بمناسبة ذكرى فيرجِينيَا وُولف: عن شُعراء وكُتّاب صَادفهم سُوءُ الطالع وَوَاجهُوا مَصيرَهم المَحتُوم/ محمّد محمّد الخطّابي
«أشعر بأنني أكاد أفقد عقلي، أظنّ أنّنا لا يمكننا أن نتحمّل مرّة أخرى تلك اللحظات الرّهيبة، لقد بدأت أسمع أصواتاً، ولم أعد أستطيع التركيز، لقد وهبتني كل السّعادة الممكنة، حتى جاء هذا المرضُ اللّعين، وبدّد سعادتنا وأحالها إلى جحيم مقيم لا يُطاق، لم يعد في مقدوري مواجهته، أو مصارعته، بدوني أعرف أنّك تستطيع أن تعمل كذلك، سوف تفعل، إنّني على يقين من ذلك، لقد أصبحتُ عاجزة حتى عن الكتابة كما ترى، كما أنّني لم أعد أستطيع القراءة، لقد كنتَ صبوراً وطيّباً معي إلى أبعد حدود، لقد فقدتُ كلَّ شيء إلاّ طيبتك، لا أريد أن أجعل حياتك جحيماً أكثرَ ممّا أنت فيه الآن بسببي، لم يكن هناك شخصان سعيديْن في هذه الدّنيا مثلما كنّا نحن الاثنين». (من رسالة فرجينيا وولف إلى زوجها).
الكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف (1882-1941) ــ التي احتفل «غُوغل» في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي بعيد ميلادها ــ جاءت إلى هذا العالم منذ 136 عاماً في لندن، وتؤكد معظم الأنطولوجيات التي تعرّضت لحياة الكاتبة الغريبة الأطوار أنها تأخّرت في النطق بعد ولادتها، ولم تنبس ببنت شفة سوى بعد سنوات من عمرها، كان المنزل الذي ولدت فيه يعجّ بالأطفال، هذا ما أكده أحد أقاربها وهو كينتين بيل في كتابه عنها «حياة فيرجينيا وولف 1972»، حيث يشير إلى أن أمّها ماتت وهي في الثانية عشرة من عمرها، حيث أصيب والدها باكتئاب شديد، تزوجت فيرجينيا في الثلاثين من عمرها من الكاتب والناشر ليوناردو وولف الذي أشرف على نشر «الأرض الخراب» لأليوت، والأعمال الكاملة لفرويد، بالإضافة إلى نشره لأعمال أدبية وشعرية أخرى، وذات يوم وهي في حالة نفسية عصيبة كتبت إلى زوجها رسالة مؤثّرة قبيل أن تحشو جيوبَ معطفها بالحجارة وتلقي بنفسها في نهر قريب من منزلها.
كُتّاب آخرون على دربها
تجدر الإشارة إلى أنه للإسباني خوسّيه لويس غاييّرُو كتاب بعنوان «أنطولوجيا الشّعراء المُنتحرين» ترجم فيه للعديد من هؤلاء الكتّاب والشّعراء الذين ساروا على درب فيرجينيا وولف، وقد ناف عددُهم على الخمسين. ويشير الناقد الإسباني كارلوس أثانجو» في هذا القبيل إلى أنه: «ليس في مقدورنا إيجاد أيّ تفسير أو تبرير لهذا المروق الفكري، والجنوح العقلي لهؤلاء، والطامة الكبرى أنّ بعض هؤلاء الشّعراء انساقوا نحو الانتحار بواسطة الإلهام الإبداعي ذاته عندهم». وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أنّ الشاعرة اللبنانية جمانة حداد كانت قد أصدرت عام 2007 كتاباً أثار جدلاً واسعا عند صدوره، اختارت عنوانه من قصيدة للشّاعر الإيطالي المنتحر تشيزاري بافيزي: «سيجيء الموت وستكون له عيناك» (مئة وخمسون شاعراً انتحروا في القرن العشرين) وهو عبارة عن مختارات شعرية، جمعتها حداد لشعراء وجدوا في الانتحار تعبيراً نهائياً عن مسيراتهم الإبداعية، وقد أحصت في هذا الكتاب خمسة عشر شاعراً عربياً وضعوا حدّاً لحياتهم خلال القرن العشرين، منهم .. الشّاعرة اللبنانية أمل جنبلاط ، خليل حاوي، المصري منير رمزي، السوري عبد الباسط الصّوفي، الأردني تيسير سبول، عبد الرحيم أبو ذكري من السودان، إبراهيم زاير من العراق، الجزائري عبدالله بوخالفة، كريم حوماري من المغرب، ومصطفى محمد شاعر سوري كردي.
لحظة الغرق
يتساءل الناقد غارسيا بوسادا هل يحمل الأدب الحديث في طيّاته بذور السوداوية والشرّ إلى هذه الدرجة؟ على الرّغم من أنّ هذا الأدب هو موسومٌ بآثار الطلائعيين الذين يعتبرون هم بدورهم أبناء شرعييّن للشّعر الرومانسي الحالم، فضلاً عن أنه داخل الأدب فإنّ الشّعر بالذات يُعتبر أرقى ضروب الفنون جميعاً وأرقّها وأرقاها. ويشير صاحب الكتاب إلى أنه وضع هذا المؤلَّف تكريماً للفشل مع اعتبارات أخرى، ويكفي أن نذكر هنا أنّ صاحب رواية «الغريب» الفرنسي ألبير كامو علّق ذات يوم على ذلك، فأشار إلى أنّ هذا النّوع من الفشل غالباً ما يُقترن بالطموحات الكبرى. إنّ الشّاعر عندما يبحث عن التوازن النفسي في الحقائق الحياتية، وفي مواطن ومناهل الخلق والإبداع الفنيّ التي تناغي ضميرَه، فإنّ ذلك يشبه التعلّق أو التشبّث بكتلة خشب، أو بكومة قشّة في لحظة الغرق، إنّ «غوته» في بعض شطحاته الفكرية أنقذه أبطالُ أعماله من الدّمار، فالرّواية الرّومانسية ظهرت تحت شعار الحبّ القاتل، واقترنت بأعمق معاني الصّبابة، والجوى، والهوى، والتّيه والوله، والهُيَام. كلّ هؤلاء هم ضحايا تفكيرهم المختلف وحُكمهم على الحقائق، والواقع، والأشياء فكانت حياتهم عذاباً مقيماً، وبينهم وبين الموت والحياة خيط رفيع. إنّ الرّموز التي تطفح بها أشعارُهم، والمِزاج الأسود الذي يطبعهم يزيدنا حيرةً، ويرسم نصبَ أعيننا علامات استفهام ضخمة بشأنهم.
طريق محفوف بالمخاطر
طريق الأدب والخَلْق والإبداع إذن لم يكن دائماً مفروشاً بالورود والأزهار، بل إنّ غيرَ قليلٍ من المُبدعين الكبار وسواهم عاشوا حياة الشظف والفقر، والتعاسة والمعاناة، وحاق بهم الفشلُ في حياتهم في مختلف جوانبها، في الحبّ والزواج والعمل. كثير من هؤلاء المبدعين الذين صادفهم سوءُ الطالع في حياتهم، زجّوا بأنفسهم في هوّات التّيه، مُعجِّلين بخَلاصهم المحتوم. وفي ما يلي نماذج من هؤلاء وعالمهم..
أبو السُّريالييّن
جيرار لابروني دي نيرفال (1808 ـ 1855) كان من أكبر الشّعراء الرومانسيّين الفرنسيّين، ويؤكّد أندريه بريتون في بيانه السّريالي الشهيرعام 1924 أنّ نيرفال كان أوّلَ من استعمل مصطلح السّريالية في مقدّمة كتابه «بنات النار» (1854) . كان قد شرع في ترجمة «فاوست» لغوته، الذي تحمّس لهذا العمل لدرجة أنه سلّمه المخطوط الأصلي باللغة الألمانية لهذا الكتاب. وعندما بلغ 26 سنة من عمره ورث ثلاثين ألف فرنك فرنسيّ ذهبيّ. وكان يكتب باسمٍ مستعار وهو نيرفال. أقنعه بلديُّه ومعاصرُه الكاتب الفرنسي أونوري دي بلزاك بإنشاء مجلة بهذا المبلغ، إلاّ أنه بعد مرور سنة واحدة، كان قد أفلس. وعندما بلغ الواحدة والثلاثين من عمره، لم يعد لديه مسكن يأوي إليه، وفي عام 1855 اكتشف سكّير متشرّد في أزقّة باريس جسدَه مُسجى على الأرض، مُغطّى بالثلوج. من أعماله «رحلة إلى الشّرق» (1854)، «بنات النار» (1854)، «أوريليا» أو حلم الحياة (1855).
النّوم الأبديّ
ألفونسينا ستورني (1892 ـ 1938) عادت من أوروبّا إلى بلدها الأرجنتين بعد أن كانت أسرتها قد هاجرت من هذا البلد الأمريكي اللاتيني إلى سويسرا. وبعد وفاة والدها، اشتغلت في مصنع للنسيج ونادلة، ثم ممثّلة، ثم أصبحت بعد ذلك أستاذة في مدرسة اللغات الحيّة عام 1935 في بوينس أيريس، كان هَوَسُها البحث عن المساواة بين الرّجل والمرأة، ومنذ 1916 نشرت أوّل دواوينها الشعرية، وأصبحت مشهورة تقرأ الشعر في الأحياء الفقيرة في بلدها الأرجنتين، كان شِعْرُها حزيناً عميقاً ومؤثّراً.
وبعد عودتها من رحلتها الثانية لأوروبّا اكتشف الأطباء أنها كانت مريضة بالسرطان، وذات مساء من شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 1938 خرجت من منزلها وضاعت في غياهب المحيط الهادر في بحر الفضّة في الأرجنتين. بعد أن تركت قصيدة مكتوبة بلون أحمر على ورق أزرق تحت عنوان «سأخلد للنوم الأبدي». من أعمالها «قلق غصن الورد» (1916)، «السّنة الحلوة» (1918) «الكسل» (1920).
معاناة تسفيتيفا»
مارينا تسفيتيفا (1892- 1941) يعتقد النقاد أن هذه الشّاعرة الرّوسية كانت ضحيّة عصرها، كانت حياتها سلسلة من المعاناة الدائمة، والعذاب المتواصل وقد صادفها سوء الحظ، حيث قادها كل ذلك إلى الانتحار، بعد أن جاوزت سنّ الأربعين بقليل، كانت تنتمي لأسرة ميسورة بورجوازية راقية، وألحقت الثورة الروسية أضراراً جسيمة بها وبعائلتها، بعد أن صادرت السلطات الرّوسية ثروات زوجها، الذي كان يعمل في الجيش الرّوسي، ثم اختفى فجأة بشكل مؤقت، وماتت ابنتها أمامها جوعاً. وفي عام 1922، تلتقي من جديد مع زوجها ثم تتّجه نحو براغ ثم إلى باريس، حيث تقيم لمدّة أربعة عشر عاماً. وبعد قراءتها نصّاً لماياكوفسكي اقتنعت بأنّ مكانها الحقيقي هو روسيا، حيث انتقلت عائلتها قبلها إلى هناك عام 1937 في انتظار أن تلتحق بها، وبعد سنتين من وصولها إلى بلدها، اكتشفت مارينا تسفيتيفا أنّ ابنتها تمّ إدخالها إلى أحد معاقل التعذيب، وأنّ زوجها تمّ إعدامه. فاتّجهت عام 1941 نحو قرية إتبورجا حيث ماتت شنقاً.
فنّ عدم الاستمتاع بالحياة
سيزاري بافيزي (1908 ـ 1950) كتب هذا الشاعر الإيطالي ذات يوم يقول «سيأتي الموت وسوف ينتزع عينيك»، إلا أنّ الموت لم يسعَ إليه، بل هو الذي سعى إليه سعياً بتاريخ 26 أغسطس/آب عام 1950، حيث ابتلع 16 علبة كاملة من الحبوب المنوّمة. أصبح بافيزي يتيماً في سنّ مبكرة وهو لمَّا يتجاوز بَعْدُ الستّ سنوات من عمره، وعندما بلغ التاسعة عشرة كان قد طفق يعبّر عن ملله من الحياة وتعبه منها، على طريقة أبطال ألبرتو مورافيا، حيث كان يسمّي نفسه بـ»أستاذ في فنّ عدم الاستمتاع بالحياة»، وبعد أن حصل على دكتوراه من تورين عمل في دار النشر إيناودي، وفي عام 1935 حكم عليه بثلاث سنوات سجناً نافذة لتدخله في حياة خليلته السّابقة «تين» وخطيبها الذي كان من مسيّري الحزب الشيوعي الإيطالي، وبعد خروجه من السّجن اكتشف أنّ حبيبته «ذات الصّوت الملائكي الحُلو» هجرته وتزوّجت غيرَه. وبعد عام 1941 بدأ في نشر الرّوايات الواحدة تلو الأخرى. وعلى الرّغم من النجاح الواسع الذي حققه، فإنّ ذلك لم يكن سبباً كافياً لاستعادة توازنه النفسي، وبعد بضع سنوات وضع حدّاً لحياته.
تعاسَة وخِذلانَ
غابرييل فرّاتير (1922 -1972) ينتمي هذا الشاعر لجيل الخمسينيات، وهو يُعتبر من أكبر الشّعراء الإسبان الكتلانيين المعاصرين. وصفه نقادُه بأنه كان شديدَ الذكاء والفطنة، إلاّ أنه كان عاثر الحظ، سيّئ الطّالع، قليل المال، كان في غرفة أحد الفنادق، وقد ترك رسالة يقول فيها «الواحد منّا لا يجعل حداً لحياته بسبب حبّ امرأة، بل إنّه يموت وحسب، لأنّ أيّ حبّ يؤرقنا، ويفضح بؤسَنا، ويعرّي تعاستَنا وخذلانَنا، ويجعلنا نغوص في العدم». كان باحثاً مجيداً، وناقداً فذاً ومترجماً حاذقاً لهمنغواي، وسيزاري بافيزي، كان غابرييل فرّاتير قد حدّد نهاية لحياته في الخمسين من عمره، وقبل استيفاء الأجل، ربط كيساً من البلاستيك حول رأسه.
القراطيس الصُّفر
بيدرو كاسارييغو (1955 ـ 1993) كان يقول: «لو أُطلق يوماً اسمي على أحد شوارع مدريد فإنّه سيكون ولا شكّ شارعاً بارداً» إلاّ أن أشعاره لم تكن كذلك، بل كانت تحفل بالدفء والحرارة والقوّة، كان يكتب أشعاره وكأنها روايات متشابكة متسلسلة مترابطة، تكوّن في النهاية قصّة محكمة متراصّة شعراً. من أعماله: «الحياة ضجر»، وغنيّة عن التعريف في الأدب الإسباني المعاصر دفاتره «الصفراء والحمراء والزرقاء والخضراء». كان رسّاماً بارعاً كذلك، وقد خلّف لنا رسومات في جودة متناهية. وفي عام 1993 ولدت ابنته الوحيدة خولييتا التي أهداها إحدى قصصه. إلاّ أنه بعد يومين من نشر هذا الكتاب وضع حدّاً لحياته.
كُتّاب آخرون واجهوا المصير نفسه
ومن الشّعراء الغربيين الآخرين الذين صادفهم سوءُ الطالع في مِشوار حياتهم، وواجهوا المصير المحتوم نفسه، ومعظمهم غير مدرج في كتاب خوسّيه لويس غايّيرو.. الإنكليزى توماس شاترتون، الألمانية كارولين غوندرود، البرتغاليان أنتيرو دي كينتال وماريو دي ديسكارنيرو، الكولومبي خوسّيه أسونسيون سيلفا، النمساوي جورج تراك، السّويسري أرثور كرافن، الرّوسي سيرغي إسينين، الأرجنتيني فرانسيسكو لوبث ميرينو، اليوناني كوستاس كاريوتاكيس، الرّوسي فلاديمير ماياكوفسكي، والشاعرة الإنكليزية سيلفيا بلاث التي حشرت رأسها داخل فرن منزلها في لندن، وغيرهم الكثير.
القدس العربي»