صفحات العالم

بداهات

 

مصطفى زين

ليس سراً أن إضعاف العرب هدف أساسي للولايات المتحدة، والغرب عموماً. وليس سراً أن بعض العرب يتجاوب مع هذا المسعى، ويقر بأن الضعف قدره المحتوم. على رغم ما يملكه من إمكانات هائلة، وعلى رغم واقعه الجيواستراتيجي المهم. هذا ما يؤكده التاريخ المعاصر والحديث. مراجعة تصريحات الرؤساء الأميركيين كلهم، لنقل بدءاً من نيكسون، كي لا نعود إلى الوراء كثيراً تؤكد ذلك. ليس من رئيس إلا أعلن خلال حملته الانتخابية، وبعد فوزه ووصوله إلى البيت الأبيض أنه لن يسمح للعرب مجتمعين، ولغير العرب في الشرق الأوسط، بالتفوق على إسرائيل. ولمن يريد دليلاً عملياً عليه مراجعة أرقام الهبات العسكرية التي تغدقها الإدارات الأميركية المتعاقبة على الدولة العبرية (تقدر هذه المساعدات بـ115 بليون دولار وتشكل 20 في المئة من موازنة الدفاع الإسرائيلية). هذا فضلاً عن مشاريع التصنيع العسكري المشتركة بين الدولتين.

ولا تكتفي واشنطن بهذه المساعدات، بل حين تبيع أسلحتها إلى أي كان تشترط عليه عدم استخدامها في أي مواجهة مع إسرائيل، وتتعمد دائماً أن لا يضاهي ما يشتري أسلحة الدولة العبرية. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى الدعم السياسي والديبلوماسي غير المحدود، بدليل عشرات الفيتوات في مجلس الأمن.

هذا كله من البداهات. ومن البداهات أيضاً أن أي حرب خاضها عرب ضد إسرائيل كانت الولايات المتحدة تنشئ جسراً جوياً أو خطاً بحرياً لإيصال ما يريده الجيش الإسرائيلي إلى تل أبيب أو إلى ساحة الميدان مباشرة. هذا ما حدث عام 1967 وعام 1973، وخلال العدوان على لبنان واحتلال بيروت عام 1982 وعام 2006. بمعنى آخر، كل من يحارب إسرائيل عليه أن يحارب أميركا عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً، وإلا فمجلس الأمن جاهز لمحاسبته والمحاكم الدولية في انتظاره، وفي لائحة الإرهاب خانة مخصصة له، والحصار الاقتصادي والسياسي والإعلامي جاهز لشيطنته وتجويعه وشعبه، ولا يحتاج الأمر إلى أكثر من قرار تتخذه وزارة أو وزارات.

مرة أخرى، كل هذا بداهات ماثلة أمامنا. لكن الغريب أنها على وضوحها، ما زالت تأخذ حيزاً واسعاً من نقاش يملأ الصحف ووسائل الإعلام بحجة أن الطرف الآخر، أي روسيا اليوم، والاتحاد السوفياتي سابقاً، تلعب الدور ذاته لكن معكوساً. وأن كلاً من موسكو وواشنطن تسعى إلى تأمين مصالحها على حساب شعوبنا وبلداننا. وهذا صحيح أيضاً.

مرة ثالثة هذا كله من البداهات القديمة المقيمة. وربما كان أحدثها ما يدور في سورية أمام أعيننا الآن: انحازت المعارضة إلى المشروع الأميركي الغربي. طالبت بالتسليح. لبت بعض الدول طلبها، وبقيت واشنطن مصرة على تزويدها مساعدات «غير قاتلة». لكنها لم تمانع ولم تضغط على الآخرين لمنع السلاح عنها. ولم تلحظ تورط الاستخبارات الفرنسية والبريطانية، واستخباراتها هي في تدريب المقاتلين، وتوجيههم خلال خوضهم معارك كبيرة ضد الجيش النظامي. وعندما أيقنت أن معظم المسلحين «إسلاميون» متطرفون، انخرطت مع روسيا في مشروع حل سياسي يضمن مصالحهما المشتركة، بغض النظر عن المصلحة السورية التي لم يستطع أي فصيل مسلح التعبير عنها والعمل بموجب خطة تضمن تحقيقها. والمصلحة السورية لا تكمن في إطاحة الاستبداد وكفى الله المؤمنين شر القتال. بل في بناء دولة ديموقراطية وجيش قوي يحمي هذه الديموقراطية ويواجه أعداء الداخل (ما أكثرهم) والخارج أيضاً. ومن البداهة أن الولايات المتحدة أو فرنسا وبريطانيا وغيرهما لن تسمح بذلك لأسباب كثيرة أهمها المحافظة على تفوق إسرائيل، وإبقاء أي نظام حاكم في سورية تحت رحمتها، وفي حاجة إليها لإعادة الإعمار وعقد مؤتمرات للمانحين والاقتراض من صندوق النقد الدولي والغرق في ديون لا تنتهي … وفي حروب داخلية مستمرة. أليس هذا ما حصل ويحصل في العراق وفي أفغانستان وليبيا؟

القول صعب ومريع: في انتظار سورية المزيد من الدماء والدمار والتفتت وبلاد الشام على أعتاب فتنة كبرى.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى