقوم لا يعرفون في أي زمن يعيشون ومن أين تتحدر إليهم صفاتهم ومكوناتهم، لا يمكن لهؤلاء أن يمتلكوا شيئاً لا بد له من كثافة زمنية وثقل تاريخي، بيد أن لهذا التحرر من الزمن نتائجه فالثورات التي تعمر اليوم بلاد العرب تنفجر بدون ارتقاب وبدون مقدمات وبدون تدرجات. انما هي صورة أناس يهبون في غفلة من الزمن وينشطون بعيداً عنه، فكل ما جرى وما يجري اليوم لم يسبقه أي حساب، فقد نهض العرب من بلادة مزمنة وسبات تاريخي وقاموا قومة واحدة. ذلك أمر لا نستطيع استجلاءه في سياق من تدرجات ومقدمات ونتائج. إنما هو لعب ليس للزمن فيه منطق محدد أو مفهوم، لعب يقرب من أن يكون ارتجالا أو لعباً حراً.

إذا أعدنا سؤال من هو العربي تبدى لنا أن الأجوبة التي تلقيناها على سؤال كهذا عبر الأيام، إنما هي أجوبة تعود إلى أبعد زمن ممكن، فالشهامة والكرم والضيافة والفروسية والطيبة، إنما هي صفات يغلب ردها إلى البداوة، والحال ان هذا التبدي (من البداوة) القديم الجديد هو كل ما يتبقى لنا، إذ لم يغلب على العرب، فيما نعلم، العقل أو الكدح أو النظام أو الترتيب أو الاقتصاد. إنما هي صفات تنسب في العادة لأقوام آخرين ليمتازوا بها عن العرب. نسبت إلى الفرس وتنسب إلى الأوروبيين في معرض التمايز والمقارنة، وإذا وقفنا بالهوية على هذه الصفات، بدا واضحاً أن ميزة هويتنا هو عدم استعدادنا لأي هوية، والتسامي بهذه الهوية إلى زمن أول هو في تخييلنا أول الزمن أو بدؤه. هكذا تفهم الأصالة عند العرب فهي القدم من أي وجه أتى، وهي استهلال للزمن ينتهي إلى لازمنية واضحة، وبالتالي فإن الهوية هي الرجوع إلى ما قبل الهوية.

نملك حاضرا لا نقرّبه ولا نعزو له وجوداً، ونملك لغة نجتهد لكي نخلصها من الحاضر ونردها إلى أول الزمن أو أول اللغة أو لغة ما قبل العالم. هذه اللغة الأم، التي هي خزانة الأصالة، تنحط في الزمن أو تنحط مع الزمن لتساوي الحاضر ولتكون مثله باطلة غير حاضرة. بيد أن اللعبة هي وحدها التي عاشرتنا وعاشرناها، وهي وحدها التي انتقلت معنا من أول الزمن، من الأصالة المخدوعة إلى الزمن الأجوف إلى التدهور الذي لا حساب له ولا ميزان، اللغة هي موروثنا الوحيد الحقيقي من زمن «الآلهة المهاجرة»، من زمن الأصالة البالية ومن أول الزمن، لكنها لم تعد تحمل السيف ولا تتجول في المضارب ولا تحيي الحج ولا تقري الضيف ولا تنهض بالشمائل الفروسية، انها لغة تبتئس معنا وتتبلد معنا وتقوم قومة واحدة وترتجل وتلعب بحرية وتثور بدون مقدمات وتسقط بدون مقدمات، انها نحن كما خرجنا من التاريخ وعرينا وتسوّلنا واستعرنا وتلبسنا خارج التاريخ، انها اسمنا الوحيد وربما إذا تكلمنا عن هوية قد تكون هويتنا.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى