بروباغندا الكرملين بشأن سوريا تفقد بريقها/ عامر راشد
تحول مهم شعبيا
بداية نهاية بوتين
تحولٌ لافتٌ في موقف المواطنين الروس من التدخل العسكري الروسي في سوريا عكسه استطلاع للرأي أجراه مؤخراً مركز “ليفادا” الروسي، حيث أظهرت نتائج الاستطلاع أن نصف من شملهم عبروا عن رفضهم لاستمرار هذا التدخل، مقابل 30% فقط يؤيدون مواصلته.
مع ارتفاع نسبة المتخوفين من غرق روسيا في المستنقع السوري كما غرق الاتحاد السوفياتيفي المستنقع الأفغاني (32 %)، وعدم مقدرة نسبة وازنة على تحديد موقفها بدقة (21 %). وكشف الاستطلاع أيضاً أن 82% من الروس لا يتابعون عن كثب تطورات الحرب في سوريا، ونسبة مهمة من هؤلاء لا تتابعها البتة (26 %).
وهو ما يعد فشلاً ذريعاً للماكينة الإعلامية الروسية التي وظّفت كل إمكانياتها لتبرير ودعم التدخل العسكري في سوريا، والتسويق لانتصارات عسكرية سهلة تعطي موسكو مكاسب إستراتيجية كبيرة، من شأنها أن تعزز دور روسيا باعتبارها دولة كبرى وطرفا مقررا في النسق الدولي.
تحول مهم شعبيا
الصورة تتضح أكثر بالمقارنة مع نتائج استطلاع سابق أُجري في الفترة الممتدة من فبراير/شباط وحتى أبريل/نيسان 2017، وأظهرت نتائجه أن 87% من الروس يثقون في أن بوتين “سيقوم بخطوات صحيحة بكل ما يتعلق بالسياسة الخارجية”.
كما أفاد بأن غالبية من شملهم الاستطلاع راضون عن التدخل العسكري في سوريا، ويعتقد 64% منهم أن “الهدف الأساسي لهذا التدخل يجب أن يكون القضاء على الجماعات الإرهابية”، بينما رأى 25% أن “هدف القوات الروسية في سوريا يجب أن يكون الحفاظ على سيطرة الرئيس بشار الأسد”.
بتحليل نتائج الاستطلاعيْن المذكوريْن، يلاحَظ بروز تحوّل كبير في موقف الشارع الروسي من الحرب في سوريا، وهو يعود -في جزء منه- إلى مصداقية الجهة التي أجرت الاستطلاع وكيفية صياغة أسئلة الاستبيان، إلا أن الاستطلاع الثاني يؤكد ضمنياً ما انتهى إليه الاستطلاع الأول.
فالاستطلاع الثاني أقر بأن اهتمام المواطنين الروس ينصب -بشكل رئيسي- على الأوضاع الداخلية الروسية لا سيما الاقتصادية والمعيشية، بتأكيد غالبيتهم أن “الاقتصاد والفجوات الاجتماعية وغلاء الأسعار ما زالت حتى الآن هي المواضيع التي تقلق الروس”.
وتكشف الأرقام أن 71% من المشاركين في الاستطلاع الثاني أشاروا إلى أن “قضية غلاء الأسعار ما زالت كبرى المسائل التي تشغل الروس”، وأن 54% منهم يعتقدون أن “نقص فرص العمل يعتبر مشكلة كبيرة”، وربما الأهم تأكيد 58% أن “الفساد بين السياسيين من أصعب المشاكل بروسيا”، و51% غير راضين عن تعامل بوتين مع الفساد، علماً بأن 62% كانوا راضين تماماً وفقاً لاستطلاع أُجري 2015.
ومن الجدير بالذكر، وعلى خلاف ما قد يعتقده البعض؛ أنه يلاحَظ -منذ سنوات- عدم اهتمام الشارع الروسي بالقضايا السياسية، الأمر الذي دفع معارضين روساً إلى اعتبار أن المجتمع المدني لم يتبلور بعد في روسيا.
وهذا يبيِّن جانباً مهماً من قدرة الرئيس بوتين على إبقاء قبضته الحديدية، رغم ولادة حركة احتجاجية غير مسبوقة في روسيا عام 2012 للمطالبة بالتغيير. غير أن عدم تبلور بنية المجتمع المدني في روسيا “سلاح ذو حدين”، إذ من الممكن جداً أن ينقلب على النظام السياسي الذي بناه بوتين وأرسى أركانه منذ عام 2000.
بوتين نفسه أقر بأن اهتمام المواطنين الروس ينصب على الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وأكد في برنامج “حوار مباشر مع بوتين” (15 يونيو/حزيران 2017) أن الاقتصاد الروسي لم يفلح في الخروج من طابعه الريعي، فما زال يعتمد على عوائد تصدير النفط والغاز، كما اعترف بوتين بارتفاع نسبة الفقراء في روسيا.
ويُذكر أن هيئة الإحصاء الروسية “روستات” كشفت -في بيانات نشرتها خلال يونيو/حزيران 2017- أن عدد الفقراء في روسيا بلغ 19.8 مليوناً عام 2016، مقارنة بـ19.5 مليوناً عام 2015، و16.5 مليوناً عام 2014.
وبالعودة إلى استطلاعات الرأي؛ فهل تكون الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتدهورة في روسيا “كعب أخيل” بوتين ونظامه السياسي، رغم أنه ضامن لنجاحه في الانتخابات الرئاسية في مارس/آذار العام المقبل؟
بداية نهاية بوتين
يعكف فريق بوتين الاقتصادي على صياغة مشروع لإعادة هيكلة الاقتصاد الروسي، سيكون بمثابة ركيزة لبرنامج عمل بوتين خلال ولايته الرئاسية الرابعة. ووفقاً لما ذكرته وكالة “بلومبيرغ” الأميركية (في تقرير لها يوم 31 أغسطس/آب 2017) فإن “وزير التنمية الاقتصادية الروسي ماكسيم أوريشكين يُعِدّ مشروع إصلاحات اقتصادية عشية الانتخابات الرئاسية التي ستجري في الربيع المقبل، ويتنافس في هذا المجال مع وزير المالية الأسبق ألكسي كودرين”.
وجاء في تقرير وكالة “بلومبيرغ” -نقلاً عن مسؤولين روس- أن “أوريشكين الذي تولى وزارة التنمية الاقتصادية في أواخر عام 2016، بعد إقالة الوزير السابق ألكسي أوليوكايف المتهم في قضية فساد؛ تحوّل إلى شخصية مدللة وتتمتع بتأثير سياسي أكبر بالمقارنة مع أي من أسلافه”.
وقد أثار هذا التقرير حفيظة الكرملينالذي رد الناطق باسمه ديميتري بيسكوف بغضب عليه، ووصفه بأنه “بهلوانيات إعلامية تصور أوريشكين بأنه الوريث لبوتين”.
وامتعاض الكرملين من تقرير “بلومبيرغ” ليس سببه إشارته إلى مسألة خلافة بوتين، بل لأنه وضع أوريشكين على قائمة المرشحين لخلافة بوتين، وهو ما يُفهم منه نكوص السياسات الروسية نحو معالجة الأوضاع الداخلية الروسية، وفي مقدمتها بلا منازع الأوضاع الاقتصادية المعقدة والمتردية.
ويبدو جلياً أن الصورة القاتمة للاقتصاد الروسي -جنباً إلى جنب مع تآكل فاعلية البروباغندا بشأن الإنجازات العسكرية الروسية في سوريا، والحديث عن مكاسب إستراتيجية حققتها موسكو على الصعيد الدولي- تضغط بثقلها على الرئيس بوتين والدوائر المقربة منه، مما دفعه للقول بأنه من السابق لأوانه الإعلان عن قراره بشأن المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ربما يبدو طريفاً انشغال العديد من وسائل الإعلام الروسية بالحديث عن خليفة الرئيس بوتين في الوقت الذي لا يواجه فيه بوتين منافساً جدياً، لكن الحديث عن خلافته ينمّ عن مخاوف متعاظمة في الأوساط السياسية الروسية الحاكمة.
قد يكون صحيحاً أن فوز الرئيس بوتين في الانتخابات الرئاسية المقبلة مسلّم به، إلا أن هذا الفوز سيفتح الباب على مصراعيه لمعركة خلافته التي ستحدد مصير النظام القائم وتعيد قولبة السياسات الروسية، وبالطبع ستكون مسألة الحرب في سوريا والتدخل العسكري الروسي فيها، حاضرةً بقوة على أجندة التغيير المفترض في توجهات موسكو.
ومنذ اللحظة التي سيعلن فيها بوتين ترشحه لفترة رئاسية قادمة -وسيفعل ذلك قريباً- سيبدأ العد العكسي لنهاية حقبة بوتين، ونتائج استطلاع الرأي الأخير ستُؤخذ بعين الاعتبار بشكل أو آخر، فغالبية الروس لم يعودوا يتأثرون ببروباغندا الحرب في سوريا، ويريدون إنهاء التدخل العسكري الروسي فيها، وإعطاء الاهتمام لمعالجة الأوضاع الداخلية ومحاربة الفساد السياسي المستشري.
وعلى هذا يتوقف مستقبل روسيا، فإذا صدقت التوقعات باحتمال تولي وزير التنمية الاقتصادية الروسي الحالي ماكسيم أوريشكين منصب رئاسة الوزراء بعد الانتخابات، أو أنه سيكون رجل الظل في قيادة تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي؛ فإن ذلك سيرسم خطاً بيانياً للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه عملية التغيير اللازمة، والتي تعدّ في كل الأحوال لا غنى عنها.
جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة
2017