صفحات العالم

«بعث» بلا قيامة… بين سورية وكوريا


خالد الحروب *

العنوان بالغ الدلالة، الذي يعطيه حازم صاغيه للفصل الأخير من كتابه الجديد «البعث السوري: تاريخ موجز»، هو «بعث بلا قيامة»، مختصراً المسيرة الطويلة والدموية لتاريخ الحزب في سورية، واستبداده، وما حل بالشعب السوري جراء حكمه الطويل.

أبدى النظام السوري ثقة مفرطة بأن تسونامي الثورات العربية لن يلحق به، ذلك أنه «حين اندلعت الانتفاضات العربية، مطلع 2011 وكانت أولاها في تونس، لجأ بشار الأسد إلى حجة تفيد بأن نظامه في مأمن لأنه، في سياسته الخارجية والإقليمية، منسجم مع شعبه. وما كادت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية تنقل رأيه هذا، حتى انفجرت انتفاضة في سورية نفسها، كانت مدينة درعا الجنوبية مهدها». قراءة موجز صاغيه بالغة الإفادة إن في عميق التفاصيل، أو براعة ربط الخلفيات التاريخية بما يحدث اليوم.

وفي تفصيل صغير على هامش ما يحدث من قتل يومي يقترفه النظام في سورية نقرأ برقية تعزية بوفاة ديكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ ايل، يأسف فيها الرئيس بشار الأسد على الخسارة الكبيرة التي ليست فقط للشعب الكوري «بل وأيضاً لشعوب الدول الأخرى التي تناضل من اجل الحرية والعدالة والسلام»، كما جاء في نص البرقية التي أوردتها وسائل الإعلام.

ولنا أن نتوقع انه قدم أو سيقدم التهاني لخليفة الدكتاتور ونجله الأصغر كيم جونغ اون الذي سيرأس البلاد وهو في أواخر العشرين من عمره. مُباركاً للطاغية الصغير القادم عقوداً طويلة من التجبر في البلاد وإدامة دكتاتورية أبيه وجده، في حال لم تكن البلاد محظوظة بحدوث ربيع خاص بها يخلصها من التفاهة التي تتحكم بها. هناك تشابهات مدهشة بين حكم البلدين.

في عهد الدكتاتور السابق، الذي يتأسى على غيابه الأسد بكونه خسارة للإنسانية، وعلى مدار 17 سنة من حكمه المدمر، مات مئات الألوف من المجاعات، وفي بعض التقديرات وصل عددهم إلى المليون. كما أن ثلث السكان عانوا ولايزالون من سوء التغذية، واعتقل عشرات الألوف في معسكرات اعتقال أشبه بتلك النازية. وأن يعتبر موته خسارة للشعوب التي تناضل من اجل الحرية والعدالة والسلام، على خلفية إنجازات كتلك، لغز لا يحله إلا ثقافة بعثية تنهل من مستنقع الاستبداد نفسه واحتقار الشعوب والبلدان واعتبارها مزارع وإقطاعيات، ولا يهمها ما تؤول إليه ما دامت السلالة حاكمة أباً عن جد.

يتكرر اليوم سيناريو انتقال السلطة في كوريا الشمالية ببلادة وازدراء للشعب كما تم عام 1994 عندما توفي كيم آيل سونغ و»أودع» قيادة البلاد في يد ابنه كيم جونغ ايل الذي رحل الآن. يموت الأب «الحكيم» فيقفز إلى السلطة مكانه ابنه الشاب الذي لا يهم إن كان مؤهلاً أو جديراًَ أو مدرباًَ.

وذات النص رأيناه يُستنسخ في سورية العام 2000، حيث تم تغيير الدستور في لحظات كي يُعجل انتقال السلطة للابن وارثاً والده في حكم سورية والتحكم فيها.

في تلك الأوقات وفي صفحات هذه الجريدة نشر كاتب هذه السطور (في 13 آب (أغسطس) 2000 مقالاً بعنوان «الأب والابن في حوار مع … مخ لحوح»، تخلط الجد بالهزل في تخيل حوار افتراضي تعليقاً على «انتقال» أو «وراثة» السلطة في سورية مستعيناً بسيناريو كوريا الشمالية ترميزاً وتورية. التعاضد الاستبدادي والنضالي بين النظامين وتأسيس كل منهما على الآخر يستدعي بعضاً من تلك المقالة لما تحتويه من راهنية الآن:

(> هل رأيت حكمة الأب القائد كيم آيل سونغ عندما أودع أمانة قيادة بلده كوريا الشمالية في يد ابنه المحبوب كيم جونغ آيل؟

– لا، لم أر ذلك!

> كيف لم تره والعالم كله شهد الآن على براعة وعبقرية الابن في إدارة دفة البلاد بعد وفاة أبيه بست سنوات؟

– كنت مشغولاً بسؤال اهم: هل حقاً هذا الابن، وبافتراض عبقريته التي تتحدث عنها، هو أكفأ من في البلاد لتسلم القيادة؟

– هذه سفسطة زائدة، فالمهم انه يديم الاستقرار ويؤيده البرلمان و»الدستور المعدل» في ذلك.

> تعني انه يديم وطأة الحذاء العسكري على المجتمع ويكبت أنفاسه؟

– قطعاً لا اعني ذلك، فأنا لست مثلك مخاً متوتراً يردد كالببغاء ما يسمعه في الغرب من اتهامات وإشاعات ضد هذا البلد الصامد في وجه الإمبريالية!

> لكن لماذا يجب أن يكون «المناضلون» ضد الإمبريالية ديكتاتوريين بالتعريف، ألهذه الدرجة يشعرون بهشاشة نضالهم؟

– لا يا سيدي، انهم ليسوا ديكتاتوريين كما تصفهم، بل هم أصحاب حسن مرهف بالأولويات، ولا يمكن تأخير إلحاح مواجهة الهجمة الإمبريالية وتقديم الترف الديموقراطي الذي تدعو إليه كأولوية.

> هل سمعتني ادعوك إلى تبني ديموقراطية السويد؟ كل ما يريده الناس هو أن يتنفسوا… أن يقولوا نصف الحقيقة أو حتى عشرها، وأن يتخلصوا من سياسة الخصاء الجماعي المفروضة عليهم.

– ها انت ثانية تردد الشعارات الطنانة التي تخفي وراءها أجندة مغرضة هدفها فتح البلاد على مصراعيها للغرب حتى يواصل نهب خيراتنا، وتمهيد الطريق للاختراق الصهيوني والتطبيع.

> لكن ما دخل إسرائيل والتطبيع؟ لا تنس أننا نتحدث عن كوريا الشمالية.

– حتى لو كنت تتحدث عن الواق واق فإن المؤامرة واحدة!

> ماذا لو غيرنا الحديث وتكلمنا بعض الشيء عن الابن القائد، وعن أسلوب توليه المسؤولية ومنحه المناصب تباعاً في ساعات، هل تعتقد فعلاً أن هذا الشاب هو افضل ما انتجت بلده من كفايات ليقودها؟

– نعم اعتقد ذلك، فهو خريج مدرسة والده «النضالية» ويحظى بدعم المؤسسات العسكرية والأمنية والشعبية كلها، وهذا ما يغيظك، وهو متوثب لردع مؤامرات كوريا الجنوبية وحليفتها الولايات المتحدة.

> إذاً، هل لنا أن نتوقع «إنجازات نضالية» شبيهة بإنجازات والده في الحرب والسلم؟

– بل عليك أن تتوقع اكثر من ذلك.

> ألا يجوز لنا أن نتوقع انه في حاجة إلى سنوات كثيرة، ربما عقد من السنين حتى يكتسب الخبرة ويصبح داهية كوالده كيم ايل سونغ؟

– لا، لا يجوز، لأن والده أورثه الحكمة قبل أن يموت، والدهماء مثلك لا يستوعبون القضايا المركبة من مثل توريث الحكمة، فأنت ببساطة مخ مسطح!

–                     آه … عرفت الآن، المشكلة فيّ أنا وليست في الأب أو الابن!

جردة حساب الابن في سوريا لا تختلف عن جردة حساب الأب، على ما يؤرخ حازم صاغيه. في عهد الأب كانت إحدى اكبر بطولات النظام تجهيز حملة من الجيش قوامها اكثر من ثلاثين ألف جندي توجهت لقمع مدينة حماة عام 1982 وهدمها على رؤوس ساكنيها. بعد ذلك بشهور قليلة وفي ذات العام تراجع جيش البعث واختفى من جنوب لبنان وبيروت والبقاع، وترك «الشقيق الأصغر» لقمة سائغة في يد الجيش الإسرائيلي، ووزير دفاعه ارييل شارون يصول فيه طولاً وعرضاً. هكذا احتلت إسرائيل أول عاصمة عربية في الفترة التي كانت فيه عملياً وعسكرياً في عهدة البعث السوري. في عهد الابن جردة البطولات والإنجازات تنسج على ذات المنوال. فـ «إلى الخبز المفقود والكرامة الفردية المهدورة والحرية المأكولة، كان بشار ابن أبيه في تلقي الصفعات الوطنية الكبرى والتظاهر بأن شيئاً لم يحصل. فقبل انسحاب 2005 المذل من لبنان، وفي صيف 2003 تحديداً حلقت الطائرات الإسرائيلية فوق مقر إقامته الصيفي في اللاذقية، وما هي إلا أسابيع حتى هاجمت مقاتلات إسرائيلية بلدة عين الصاحب التي تبعد عشرات الأميال عن العاصمة، بحجة وجود معسكر لـ «الجهاد الإسلامي» هناك. وقبل أن يتبدد الغموض الذي أحاط بتدمير الإسرائيليين منشأة دير الزور، جاء الاغتيال الغامض، هو الآخر، لعماد مغنية محرجاً ومهيناً. وفوق هذا شكل ذاك الاغتيال مادة لتكهنات كثيرة حول السلطة وصراعاتها، خصوصاً بعد اغتيال، لا يقل غموضاً، حل بالعميد محمد سليمان في عرض البحر».

* محاضر وأكاديمي، جامعة كامبردج، بريطانيا

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى