بلغَ السيلُ الزُبى/ محمد صابر عبيد
حين يبلغ السيلُ الزُبى، ويبلغ الحزامُ الطبْيَين، كما كانت تقول العربُ العاربة، يتكسّر آخر غصن من غصون الأمل، وتندحر الرغبة في مواصلة النضال والكتابة والكفاح والتمرّد والعنفوان من أجل غدٍ أفضل لن يكون له وجود حيّ إلّا في جيوب الأحلام وخفاياها الغائبة. الخراب يزحف كالطوفان نحو المكان والزمان والجسد والروح والذاكرة والرؤيا ليغرقها بماءٍ طينيٍّ ملوّث بكلّ ما خلق الله وما لم يخلق من ملوّثات. لم تعد لنا أعصابٌ قادرة على تحمّل مزيد من فداحات الكوارث. الطبقات السياسيّة التافهة اللاهثة وراء محاصصاتها المخزية تحيط نفسها بآلاف الحرّاس المدججين بالامتيازات والنِعَم والمسروقات الثمينة، وملايينُ البشر من الفقراء والمهجّرين والمطرودين والمهمّشين والمعوقين والمشوّهين يعيشون بين المقابر والمزابل وفي متاهات الشتات، أحياءً في الموت وأمواتاً في الحياة. أيّ كتابةٍ في وسعها أن تشبع طفلاً جائعاً قضتْ أمّه في عبوة ناسفة؟ أو تنقذ امرأةً مقهورة مخطوفة من استباحة شرفها؟ أو توفّر لشيخ عاجز بلا معيل دواءً مفقوداً يقضي دونه؟ أو تلجم سياسيّي الغفلة عن جشعهم في امتصاص دماء النازحين والمحاصرين والمسجونين، والتلاعب بمقدّراتهم وبيعهم وشرائهم؟
إذا كان ثلثُ مساحة العراق العظيم مثلاً لا تسيطر عليه حكومةٌ لديها جيشٌ مليونيّ ومكوّنة من عشرات الوزراء لوزاراتٍ بلغتْ أرذل العمر لا تعمل ولا تنتج، وليس لها لونٌ ولا طعمٌ ولا رائحةٌ، وبرلمانٌ أعمى مكوّن من مئات الأعضاء المنتخبين في انتخابات عقيمة مفبركة وممسرحة، تُساق فيها الجماهير المغلوبة على أمرها كالقطيع، باسم الدين والطائفة والعشيرة والقومية نحو صناديق الاقتراع، وكلّ هذه الكتل السياسيّة لا ترى ما يحصل بشعبها من كوارث لأنّ عينها اليمنى (فقسها الله وأدماها) على جيبها الذي لا يمتلئ وكأنّه بئرٌ بلا قرار، وعينُها اليسرى (عافاها الله من العافية) على الخارج، وعشرون شخصية من هذه الشخصيات الفريدة في هذا الزمان تحرسها آلافٌ مؤلّفة من الفرسان الأشدّاء المدرَّبين تدريباً عالياً، تبلغ تكلفتها سنوياً ستة مليارات دولار أميركيّ بالتمام والكمال، هي نصف موازنة الكثير من دول الجوار التي تعيش شعوبها على نحو معقول، والعراقيّ من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب ومن الأعلى إلى الأسفل، يعيش من قلّة الموت كما يقول مثلنا الشعبيّ، على الرغم من كثرة الموت ومجانيته وسطوته وجبروته أينما ولّيتَ وجهك. إذا كان كلّ ذلك يزدهر في أرض الرافدين يوماً بعد يوم كما تزدهر الأخطبوطات، ولا بارقة أمل تسطع – ولو مصادفة – في الأفق، فلماذا نكتب؟ ولمَن نكتب؟ ونحن نتجرّع أنواع السموم بمباركة الأحزاب الدينيّة ورجالها المعصومين من الشرف والأخلاق والكبرياء، على هامش سرقة المليارات والكنوز والأحلام والذكريات والتاريخ والجغرافيا والكرامة والشرف والهويّة الوطنيّة وعلى رؤوس الأشهاد؟
لا خلاص – إذا ما بقيَ في نفوسنا ذرّةٌ من أمل مرتجى تجعلنا نواصل الحياةَ والكتابة – من غير هويّة وطنيّةٍ عراقية واحدة لا أثرَ فيها لدين أو طائفة أو قومية أو غيرها، يخرج الجميع إلى العمل، الشارع، السوق، المكان العام، بهويّة عراقية كأنّها خيمة كبيرة عملاقة لها علاقة بالسماء تظلّلهم تحت ظلّها الوارف العميم، وفي بيتك أيّها العراقيّ النبيل المُحبُّ العاشقُ المتديّنُ السكّيرُ الشاذُّ المجنونُ الكبيرُ الصغيرُ الذكرُ الأنثى وضمن خصوصياتكَ، أفعلْ ما شئتَ، أعبدْ من شئتَ، وتكلّمْ باللغة واللهجة والضمير والسياق الذي يعجبك، لكنْ عليكَ أنْ تؤمن بعراقيتك التي تتساوى فيها مع الجميع في الحقوق والواجبات. كم من الدهور نحتاج يا تُرى حتى نستيقظ على هذا الوهم الأقرب إلى المستحيل؟
جرائم بالجملة تُرتكبُ يومياً في حقّ البسطاء من الناس، تتناثر أجسادُهم في الشوارع ببشاعة لم يشهد لها العالم نظيراً، والمسؤولون: رؤساء ووزراء ونوّاب ورؤساء هيئات مستقلّة! ومسؤولون كبار في مناصب نسمع بها للمرّة الأولى، لا تهتزّ الكراسي تحت مؤخراتهم الثريّة، ولا تدمع لهم عين، ولا يتحرّك لهم ضمير، بحيث يقود واحداً منهم فقط إلى تقديم استقالته احتجاجاً على ما يجري، ولا أقول ينتحر.
اللعنةُ عليكم من أكبر واحد فيكم إلى أصغر واحد!
ما فائدة أن تجلس على كرسيّ وثير محاط من كلّ جوانبه بدماء الضحايا الأبرياء من أبناء جلدتك؟
أعرف أنّ علينا نحن طبقة المثقفين والأدباء والمفكرين والأكاديميين أن نلوذ دائماً بالأمل، وأن نكون قدوةً لملايين المهزومين من أبناء شعوبنا، غير أنّ طاقتنا على الصمود والتصدّي والتحدّي خارتْ، وانطفأتْ شعلةُ العنفوان في صدورنا بعدما قمعها الشرّ المستطير بآلة الكوارث بطريقة تتصاعد فيها صورة العنف والشراسة والبربريّة والدمويّة يوماً بعد آخر. لقد سبقتنا آلةُ الكوارث كثيراً ولم نعد قادرين على اللحاق بها. إنّها آلةٌ ساحقةٌ حطّمت الجبال والصخور والعزائم والتطلعات، وأتت على الأخضر واليابس والزرع والضرع، ولم تُبقِ شيئاً قابلاً للسرقة والنهب إلّا واستحوذتْ عليه بروحٍ ذئبيّة شرسة لا تُبقي ولا تذر، بحيث لم يبقَ لنا فضاءٌ يمكن أن نرفع فيه أصواتنا. تكبّلتْ أفواهُنا بسلاسل من قمعٍ أفقدتنا قدرتنا على النطق، فكيف سنحتجّ، أو ننتقد، أو نطالب بالتغيير، أو نعبّر عن آرائنا بحريّة ولا حريّة لنا حتى في السير على شوارعنا المخرّبة آمنين؟
لم يعد أمامنا سوى أن نرفع الراية البيضاء معترفين باندحارنا، لأنّ عدوّنا انتصر علينا انتصاراً ساحقاً، وأخصانا، وحطّم معنوياتنا، ولم نعدْ نحن يا معشر الجنود القدامى بقادرين على القتال، تكسرّتْ نصالنا وتهشّمتْ أقلامنا، وانسكب حبرنا الأسود على أرديتنا البيضاء فلا مناص من الإقرار بهزيمة نكراء نقف فيها خارج التاريخ بلا كلمات ولا قيم. السلطةُ والمالُ والقوّةُ وأسلحة الدمار الحضاريّ الشامل في أيديهم ونحن بلا أيدٍ، يبدّدون ثروات البلاد بأمزجةٍ خرقاء بالية تالفة باسم الدين والعقيدة والطائفة والقبيلة، حتى أوصلونا إلى أن نكفر بكلّ شيء لفرط ما خرّبوا عقول البسطاء الأمّيين وهم يصفقون لهم ويرفعون راياتهم وصورهم بعزيمةٍ غبيّة مخجلة، فبأيّ أسلحةٍ نقاوم فيالق الجراد وهي تخترق أبصارنا وأسماعنا ومخيلاتنا وعزائمنا؟ بأيّ الكلمات يمكن أن ندعو الله العزيز الجليل الربّ الحكيم كي يعيد لنا طوفان نوح، من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى مصر فلبنان، فهو الوحيد الذي في وسعه غسل أكوام الأدران والاستبداد والتناحر وغياب الحضارة والثقافة في مجتمعاتٍ فقدتْ تماماً شرط حضورها التاريخيّ في الحياة المعاصرة.
منذ تسعة أشهر وأنا أسير وحيداً في شارع اليأس. كان ثمّة رصيفٌ للأمل، كنت أرعى هذا الرصيف بكلّ ما أوتيتُ من بلاغة في التصرّف وفصاحة في القول، علّي أتمكّن من إبقائه على قيد الحياة لأحظى في غربتي بأنيسٍ قريب يسمع نداء حزني حين أحزن، ويمسح من جبهتي عرق الحمّى وهي تزحف على جسدي وروحي وتحاول أن تفتك بي بلا رحمة، ويهدهد حنيني القاسي كما يهدهد طفلٌ فقدَ لعبتَهُ المفضلّة ولا يعرف لها بديلاً، لكنّ رياح الفساد وقد أتتْ على كلّ شيء في مصير الوطن دكّتْ رصيفيَ الملاذَ وخلخلتْ أركانه، وبدأ يأس الشارع يزحف نحوه ويستولي على مقّدراته، وأنا أصارع وجودي في المكان حتى لا أضيّع البوصلة بلا فائدة. كلّما هممتُ أن ألتقط قطعة من زجاج رصيف الأمل المحطّمة انغرزَ رأسُها المدبّب في لحم أصابعي وأدماها، وكأنّ الدماء هي الشاهد الحيّ الوحيد على ما يذهب من جمالٍ حياتنا بلا عودة.
منذ تسعة أشهر وأنا أتلمّس ترابَ مدينة VAN (وان) وأحجارها ومقاهيها وبشرها وثلجها وجبالها وبحيرتها وأساطيرها كي أعلّمها اللهجةَ الموصليّة، والطعام الموصليّ، وأحكي لها عن تاريخ الموصل وآثارها ونهرها وعبق بيبونها ونكهة فستقها ودلال أهلها الطيّبين، وأحدّّثها عن مكتبتي التي اشتقتُ إليها حيث كنتُ أمضي فيها ما يقرب من عشر ساعات يوميّاً، فتسمع منّي ولا تجيب. حطّمَني هذا الصمتُ المبين وأنا أخسرُ في كلّ ساعةٍ تمرّ شيئاً من حرارة انتمائي.
الغربةُ تتجذّر في أوصالي، وتبحر في مسامات جلدي، وتدقّ ناقوس الخطر في وعيي الوطنيّ والقوميّ، وتهدّد معاقل إيماني، وتغيّر لغتي ومزاجي وتطلّعاتي، والوطنُ يبتعد مثل مسافر مهزومٍ يلوّح تلويحة الوداع الأخيرة نحو عالمٍ جديد من الوهم سيبتكره بعد حين؛ الوطن الذي ما عاد أرضاً للرافدين، ولا أرضاً للسواد سوى لافتات الموتى بسوادها الحزين، ولا أرضاً للأصالة والتاريخ والحضارة والذاكرة البشريّة المجيدة، ولا أرضاً للنخيل والحنطة والجوز واللوز والزيتون واللبن الرائب والأمانة والحبّ والفرح والأعياد والألوان، لم يعد ذلك الوطنَ الذي مدّ على الأفق جناحا وارتدى مجدَ الحضارات وشاحاً. صار وطناً للصوص والأفاقين والقتلة والمجرمين وشذاذ الآفاق والقراصنة والمرتزقة ومجهولي الهويّة.
بلغَ السيلُ الزُبى أيّها الربُّ الحكيمُ الكبيرُ المتعالي، ونحن بلا حولٍ ولا قوّة ولا أمل، فكيفَ يسعنا أن نعبدكَ واللصوصُ يسرقون باسمك، ويقتلون باسمك، ويزنون باسمك، ويراءون باسمك، ويمنعون الماعون باسمك أيضاً؟! أنتَ تمهل ولا تهمل كما يقولون، لكنّ المهلةَ انتهتْ وحان وقت الحساب، فهل تُنعم علينا بطوفانٍ عربيّ يأخذ الفصولَ العربية كلّها من ربيعها إلى خريفها نحو غرقٍ جحيميّ لا قيامة بعده؟!
النهار