بطولة العادي/ أمجد ناصر
لا تأتي كلمة “بطل” في “لسان العرب” بالمعنى الذي نتداوله الآن: الشجاعة.. فأحد معانيها يفيد: الباطل، عكس الحق، مثال ذلك الآية القرآنية: “قل جاء الحق وزهق الباطل، إنَّ الباطل كان زهوقا”. وفي “اللسان”: قيل سُمّي بطلاً، لأنَّ الأشدّاء يبطلون عنده. أي يفلُّ عزمهم، ويتعطّل فعلهم. وبهذا المعنى، يسمي المشارقة الذي لا يعمل: عاطلاً من العمل، فيما يسميه المغاربة: بطَّالاً، ويجمعونها على “بطَّالين”..
وكم مرةٍ سمعت الإعلام المغاربي يصف تظاهرات العاطلين من العمل، باعتبارها تظاهرات: البطَّالين! والكلمتان صحيحتان، لغةً، حتى وإنْ ظنّ المشارقة أنَّ الأمر يتعلق بسيئي السمعة ذوي “المشي” (السلوك) البطَّال!
إذن، “البطل”، في العربية، لا يعني الشجاع، ذا الأعمال التي تتناقلها الرُّكبان، فلدينا كلمتنا الأثيرة التي تدلُّ على هذا الحال والفِعَال: الفارس. هذا هو الذي يُعقَد له لواء الشجاعة والإقدام في الميدان، أما “البطل” فهو الذي يُبْطِلُ، يعطِّلُ، شجاعة وبأس غيره. نقض الشجاعة بـ”البطولة”!
متى استُخدمت كلمة “بطل”، عربياً، بالمعنى الذي نتداوله الآن؟ لا أدري. أظن أنه استخدامٌ حديث، يعود، على الأغلب، إلى بدايات الانفتاح على اللغات الأوروبية وآدابها، ونقل بعض ذخائرها إلى العربية، خصوصاً في المسرح، والبحث عن مقابل عربي لمصطلحات أوروبية.
فإلى أرسطو، يُنسب نقل كلمة “بطل”، من حقل الحرب والقتال إلى حقل المسرح، وحدّدها بـ: الشخصية الرئيسية التي تظهر بكثرة، وتقوم بدور مركزي في المسرحية، ثم انتقل هذا المعنى إلى الرواية، عندما بدأت أولى خطاها في الثقافات الأوروبية بعد “الكيخوته”.. على الرغم من أن “بطل” رواية سرفانتيس (دون كيخوته) نقيض الفارس التقليدي، والرواية كلها عكس رواية الفروسية السائدة حينها.
***
ومن خشبة المسرح، انتقل “البطل” إلى الرواية والقصة الأوروبيتين، فكلمة “هيرو”، في الانكليزية، ذات أصل يوناني تعني: الحامي، المدافع، وأعطى هيغل معنىً مختلفاً للبطولة، مجسَّدة بنابليون: رجل الأفعال، الواعي لحقيقة زمنه التاريخية. نابليون بطل عند هيغل، لأنه يعرف الضروري، وكيف يفعل عندما يحين الوقت لذلك.. هذا هو تعريف الفيلسوف الألماني للأبطال التاريخيين: الذين يعون الضرورة التاريخية، ويلعبون، بالتالي، أدوراً مركزية في التاريخ.
وماذا عن معنى “البطل” في الرواية “التقليدية”؟ إنه الشخصية التي ترغب في أن تراها منتصرةً في نهاية الرواية. إنه ليس شخصاً ذا مواصفاتٍ مفارقة لـ”العادي”، ولا تتوقع منه أعمالاً خارقة للعادة. ليس فارساً بالضرورة ولا خيِّراً، المهم في الأمر أن يكون العنصر الأساسي في القصة/ الرواية، الذي تتقاطع معظم أحداث القصة عنده، فهو، بهذا المعنى، محور الرواية/ القصة.
ومن الرواية (أو الكتابة عموماً) انتقلت شخصية “البطل” إلى السينما التي، على عكس الرواية، تنصُّ على كلمة “بطولة” في ملصقاتها. قليلاً ما نتحدث عن “تمثيل” فلان، عندما نتحدث عن فيلم، بل نقول “بطولة” فلان.
لكن، بما أن الرواية والقصة والمسرح والسينما صارت تشبه الحياة، وتنهل من أحداثها وحكاياتها اليومية، فقد صارت “البطولة” للعاديِّ من الناس، وليس لذوي الخوارق. بطولة “العاديِّ” في ظرفٍ غير عادي، حسب تعبيرٍ نسيت اسم صاحبه.
لم يعد للبطولة معناها الدرامي، أو الاستثنائي، الكبير. لم يعد لها براويز وتماثيل ونُصُبْ. قصارى ما تناله البطولة في زمننا “العادي” ملصقاً على حائطٍ، لا يلبث أن تشقّقه الأيدي، أو يُلصق عليه مرة ثانية، فقد صارت للبطولة أوجه كثيرة، جمعية، وليس وجهاً واحداً، تحدِّق إليه الأعيُن، وتهفو إليه القلوب. هناك وجوه يومية كثيرة، لا علامات فارقة فيها. لا حسب ولا نسب، إلا ما هو عليه الواقع العريض، المكتظ بالناس الغُفْل. لكن هذا الواقع العريض، المعبأ بالناس الذين ليس فيهم علامات فارقة، قد يحتاج إلى برواز أو أيقونة، يرفع فيها شخصاً من حالة “الإغفال” إلى حالة التسمية. من الوجه الذي بلا ملامح إلى الوجه المنحوت.
هذا ما رأيناه في صورة خالد سعيد في مصر، محمد البوعزيزي في تونس، حمزة الخطيب في سورية، إلخ.. فهذه وجوه لم ترفع إلى مستوى الأيقونة، إلا بسبب تحوّل مفهوم البطولة (وواقعها) من الدرامي، الاستثنائي، إلى “العادي” واليومي.