صفحات العالم

بما يخصّ الافتراءات السياسية على الثورة السورية


ماجد كيالي

لم تتعرّض أية ثورة من ثورات الربيع العربي، لا التونسية ولا المصرية ولا اليمنية ولا الليبية، لما تعرّضت له الثورة السورية من ادّعاءات وافتراءات، على رغم أن السوريين قدموا أروع ملاحم التضحية، وكشفوا عن شجاعة وتصميم غير مسبوقين، وكابدوا في سبيل توقهم للحرية والكرامة معاناة وعذابات لم تشهدها قط أية ثورة من قبلهم؛ إنها حقاً ثورة مستحيلة، بكل المقاييس والمعايير.

هكذا فقد تعرّضت الثورة السورية منذ بدايتها إلى محاولات إنكار من قبل بعض جماعات سياسية، وبعض مثقفين، من المحسوبين على تيارات «قومية» أو «يسارية»، الذين حاولوا أن ينزعوا عن هذه الثورة النبيلة شرعيتها السياسية، وفوق ذلك شرعيتها الأخلاقية؛ لكأن العيش مع الاستبداد والفساد هو العادي والشرعي، سياسياً وأخلاقياً.

وانطلق هؤلاء في محاججاتهم وادعاءاتهم بداية، من اعتبار سورية مجرّد نوع من «جيوبولوتيكا « فقط، أي أنها مجرّد موقع جغرافي استراتيجي وسياسة علاقات قوّة دولية وإقليمية، لا أكثر، وكأنه ليس ثمة شعب ولا بشر ولا حقوق!

بديهي أن هذا الادعاء الفارغ، والمزيّف، إنما هو صنو منطق استعماري، وعنصري، قديم، لايرى أهل الأرض الأصليين، وينكر وجود الشعب، وهو منطق يتماهى مع نظم الاستبداد، بدعوى «الممانعة» و»القضية المركزية»، و»الأمة»، التي باتت في التجربة، وبعد تلك العقود التي مرّت محض ادعاءات لفظية، وشعارات للاستهلاك، لأنه ليس ثمة تمثّلات ملموسة لها في الواقع، ولأن الممانعة، ومقاومة العدو الخارجي، والردّ على التحديات الخارجية لايكون بمحو الشعب وتكبيله وتهميشه ومصادرة حقوقه. ومعلوم أن هكذا ادعاء هو بالذات الذي تغطّت به الأنظمة الشمولية لتكريس هيمنتها على الأفراد وعلى المجتمع والدولة، لتغطية نهبها للبلاد والعباد، ولتبرير تأخّر عمليات التنمية وغياب الحريات، فيما عرف بشعار: «لاصوت يعلو فوق صوت المعركة».

ثمة ادّعاء آخر، لايقلّ تدليساً وتزييفاً وخواءَ عن الادّعاء الأول، ومفاده أن الثورة السورية مطبوعة بطابع تيارات الإسلام السياسي، إذ يتناسى المدّعون هؤلاء، في غمرة محاولاتهم إنكار مشروعية الثورة، إنهم يتناقضون مع أنفسهم، ويكشفون معاييرهم المزدوجة، وكذا جهلهم بواقع سورية وتنوّع شعبها. فهؤلاء يتناسون أنهم هم أنفسهم يمحضون التأييد المطلق لسياسات إيران، لكأن هذه جمهورية ديمقراطية وعلمانية وحداثية، سيان بالمعنى الجزئي أو الكلي لكل من هذه الكلمات. كذلك يتناسى هؤلاء دعمهم واحتفاءهم بسياسات حزب الله في لبنان ونظرائه في العراق (وهنا لاأتحدث عن المقاومة ضد العدو)، في حين أن هذا الحزب ينطلق في كل ذلك من مصالح طائفية ومذهبية، وأنه هو بالذات ينتمي، أيضاً، إلى تيار الإسلام السياسي، تماماً كغيره، مثل الإخوان المسلمين، وحماس، وحزب التحرير، وغير ذلك من جماعات إسلامية.

ربّما لن يكون مفيداً هنا القول بالطابع المدني والشمولي لثورة السوريين فذلك جليّ الوضوح بدليل انتشارها في كل المدن والحواضر السورية، وبحكم مشاركة مختلف تلاوين المجتمع السوري فيها، بشكل أو بأخر، بغض النظر عن نسبة المشاركة. ذلك أن محاولة الحديث عن انطباع هذه الثورة بلون معين إنما هو محض اختلاق، ومحاولة تزييف للواقع، وبناء نظرية مفبركة له. إذ لايعني، مثلا، القول بأن اللون «السني» هو الغالب على ثورة السوريين أنها بداهة ثورة إسلامية، ذلك أن عموم السوريين، من الفقراء والغلابى والمتضرّرين هم من مجمل أطياف الشعب السوري، وان كان غالبية هؤلاء ينتمون إلى لون معين، ذلك أن الهوية الطائفية/المذهبية لاتعني شيئاً في تمثّلات الواقع، بالنظر إلى كونها انتماءات موروثة، وليست اختيارية. وفي حيّز الواقع يمكنك أن تجد في طائفة ما، المتدين وغير المتدين، والمنتمي للتيار الديني، واللامنتمي. كما يمكن أن تجد اليساري واليميني، والليبرالي والعلماني والشيوعي والقومي والوطني، إذ أن كل الطوائف مفتوحة على تقسيمات أو انتماءات اختيارية مثل هذه، إذ لايمكن تنميط الناس، في هذا العصر، وفق انتماءاتهم الأولية، الموروثة، حتى لو كانت انتماءات دينية.

وفوق كل ذلك فإن تأثير التيار الإسلامي في الثورة السورية، رغم كل مايبدو، ليس أزيد من تأثير التيارات الليبرالية واليسارية والقومية والعلمانية، ويمكن التأكد من ذلك في الشعارات المرفوعة، وفي الشخصيات الشبابية التي برزت في الساحات، والتي يمكن التعرف عليها من خلال أسماء الشهداء كما من أسماء المعتقلين والمعتقلات، على رغم محاولة البعض إبراز بعض الشعارات الإسلامية على حساب غيرها، لغرض التوظيف السياسي، أو لغرض التجاذبات والتنافسات بين القوى الفاعلة في الثورة السورية.

أيضاً، ثمة الادّعاء المشكّك بسلمية الثورة، فهؤلاء المدّعون يصرفون الأنظار عن أنهم أطلقوا هذا الادعاء في بدايات الثورة، وقبل حصول الانشقاقات في الجيش، وقبل تبلور بعض المظاهر المسلحة في بعض المناطق السورية. المعنى أن هؤلاء لم يكونوا يريدون من الأصل أن تأخذ هذه الثورة طابعا سلمياً، وأنهم أنكروا من الأصل هذا الطابع عليها، إذ لم يرفعوا الصوت احتجاجا على قمع المتظاهرين والمعتصمين السلميين في ساحات حمص ودمشق وحماه ودرعا، ولم يندّدوا قط بإطلاق الرصاص عليهم. والحال فقد اتجهت بعض قوى الثورة السورية نحو العمل المسلّح، ولكن ذلك جاء في إطار ردّة الفعل على الحل الأمني، وردة فعل على استهداف المتظاهرين السلميين بالرصاص، وكردة فعل على زجّ الجيش (حامي البلاد) في المواجهة مع الشعب. على رغم ذلك فإن الطابع السلمي للثورة السورية مازال غالباً عليها، هذا يحصل في دمشق ودرعا وحلب، وبدهي انه الاتجاه الأسلم والأفضل للثورة السورية ولمستقبلها.

يبقى الادّعاء بالتدخّلات الخارجية، والذي يحاول وصم الثورة السورية بأنها مجرّد فعل خارجي، لإنكار شرعيتها، وهو أكثر ادعاءات استهلاكا وخواء، فهاهي الثورة السورية بعد عام ونصف تشقّ طريقها لوحدها، رغم الآلام ورغم كل هذا الدمار. أيضاً ينسى هؤلاء المدّعين بأن إيران ذاتها تساوقت مع الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد أفغانستان، وفي غزوها واحتلالها للعراق، وأنها لازالت تعمل بالتنسيق معها في هذين الملفين، وضمن ذلك تنصيب قوى معينة في العراق، وهي ذات القوى التي رفضت مقاومة الاحتلال الأمريكي. وربما ينبغي التذكير بأن حزب الله (الذي نقدّر مقاومته لإسرائيل) سكت عن كل ذلك، وبالأخص عن تساوق الميليشيات المماثلة له مع الاحتلال.

وعلى أية حال فإن الثورة السورية المدهشة مازالت تشقّ طريقها، رغم الصعوبات والتعقيدات والأثمان الباهظة، بقوة أيمان السوريين بقدراتهم، وباستعدادهم العالي للتضحية، وبتوقهم للحرية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى