صفحات سورية

بعد عامين ونيّف على الثورة: سورية الى أين؟

 

أحمد فيصل خطاب

كل شيء يجري في سورية هذه الأيام وكأن الكل هناك: السلطة، المعارضة، الثورة والشعب يتحرك على طريق دائري، في حركة دائرية أشبه ما تكون بحلقة مفرغة، بعبارة أخرى يبدو المشهد السوري وكأنه غارق اليوم في المأزق.

ولكي نفهم أبعاد هذا المأزق، لا بد من تفكيك المشهد الى عناصره الرئيسية والتناول بالتأمل والتحليل لكل واحد منها على حدة.

السلطة

لقد تفاديت عن قصد استخدام عبارات مثل الدولة، النظام، الإدارة، الحكومة، الحكم… الخ، واخترت عمداً عبارة ‘السلطة’ لأنها تعكس في الواقع حقيقة ما هو قائم على رأس الهرم السياسي في سورية: إنها سلطة، وسلطة مركبة، ثلاثية الأثافي: ‘عسكرية ـ فئوية ـ أمنية’ أبرمت تحالفاً مدنساً مع رأس المال الفاسد وبعض وعّاظ السلاطين ممن باعوا دينهم بدنياهم بثمن بخس.

لم أعثر في كل الأدبيات السياسية على تعريف واحد من عشرات التعريفات للدولة (أو النظام) ينطبق على الواقع المرير القائم في سورية، فلقد أفرغت هذه السلطة القائمة منذ عقود ‘الدولة العميقة’ في سورية من مضمونها، وحولتها الى أداة، مجرد أداة من أدواتها الكثيرة التي يحكم بها قبضتها على الشعب. لقد نظمت هذه السلطة الرشوة والوشاية وعممت الفساد والاستبداد.

بعبارة ادق: لقد قضت الديكتاتورية بليلها الطويل في سورية على الطبيعي في الطبيعة وعلى الإنساني في الإنسان، وكما كتب أحد المفكرين عن حق، فإنّه إذا كنا مع الاستعمار قد فقدنا استقلالنا فإننا مع الاستبداد فقدنا روحنا.. ولكن إلى حين فقد استعاد الأجداد بنضالهم الاستقلال، واليوم نشهد عودة الروح مع ثورة الأحفاد. أما عن مصير هذه السلطة فهي لاريب الى زوال.

إنّ سلطةً تنطح رأسها بالتاريخ والجغرافيا والحقــــائق الاجتماعية، سوف ينتهي بها الأمر الى أن يتحطم رأسها، وتبقى هذه الحقائق راسخة لكن متى وكيف؟ ذلك متعلق بعوامل عدة داخلية، إقليمية ودولية… خاصة داخلية.

المعارضة والثورة

ربما كان من حسن حظ السوريين أن الانتفاضة الشعبية، التي أطلق شرارتها ‘أطفال درعا’، لم يكن وراءها أي حزب أو أية قوة سياسية أو أيديولوجية، لكن هذه الانتفاضة التي تحولت إلى ثورة، بدأ يعتورها مع مرور الزمن بعض أعراض مرض التنظير، والجدل العقيم، وطرح الإشكالات المزيفة. هنالك شبه إجماع وطني، لدى قوى الثورة والتغيير في سورية، على أن الأهداف الرئيسية للشعب من وراء ثورته تتلخص في الكرامة والحرية والعدالة، عبر تغيير النظام الديكتاتوري الحالي، وإقامة البديل الوطني الديمقراطي الذي يتلخص في إقامة حكومة مدنية ديمقراطية.

إنّ طرح أية إشكالات أو ثنائيات مزيفة مثل: ‘علمانية ـ دينية’، ‘مسلحة ـ سلمية’، ‘مركزية ـ لامركزية’، ‘تدخل دولي ـ عدم تدخل’ ما هي الاّ محاولات لإغراق الثورة في قضايا مزيفة ليست مطروحة الآن ولا راهنة. إنّ إدخال أي ‘دوز′ من الأيديولوجيا في التعاطي مع الثورة سوف يلحق بها ضرراً قلّ أو كثر. هنالك مقولة شهيرة للجنرال ديغول حين توجه إبّان الحرب العالمية الثانية الى دمشق وبيروت، حيث قال: ‘أنا ذاهب إلى الشرق المعقد بأفكار بسيطة’. وبهذه الأفكار البسيطة ولكن العميقة تمكن الجنرال مع قوات فرنسا الحرّة من إلحاق الهزيمة بقوات ‘يشي في الشرق، كما تمكن من الموافقة على منح الاستقلال لسورية ولبنان. كذلك الأمر اليوم بالنسبة للمسألة السورية. إنها مسألة معقدة وبالتالي فهي لا تحتاج إلى مزيد من التعقيد، بل تحتاج إلى أفكار بسيطة لكن واضحة وعميقة في الوقت ذاته. إنّ على الماركسي السوري اليوم، كما على الإسلامي، والليبرالي، والقومي (وحتى البوذي إذا كان هناك بوذيون!؟) أن يحتفظ كل بمشروعه الخاص كجوهرة مخبأة في صدره، وأن يركزوا كلهم الآن على الهدف المركزي (محور الهجوم الرئيسي باللغة العسكرية)، على المشروع العام الذي انعقد حوله الإجماع الوطني: الخلاص من الديكتاتورية وإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية.

إنّ عملية فرز وتوحيد كبرى تفرض نفسها اليوم بقوة على مسارات الثورة الرئيسية الثلاثة: المسار السياسي، المسار العسكري، المسار الإغاثي. وإذا بدأنا بالمسار السياسي المتمثل أساساً بالمعارضة السياسية في الداخل والخارج، وكذلك قوى الحراك الشعبي، فإنّ شيئاً من البلبلة لايزال يسود على هذا المسار. لا بد من عملية فرز حقيقي هنا وإعادة تنظيم وتوحيد. لابد من الانتقال من مرحلة ‘الأنا’ أو الأنوات المفلوشة، إلى مرحلة الـ’نحن’ المؤسساتية.

الشيء ذاته مطلوب على المسار العسكري. لقد ظهرت، مع مرور الأيام، تشكيلات عسكرية كثيرة بأسماء كثيرة لا تكاد تحصى، ظهرت بعض المتبلورات الرئيسية، مثل هيئة الأركان المشتركة لقوى الثورة والمعارضة، القيادة العسكرية المشتركة للجيش الحرّ، ألوية أحرار الشام، لكن إلى جانب هذه المتبلورات كان ولايزال هناك عشرات من الكتائب المستقلة التي تتصرف بشكل منفرد. وإنّ استمرار الحال على هذا المنوال قد يؤدي إلى ظهور ‘أمراء حرب’، كما حدث في غير دولة في العالم. وهي ظاهرة لا ريب سلبية. إنّ شيئاً من الحزم يفرض نفسه اليوم على هذا المسار، لتفادي أية فوضى محتملة راهنة أو مستقبلية، وبهدف التوصل الى توحيد (أو على الأقل التنسيق بين) القوى الثورية المسلحة.

وعلى المسار الإغاثي، لايزال، وبعد مرور أكثر من عامين، يسود ضرب من التزاحم أو المنافسة، حيث تتقاطع المبادرات الفردية والبداهة المجتمعية مع المساعدات الدولية في مناخ أقرب الى الارتجال منه الى التنظيم. إن عملية تنظيم كبرى في هذا القطاع الحيوي باتت مطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، لأن معاناة السوريين في الوطن كما في المهجر، تهدد بالتحول، مع مرور الزمن، الى مأساة حقيقية.

الشعب

الضلع الثالث في المعادلة بعد السلطة والمعارضة هو بداهة الشعب. هنا بيت القصيد. إنه المبتدأ والخبر، إذا صح التعبير. الشعب هو خزّان الثورة الرئيسي، كان ولايزال، وبالتالي فإنّه من الملحّ والضروري بلورة خطاب سياسي واضح له. إنّ المتتبع للشأن السوري يصل بوضوح الى خلاصة جلية مفادها أنّ أكثرية واضحة من السوريين ترغب بقوة في التغيير المتمثل بالخلاص من النظام الدكتاتوري العسكري الحالي وإقامة نظام وطني مدني ديمقراطي مكانه، على أن ذلك لا ينفي وجود شرائح من المجتمع لاتزال تتمسك ببقاء هذا النظام. أما دوافع هؤلاء الى هذا الموقف فهي مختلفة.

في البداية، هناك العصبية. من المعلوم أنّ القبائل العربية، كان لكل قبيلة منها شيخها، فارسها أو فوارسها، وشاعرها المفضل في الجاهلية، وكان أفراد كل قبيلة يتعصبون لقبيلتهم عن حق أو باطل. وبعد ظهور الإسلام والقيم الجديدة التي حملها معه، خفت هذه العصبية ولكنها لم تنته تماماً… فقد استمرت تفعل فعلها في المجتمع بأشكال كثيرة أحياناً ظاهرة، وأحياناً مستترة مقنّعة. ولقد عبّر أعرابي قديم عن قوة هذه العصبية بعد ظهور مسيلمة الكذاب الذي إدّعى النبوة وكان من قبيلته حيث قال: ‘إن كذاب ربيعة (مسيلمة) أحب إلينا من صادق مضرّ (محمد ص)’. الآن وبعد مرور كل هذا الزمن، لاتزال هناك عصبية وحتى عصبيات، وكل نظام دكتاتوري يحاول أن يخلق لتدعيم نفسه عصبية خاصة به.

بعد العصبية، تأتي المصالح. لقد استطاع ‘النظام’ السوري الحالي، على مدى عقود حكمه الطويلة، بلف شبكة واسعة من المصالح المالية والاقتصادية المرتبطة به. وأصحاب المصالح هؤلاء ليسوا قليلين. إنهم يعدون بالآلاف، وهم ينتمون في الأساس الى فئتين رئيستين: فئة رأس المال، وفئة المشايخ بالمعنيين للكلمة (شيوخ العشائر أو شيوخ الدين).

أما الفئة الثالثة فهي أولئك الخائفون من المستقبل، أو الحيارى الذين لا يستقرون على رأي. إنّ التمسك بالقديم والخوف من الجديد المجهول سمة ملحوظة عند بعض الشرائح المجتمعية، ولابد من التعامل معها على أنّها ظاهرة ترتبط بقوة العادة والتعود.

وفي هذا الإطار لابد من فضح بعض الأساطير التي يحاول نشرها النظام مثل إنّه حامي بعض الشرائح أو الأقليات. فالدكتاتورية هي التهديد الحقيقي والخطر الأكبر على الكلّ، حتى على الدكتاتور ذاته.

خلاصة القول، هناك اليوم في سورية ‘دور يبحث عن بطل، وهذا البطل ليس فردياً، إنّه بطل جمعي أو جماعي. بعبارة أوضح لابد من مجموعة ريادية’ (قلنا ريادية ولم نقل قيادية). وإذا كان الرائد لا يكذب أهله، فإن على هذه المجموعة الريادية أن تتقدم وتكشف الطريق، غير عابئة بأية أخطار محتملة، وأن تنجز المهام الرئيسية المطروحة اليوم على الثورة السورية المتمثلة بعملية الفرز والتوحيد الكبرى على المسار السياسي والمسار العسكري، والمسار الإغاثي. كما عليها التوجه الى الشعب بخطاب سياسي بسيط وواضح لحشد كل القوى الحية في المجتمع وراء الثـــورة، كل ذلك في تركيز واضح وكدت أقول (تبشير) على الهدف الرئيسي والمركزي المتمثل بالخلاص من النظام، نظام الفساد والاستبداد والارتداد، وإقامة النظام الوطني الديمقراطي، الجواب التاريخي على أهداف الشعب الكبرى: الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.

‘ معارض سياسي سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى