صفحات سوريةفايز ساره

هل أقليات المشرق العربي مهددة فعلاً؟


فايز سارة

قلق الأقليات والقلق على الأقليات، يكاد يكون الموضوع الذي لا فكاك من طرحه، كلما جرى تناول الوضع في سوريا واحتمالاته المستقبلية، بل ان طرح هذا الأمر يتكرر بشكل دائم في الشرق الأوسط منذ نحو اربعة عقود مضت، راوح فيها الموضوع ما بين صعود وهبوط، طبقاً للتطورات السياسية والأمنية في المنطقة على نحو ما حدث إبان الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990) وبعد الغزو الإسرائيلي للبنان 1982، وعقب الحرب الدولية على العراق 2003، وفيها جميعاً ظهرت تخوّفات على الأقليات، لكن التركيز كان أكثر على المسيحيين.

ورغم أن كثيرين في المشرق العربي يتحفظون على مفهوم أقلية سواء أكانت قومية أم دينية أو طائفيه، ولهم بعض الحق في تحفظهم، حسبما أرى، فإن مشروعية التخوفات تصطدم بأمرين أساسيين أولهما سجل تاريخي طويل من تعايش الجماعات القومية والدينية والطائفية في المنطقة، وهو أمر كرسه تاريخها، حيث كانت منطقة مرور القوافل والجيوش وهجرات الأقوام. وفي كل الأحوال كان ثمة من يستقر في المنطقة، مكوناً احد معالمها الإنسانية، كما ان المنطقة، كانت نقطة ولادة وانطلاق الديانات السماوية الثلاث، وفيها ولدت أكثر طوائف وانشقاقات تلك الديانات، وكلها تركت بصماتها في بلدان المنطقة، ويكفي التدقيق في اللوحة السكانية للمدن القديمة مثل القدس ودمشق وحلب لملاحظة التداخل المتماسك في تلك المكونات السكانية، حيث يتجاور ويتداخل ويتشارك سكان المدينة في أحياء واحدة أو متجاورة منذ القديم، ويكفي القول إن تلك المدن لم تعش صراعات بين مكوناتها تستحق الوقوف عندها باستثناء دمشق التي عاشت مرحلة من صراعات 1860 ـ 1861 بين المسلمين والمسيحيين، وقد لبست في أحد وجوهها طابعاً طبقياً ومتأثراً بما جرى في لبنان وجرى حلها سريعاً بتدخل من الأمير عبد القادر الجزائري الذي كان قد وفد للتوّ إلى دمشق من الجزائر بعد ان هزم الفرنسيون ثورته ضدهم هناك.

الأمر الثاني تجسده وقائع حياتية معيشة بين مختلف المكونات السكانية، التي تتداخل في المدن والقرى والأحياء بما فيها من تفاصيل حياة مشتركة، وتتداخل سياسياً واجتماعياً في الأحزاب والجماعات ومنظمات المجتمع المدني، وتتداخل ثقافياً في المدارس والجامعات والهيئات الثقافية وهي متداخلة اقتصادياً في القطاعات الإنتاجية والمهنية، وهذه كلها بعض ملامح التواصل، وليست كله.

غير أن هذه التداخلات لا تمنع على نحو ما يحصل في أي من بلدان العالم، من تمايزات تخص مجموعة سكانية لها سمات أو أصول قومية ودينية أو طائفية وعشائرية أو مناطقية، تتخذ لها خصوصيات محدودة في السكن أو التوجه السياسي أو الخلفية الثقافية، أو في الاهتمامات الاقتصادية والمهنية.

وبخلاف ما تؤشر إليه موروثات القديم وعمق التداخلات الراهنة من اندماج للمكونات السكانية، فقد تم الاشتغال جديا لإذكاء التمايز والاختلاف بين تلك المكونات من خلال استغلال اختلافات الأصول القومية أو التمايز الديني والطائفي، وبعض هذه الاشتغالات ذات طابع محلي بحت تقوم بها هيئات وشخصيات تنتمي إلى واحد من التكوينات المحلية، لكن الأهم، كانت نتيجة تدخلات خارجية، ساهمت فيها دول وهيئات وشخصيات، قامت بجهود وأعمال ساهمت في تعزيز مخاوف المجموعات الأقل عدداً من المجموعات الأكثر والأضعف من الأكثر قوة. والحق فان خلفية تلك الجهود والأعمال لم تكن واحدة، لكن نتيجتها كانت شبه موحدة، وهي تعزيز الانقسامات، وجعل التخوفات متبادلة في أوساط سكان المنطقة وفي داخل بلدانها.

لقد عززت سياسات النظم الدكتاتورية والاستبدادية روح الانقسام في دول المنطقة، وسعّرت الخلافات بين المكونات السكانية باعتبارها الطريقة الأفضل للاحتفاظ بالسلطة وفقاً للشعار الاستعماري القديم والمعروف «فرّق تسد»، وتناغمت تلك السياسات مع سياسة نظام الاستيطان اليهودي حيال الفلسطينيين خاصة والعرب عامة، ولعل المثال الأوضح لهذه التقاطعات تمثله السياسات العربية والإسرائيلية التي تم إتباعها في لبنان وحيال تطوراته ما بين 1975 و2000.

لقد عززت السياسات السابقة في تنوّعها صعود الروح الأقلوية القائمة على تمايز ما، واعتبر البعض ولاسيما الأنظمة الحاكمة، ان هذا التمايز، يخلق أساساً لمشتركات تكون بديلاً أو موازياً لمشترك المواطنة الذي تقوم على أساسه الدولة الحديثة، والتي عجزت الأنظمة العربية القائمة عن تجسيدها، فاستمرت في إطار ماقبل الدولة الحديثة بما فيها من انقسامات وعلاقات تكرس معطيات ماقبل الدولة الوطنية والمواطنة.

لقد بينت جملة السياسات الخاصة بالأقليات في المنطقة بشقيها الداخلي والخارجي، ان الأقليات مهددة بالفعل نتيجة تلك السياسات القائمة على التشكيك والتخويف والتخندق، وخلق مراكز تسعى إلى تحالف الأقليات وسط مزاعم حماية الأقليات، لكنها في النهاية، لا تتحمل أية مسؤوليات سياسية أو أخلاقية، عندما يصيب تلك الأقليات أي ضرر أو مكروه، حيث دعاة حماية الأقليات والمدافعين عنها، لا يفعلون شيئاً أو انهم بين أهم القوى التي تضطهد وتدمر الأقليات، والأمثلة في هذا كثيرة بينها حال الإسرائيليين الذين دمروا المسيحية الفلسطينية من حيث مصادرة ممتلكاتها وتدمير وسائل عيشها وبقائها، وترحيل أبنائها إلى خارج وطنها بعد التضييق عليهم بما فيها من ملاحقات واعتقالات، ومثل ذلك حصل للمسيحيين في العراق بعد احتلاله العام 2003، الأمر الذي انتهى بتهجيرهم تحت سمع وبصر سلطة الاحتلال الأميركي.

إن المقابل لسياسات تهديد الأقليات والخوف على مستقبلها، يكمن في المسار العملي للحياة اليومية الجارية في البلدان العربية، وإن كانت تعيبها خروقات تحصل في ظروف استثنائية نتيجة سياسات سلطوية أو خارجية، فإنها تؤكد مسار العيش المشترك المستمر من القديم، بل إن حراكات الربيع العربي، ومقدّماته منذ بدايات العقد الماضي، أعطت لهذا المسار زخماً سياسياً وشعبياً هائلاً كان أحد تعبيراتها تأكيد الأساس الذي تقوم عليه بنية المجتمعات العربية وهي فكرة المواطنة وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة، والثاني إطلاق شعارات الوحدة والتضامن بين جميع المواطنين على نحو ما كررت هتافات المتظاهرين السوريين وقبلهم المصريين وغيرهم.

خلاصة القول، إن ما يُقال عن تهديد الأقليات والخوف على مستقبلها في المنطقة، يغلب عليه الطابع السياسي أكثر مما هو واقعي، وإن أغلب القائلين به، لا يتعاملون معه بصورة تتناسب مع أطروحاتهم، فيما الواقع العملي والتوجهات في الجماعات السياسية والمدنية وداخل الحراكات الشعبية، يرسم أفقاً يقوم على الشراكة والعيش المشترك في إطار المواطنة في دولة حديثة لكل مواطنيها، ولا يقلل من قوة وزخم هذا التوجه خروقات يصنعها أو يساهم في صنعها بعض دعاة حماية الأقليات وخائفين مزورين على مستقبلها!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى