صفحات العالم

بعد بشار: هل يتعظ الآخرون؟


د. عبدالوهاب الأفندي

(1) لم يكن العقلاء يحتاجون إلى تأمل ما وقع في دمشق من نوازل أمس الأول لكي يتخيلوا المصير الأسود الذي ينتظر بشار الأسد وحاشيته وأزلامه. ولكن الواقعة التي حصدت في لحظة رؤوس وأقطاب ‘الحل الأمني’ (أو الإجرامي بالأحرى) تستحق التأمل، حتى لمجرد النظر في عجز قادة الأجهزة الأمنية عن حماية أنفسهم، فضلا عن حماية النظام المتهاوي. ولكن العبرة الأهم هي للدول الأخرى والأنظمة الشبيهة الباقية، لأن وقت العبرة لنظام الأسد قد فات.

(2)

بالنسبة لدولة تعتبر فيها الأجهزة الأمنية الحاكم بأمره، وتتحكم في كل أمر وشخص وشيء بدعوى الحفاظ على أمن النظام، فإن الفشل، حتى في أبسط المهام، له دلالات بعيدة. ففي العشرين من مايو الماضي، أوشكت بعض قيادات الجيش الحر أن تكشف أسرار هذه العملية حين أعلنت عن تنفيذها ومقتل نفس هذه الشخصيات. وعندها لم تفعل الأجهزة الرسمية شيئاً سوى نفي الخبر، ووصفها الشبيح الإعلامي إياه بأنها فكرة ‘أبعد من الخيال’. ولو كانت هناك أجهزة أمنية احترافية، لكانت استقصت حول هذه المسألة وتساءلت عن مبعث ثقة الجيش الحر في مصادره. ولكن…

(3)

مهما يكن فإن الحل الإجرامي لم يكن جريمة في حق الشعب السوري فحسب، بل وكذلك في حق أنصار النظام، لأنه سيودي بهم إلى التهلكة. يكفي أن نستقرئ تطور الأحداث حتى هذه الساعة، حيث بدأت الأزمة الحالية بتحرك لأطفال قاموا بكتابة شعارات على الجدران في درعا، وانتهت اليوم بوقوف ثوار مسلحين على أعتاب القصر الرئاسي في دمشق. فإذا كان هذا هو ‘الحل’، فكيف تكون المشكلة؟ فحتى من وجهة نظر النظام، فإن ما يقوم به لم يحقق شيئاً، بل العكس. فالأخبار تنقل كل يوم انتقال الصراع إلى مناطق جديدة، وتجدده في مناطق كان الجيش الرسمي قام باقتحامها. فكم مرة سمعنا باقتحام الرستن وإدلب ودوما، إلخ؟

(4)

كان من المفترض أن يدرك من بيدهم الأمر في سورية الطريق المسدود الذي قادتهم إليه هذه السياسات، وبالتالي التخلص ممن تولى كبر هذه السياسات قبل أن يهلك الجميع. وقبل ذلك كان ينبغي للعقلاء أن يتعظوا بمصير سابقيهم، وينظروا كيف كانت عاقبة المجرمين. ولكن يبدو والله أعلم- أن الكتاب سبق على هذه الفئة، وأحاطت بها خطيئتها فلم يعد لها من المستنقع الذي أردت نفسها فيه مخرج. ولكن، هل يتعظ الآخرون ممن ما زالوا ينتظرون الدور؟

(5)

في عام 2008، عين الاتحاد الافريقي ‘لجنة حكماء’ لمعالجة قضية دارفور برئاسة رئيس جنوب افريقيا السابق تابو امبيكي، وعضوية رئيسين سابقين، هما عبدالسلام أبوبكر من نيجيريا وبيير بويويا من بوروندي. وبخلاف أمبيكي، فإن كلا الرئيسين السابقين جاء إلى السلطة عبر الجيش، واختار في النهاية تسليم السلطة لحكومة منتخبة. وكنتيجة لهذا، أصبح كل هؤلاء مكان احترام محلي ودولي، بحيث أصبحت توكل إليهم المهام الصعبة. فلنقارن هؤلاء مع أمثال بن علي ومبارك والقذافي، ممن قرروا التشبث بالسلطة حتى الموت، فكان مصيرهم التشريد والقتل والسجن، وقبل ذلك وبعده احتقار العالمين.

(6)

ماذا ياترى كان يضير هؤلاء لو قال قائلهم وهو يخرج إلى الشعب: ‘لقد حكمت هذه البلاد عقوداً طويلة، واجتهدت وسعيت في خدمة الشعب. وقد تقدمت بي السنون، واشتعل الرأس شيباً، والأمر إليكم فانظروا من تختارون لخلافتي. فالبلاد بحمد الله عامرة بالمصلحين، غنية بالقدرات والمواهب.’ فلو اتخذ الزعيم هذا الخيار، لخلد اسمه في المحسنين، ولغفر له الشعب ما ارتكب في حقه من كبائر. ولو زاد فسادهم في تأمين سلاسة انتقال السلطة عبر ترتيبات تتضمن الحوار بين القوى السياسية، والتوافق على دستور يوحد الناس ويضمن الحقوق، ويحقق الاستقرار، فسيكون محل الاحترام والتقدير كحكيم من الحكماء. فهل الأفضل لمبارك اليوم مقامه في السجن، أم أن يكون رئيساً سابقاً محترماً موقراً؟

(7)

هذا الأمر ينطبق على الأسر الحاكمة في البلدان العربية، فهي كذلك بالخيار بين أن تتحول إلى ممالك دستورية، كما هو حال العائلات المالكة في أوروبا وتايلندا وغيرهما، وبين أن تواصل احتكار السلطة والنضال من أجل ذلك، وبنتائج معروفة، ومآلات لا تغيب عن عاقل.

(8)

ولكن الأحوج إلى هذه الموعظة هي الأنظمة التي بدأت تواجه سلفاً تحدي الانزلاق نحو الهاوية، كما هو الحال في السودان والبحرين، وإلى درجة أقل الأردن والجزائر. فمن الحكمة في هذه الدول ألا ينتظر القادة الوصول إلى نقطة اللاعودة حتى يبدأ التحرك نحو الإصلاح. فمن يصل إلى المرحلة التي وصلها الأسد، لا يمكن أن يقبل منه صرف ولا عدل. فلو أن الأسد أعلن اليوم تنازله على السلطة فوراً، ورد كل ما سلب وذووه من مال إلى الشعب، وصرح بالتوبة والاستغفار، لما أنجاه ذلك من غضبة الشعب. ولكنه لو كان وفى بوعوده التي بذل حين وصل إلى السلطة، لكان شأنه اليوم شأنا آخر.

(9)

كنا نرجو ونأمل أن تدرك التوبة كذلك قيادات حزب الله، ممن كانوا بدورهم من ضحايا التعامل مع هذا النظام. فربما كان لهم بعض العذر فيما مضى، حين كان جرائم النظام مستورة نوعاً ما، وإن لم تكن خافية على الله تعالى، ولا عن قيادات تتعامل مباشرة مع الأجهزة الأمنية. ولكن بعد أن ظهر لكل ذي عينين أن إجرام الأسد وشيعته قد تجاوز كل حدود، وشهدنا كيف أنه لم يتورع عن كبيرة، ولم يعد له من سند من خلق أو شعبية، فإن التضامن معه يصبح تضامناً مع الإجرام. أما حين نسمع من زعيم الحزب خطاباً يصف فيه كبار المجرمين بأنهم رفاق سلاح، ويصنفهم من الشهداء، وهو يعلم ونعلم حجم ما ارتكبوا من جرائم، فإننا لا نملك أن نقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ونرجو ألا يحشر مع هذه الزمرة يوم القيامة، فإن المرء مع من أحب.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى