بخصوص إعلان المجلس الوطني اﻻنتقالي
لا شك أنّ هناك الكثير من اﻻعتراضات والملاحظات والتحفظات التي يمكن طرحها بخصوص إعلان المجلس الوطني اليوم في العاصمة التركيّة أنقره، وقد تبدأ بالاسم الذي اختاره المبادرون للمجلس وتمرّ بلا منطقية إعلان أسماء أعضاء مجلس واختيار رئيس له دون معرفة هؤﻻء وﻻ موافقتهم وﻻ مشاركتهم في التحضيرات وصياغة الوثائق وﻻ تنتهي عند الطريقة التي استُخدمت لإحراج المذكورة أسماؤهم و”إجبارهم” على القبول، والتي يمكن وصفها بابتزازيّة. الحديث عن كل هذه التفاصيل ممكن، بل أنه مطلوب. لكن هذا الحديث يجب أﻻ يحرف أنظارنا عن أن هذه المبادرة، بنواقصها وعيوبها الكثيرة، هي صرخة استغاثة جديدة ناتجة عن شعورٍ بالاختناق أمام قصور المشهد السياسي السوري وغياب الخطاب السياسي القادر على تمثيل آمال وتطلعات وأهداف كلّ المواطنين الذين يخرجون في مظاهرات واحتجاجات منذ منتصف شهر آذار الماضي، ويواجهون قمعاً وعنفاً وتنكيلاً وإذلالاً قلّ مثيله في وجه احتجاجات شعبية.
ليس المقصود المزاودة على الأحزاب والشخصيات المستقلة في المعارضة الوطنية، كما أن القسوة عليهم وعدم أخذ الظروف التي عاشوا وعملوا بها طيلة العقود السابقة فيها القليل من الموضوعيّة والكثير من التجنّي. لجلّهم تاريخٌ من النضال والتضحية يستحق كل احترامٍ، وبالتالي لا يجب أن نقع في سهولة تنفيس الغضب واﻻحتقان عليهم، خصوصاً إن اختلط هذا الغضب مع ديباجات سطحية من طراز اﻻدّعاء بأن شباب الربيع العربي غير مسيّس وبالتالي هو شباب “نقي” عكس المعارضين التقليديين “الملوثين” بالسياسة. كثيراً ما يتم الخلط بين التسييس والتنظيم السياسي، ويؤدي هذا الخلط، الشعبوي بعض الشيء، إلى صنع مقارنة أشبه بالتناقض بين ما يسمّى بالمعارضات “الكلاسيكيّة” والشباب المنتفض. شباب الربيع العربي مسيّس، ووعيه السياسي أعلى بكثير مما افتُرض على مدى سنواتٍ طويلة، وهذا الوعي الذي لم يكن في حسبان الأنظمة ونخبها هو الذي يزلزل العالم العربي الآن، لكن اﻻنتفاض الشبابي الثوري بحاجة إلى خطاب سياسي “محترف” مكمّل له، وﻻ يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
إن صعوبة الوضع وخطورته في سوريا بادية للعيان، فاستمرار العنف السلطوي بوجه اﻻحتجاجات الشعبية، أكان عنفاً مادياً مثل القتل والضرب واﻻعتقال، أو معنوياً كخطاب التخوين والتحقير المبتذل، وغياب مبادرة سياسيّة جامعة تصوغ المطالب الشعبية بلغة الممكن وتضع الخطط الواضحة لتحقيقها، ستصنع صورة للأفق شديدة القتامة للمواطن، عدا عن أنها ستخلق فراغاً في الحقل العام يغري الكثير من الانتهازيين والموتورين لاحتلاله. هذا ما بدأ يحدث الآن، حيث ظهرت بعض الأصوات التي تدعو، باسم الضرورة القصوى، إلى محظوراتٍ مرفوضة لدى الشعب السوري، مثل تحويل اﻻنتفاضة الشعبية إلى تمرّد مسلّح، أو استجرار التدخّل الخارجي. ولتبرير خطابهم يستخدمون لغة اﻻبتزاز العاطفي الرخيص، ولهذه اللغة خطورة كبيرة إن لم يُرد عليها ويبيّن كذبها وزيف ما تدّعي أنها حقائق. ليس رفض التسلّح والتدخّل الأجنبي موقفاً رومانسياً مبدئياً فحسب، بل أنه النتيجة الحتمية لأي قراءة عقلانية نزيهة تريد نجاح اﻻنتفاضة في تحقيق التقدم في حقوق وحريات الشعب السوري، وهذه القراءة بحاجة إلى تعبير سياسي ﻻ يمكن أن يأتي إﻻ من أرضية مشتركة تقف عليها جميع (أو على الأقل أغلب) القوى السياسيّة والشخصيات المستقلّة الوطنية، باختلاف مشاربها وإيديولوجياتها.
إن البلاد بحاجة لمبادرة سياسية نزيهة وشجاعة، وقد تأخر ظهورها إلى اليوم لأسبابٍ بعضها منطقي وبعضها الآخر شديد السخف أمام التضحيات العظمى التي يقدّمها الشعب السوري كل يوم. ﻻ يمكن لهذا التأخير أن يستمر بالنمو، فالمشهد لم يعد يحتمل، والاحتمالات تكبر عدداً وتقلّ نوعاً، وكثيرٌ منها مرعب. لذلك فإن أصحاب الذخر الأخلاقي والرصيد السياسي من المعارضين (وهم كثر، على عكس ما يدّعيه خطاب التخوين المقيت) أمام مسؤولية تاريخية لم يعد ممكناً لهم أن يتأخروا أكثر في التصدّي لها، أكان هذا التصدّي عن طريق مجلس مشترك أو هيئة استشارية أو أي شكل آخر ممكن.
ليست القوى السياسية مطالبة بحل اختلافاتها الإيديولوجيّة الآن، بل أن المطلوب هو اتفاق حول خطوط عامة يجمع عليها السواد الأعظم من الطيف السياسي الديمقراطي السوري. مبادئ مثل تثبيت الدولة المدنية الديمقراطيّة كهدف، والوسائل المدنيّة والشعبية السلميّة كوسيلة لتحقيقها، ما يعني رفض خطاب العنف والتسلّح والتصدّي لالتماسات التدخّل الخارجي ومنع أيّ جهة أياً كانت هويتها من السطو على نضال الشعب السوري من أجل حقوقه وحرياته. بعد تحقيق هذا الهدف بهذه الوسائل لنختلف إيديولوجياً حتّى التعب.. ﻻ مشكلة، بل على العكس!
على المعارضة أن تعي أن الأزمة في سوريا قد دخلت شهرها السادس، وأن حجم التضحيات كبيرٌ جداً ويحتاج إلى وقفة شجاعة ومسؤولة. التاريخ يراقب، والشعب يطالب، والغربان تتربص. نريد فرساناً، أخلاق فرسان وشجاعة فرسان. فالغد بانتظارنا.
..
http://www.syriangavroche.com/2011/08/blog-post_30.html