صفحات الثقافة

بنادق أكثر من الحمائم/ فرانسيسكو دي أسيس فرناندس

 

 

 

الشاعر ومرآته

 

شخصٌ ما يعيش في مرآتي

المصنوعة من لحظات رؤيتي،

وبسببِ عُمرِها

يبدو أنَّ بها، جانب أحلامي الفاسد.

 

تلك لم تكن حالها منذ سنوات

الزمنُ جعل منها أخرى

تعطيك انطباعاً بتخلّيها عن الكثيرين

وفقدانها الجمال الشاب.

 

الجوُّ باردٌ من حولها، والمطرُ يتساقط

رجلٌ ظاهرٌ في المرآة محفوظٌ ومنعكسٌ

وفي بعضِ المرَّات يردِّد كلماتي كصدى أعمى.

يُحزنُني أنَّ آلامه العظيمة جعَّدت بشرته

وأنها قد ظلَّلت بالوحدة، أفكار البؤس.

ساقيَّ كدجاجةٍ في العينين وهالتيْن عميقتيْن.

أرتعبُ من نظرات الاستسلام واللوم

التي ترفضُ أن تكون شريكةً في السعادة والكذب.

نبرتها مصنوعة من الأفكار فلا تسمع قيثارتي،

ويوماً عن يوم، تُشبه أبي أكثر.

 

لها وجه أبي الذي اجتاحه الحزن

رافضاً تبديد أعمالي وأيامي

كي أُخلصَ للبيت والأحلام أكثر.

أبي

الذي يُقارن عالمه المليء بالتأملات

بعالمي اللامطمئن، إن بفرحٍ أو بحزن،

في الحقيقة أو الكذب، في النثر أو في الشعر،

وأراني كأيلٍ شاب يقفز في المنحدرات بين الصخور والأشواك.

وحين يمرِّر يده كمشط على شعره يبدو كمن ينتزع من الجذور

شبيهه معي

وأنه لا يريد أن يمتلك صورتي الدنيوية

بظهوره المفاجئ

كي يعكِّر سعة وحدته

في إطارِ محبسه.

 

 

مع أناي الثانية

 

ثمَّةَ ممرَّاتٌ سريَّة بين هذا المجهول من المرآة

والكلب المسعور الذي يسكن قلبي وتجاعيدي.

يحشرني، ينوِّمني مغناطيسياً ويوقظني ممزَّقاً من البكاء.

 

ماذا يخفي حزنه الأبكم حين يسأل:

أرقصت مع موسيقى متخيلة ولم ترَ سعادة طفولتك؟

ماذا تعرف عن انفصال والديك وعن حطام عائلتك؟

من من الإثنين يمتلك الجانب الطري

وما الجزء الخارج من فم التنين؟

أسوأ الشياطين تلك التي تأتي من نقص الكبرياء في الخلوة أمام المرآة.

يأخذون منك دم جسدك، يكذبون عليك، يخدعوك، يخونوك،

ويجعلون من قلبك كلباً مسعوراً

يكسب رزقه من فتح الأموات دون أن يعرف أين يدمجهم،

هذا اليوم الجديد يكتشفني كي يضع هذا المجهول في المرآة.

استبدلوا الزجاج بطوب المياه الشفافة

المصنوعة من الأنقاض الباقية من أمطار الطوفان الغزيرة

والدموع الهادرة للمآسي العائلية.

 

 

الخوف من الموت

 

خوفاً من الشيخوخة تجاوزت الخوف من الموت

من كل ما جنيت من الحياة

تجاوزت الخوف الزائد من فقدانه كله.

في هذا العمر يكون الندم كوابيس وأشباح،

تصل للذاكرة وتجعل الليالي أسوأ، تضايق وتعاقب.

بيت مشتعل بحجرات ذاكرة مغلقة

تنطفئ ثم تعاود الاشتعال واحدة واحدة،

في مناطق واسعة من الظلمات المتقدمة لا يمكن السيطرة عليها.

كنت أريد أن أكون ما كنت.

دائماً يتبعني اللهب المحترق،

كي ينمو لي ريش أبيض في العنق والظهر حينما أطير

تحرقني الشمس وتهدّني

كي ينزع الشِّعر الفضيلة عني

ويلقيني وحيداً في الصحراء الإنسانية.

لكن خوفي الحيواني هو الموت،

هو أن يختفي يأسي وضياعي،

هو أن يكون من الطبيعي أن تكون أناي هي العدم

وأن تنمو أظافري وشعري في وحدة الأرض

وأن يعود جسدي حفنة من غبار:

الخوف من أن الأحشاء والحماقات الذابلة في حياتي في هذه الحفنة من الغبار

ولا أحد ينظر إليك في هذه الرحلة لطبيعة الطيور،

وبشفتين باهتتين لامرأة لا حول لها ولا قوة.

 

 

بحَّار مخمور

 

هناك أغانٍ وعطورٌ غيَّرت لي اسمي،

المدينة التي أعيش بها

حماسةَ وقلقَ العيش.

يأخذونني كبحَّار مخمور في العاصفة

مع بحرٍ مليءٍ بالحيتان بين الصدر والظهر.

مع أوديس دون خُدع أمضغ حوريَّات جميلات وهامشيَّات

وأقرأ قروناً طوال كي أتعلَّق بالصفاء.

تهويدات ثملة. عطور نساء وزهور.

السماء تنفتح والبحر ينفلق.

وواحد مشتبك بفم الأشعار والمشاعل بحنق الرؤى والأحلام

مخضعاً القمامة، السهل والحكمة.

والنثر العفن كي ينهض صباحاً.

 

 

ثمالةُ منتصف الليل

 

قليلاً كحيوان، قليلاً كشاعر

قمامات العالم تخنقني

تماماً كما ألمس صفحتي البيضاء بأيدٍ نظيفة.

أريد أن أنام كحصان لا يعرف مكان نومه

كي لا أرى الظلال في الغباش.

أأراها في عينيَّ أم هي داخلي؟

ماذا تريدون مني؟

ماذا تريدون من عالمي؟

تتحسَّسونني كمتسول يدق على بابي

وأنا أتحسَّس أيديكم ببؤس.

أراهم وتغرورق عيناي

والشك يخرج من فمي.

أترك الأنوار مشتعلة طيلة الليل

كي لا أراهم يأتون بأيد فارغة ممدودة.

ما أَشُقُّهُ في ذاكرتي يجرحني بحوافّ بالية.

إنَّها السواحل الصخريَّة التي مرَرْتُ بها مرَّة كأميرٍ وأُخرى كمتسوِّل،

محاولاً أن أنقذ نفسي من هيروشيما، خولييتا وأوفيليا.

أحلمُ بالصور والكوابيس

ولا أقدر أن أكبح الوحوش المفترسة لذاكرتي.

فهي تبدو كريحٍ عنيفة،

كحشرة صغيرة في الغيوم مدحوشة بأحلامي.

هناك فقط أرى حبيباتي يُشبهن ممثلات الأفلام،

لكن دون قلم الرصاص الغامق على وجه الحقد،

دون وجه الرماح المصوَّبة نحو العتمة.

أجواء أفلام حياتي

لها جلد فون *، رماد، بتلات ونوافير تريفي،

موسيقي معتوه يجتاز حبال الملائكة

وقبطان الأنوار مجروحٌ عند تقاطع السكك الحديديَّة

لكنني اليوم ضأن بري عابس في زق قديم

خائفٌ من الوحدة ومن النهايات اليائسة.

وما أنا الآن سوى نموذج قديم لعمر الـ 45 غير المكتمل

الذي لا يريد أن يتخلص من كثير من النفايات،

ولا حتى من الأصدقاء البائسين،

ولا من ملهمات الشعر الضعيفات،

ولا من الشويعرين العقلاء والفضائل الجميلة العارية.

كلها أفضل من لا شيء

في هذا البلد الذي يضم بنادق أكثر من الحمائم.

 

* آلهة الحقول والقطعان عند الرومان

 

 

مراسل حربي

 

في ذكرى صديقي العظيم

الشاعر آلبارو أورتيتشو

 

ما أثبته في شعري

أؤكِّده ببكائي.

أنا مراسل حرب

قصائدي تقاريرُ جروحي.

في هذه الحرب فقط إن حطموا قلبك

تستطيع أن تسلِّم قطعة صادقة منك

أو سرَّ العذاب الشخصي

المخبّأ في نشيد طيرٍ مُختفٍ.

هذه الحرب أحدثت في جسدي خريطةً من الأوشام:

وشم الورود الجافة هذه تحكي عيوبي؛

هذه الأسماء النازفة، تحكي وحدتي

الثعابين تنام معي

مع السم الذي يخنق أملي؛

هنا في هذه اللحظة، أنا صياد وهذه المرأة فريستي،

ولا أعرف إن كنت معجباً بالصيد أم بالفريسة؛

فهنا، أنا مع قطة متوحشة ترقص موسيقى وهمية

وتلمس مفاتيح البيانو وأوتار الكمان الأربعة

التي أصبحت اللحم الباطني لحيوان غريزي،

تجعلني كلباً غاضباً ينبح للقمر

ودودة تبحث عن صنارتها

هنا أبدو وكأنني أسبح مع ملائكة وأسماك قرش

وعلى ظهري نصٌّ يقول

هناك ملايين الحالمين في هذا العالم

جميعهم يستطيعون الذهاب للجحيم

لأنني أحلم بالحياة بعد الموت

ببريق بيتي في السماء،

رغم أنني لا أعرف إن كان بالإمكان رؤية هذا الجانب المعتم من حياتي من ذلك المضيء

أنا مراسل حربي

سعادته متعبة دون طموح،

نجمةٌ مظلمةٌ زائلةٌ لأيٍّ كان

تحتمل قلق الحاجة للمنطق،

تلاحق الحقيقة والكذب المُرتَّقَيْن في ملابسي القديمة

تدرك أنَّ الجمال والحبَّ هي أزهار لاحمة

تنكسر، تتجمع بقاياها،

تتكاثر

تموت ثم تولد من جديد.

 

 

الجريمة الكاملة

 

قرِّب يدك لقلبي

القادر على ارتكاب جريمة كاملة

والنظر للخلف وتمنِّي ماضٍ آخر

كان من الممكن ألا يكون وأن يتحمَّل القادمَ،

قادرٌ على نسيان ما أَحَبَّ

قلبي الذي ينسى

يتحمَّلُ ذنب عثراتي وزلَّاتي.

روحي الممزقة تُعيدُ حياكة كل ما أُحب

في حميمية الليل

دون أن تضع حداً لحياتي.

أعزف البيانو في عالمٍ وفي آخر أمزِّق الأوتار.

وردتي مُتشردة لكنَّها سجينتي.

وحين أرفع قبضتي أكون قد استسلمت.

جزر كثيرة مهجورة هي احتضاري

لست آبه بالخسارة

ولا آمل بالكسب.

كيف لي أن أؤمن بقلبي

إن كان بإمكانه أن ينسى أجزاء كبيرة من حياتي؟

كيف له أن ينسى العُمر، حين كانت تروقه الحياة

وكان يشتريها بالأشعار؟

فرانسيسكو دي أسيس كان طيراً فصيحاً

بقلب مشوَّش

بوجه جميل حزين تارة وسعيد أخرى.

النسيان جريمة كاملة

لكنه يجعل الجدران تنهار

ويترك الساحرَ دون طيورٍ مخفيَّة

النسيان وترُ كمانٍ بائسٍ

يُزعج حلمي ولا ينجح في إيقاظي

النسيان جريمةٌ كاملة

يجعل حبّي لا يقترن بحبيبي

ويترك علامات لا تمحى لتَتَبُّعِ القاتل.

 

 

* Francisco de Asís Fernández (غرناطة/ نيكارغوا – 1945)، كغيره من شعراء جيله، ناضل في الحركة الساندينية ضد الديكتاتور سوموسا حتى سقوطه. نشر العديد من الأعمال الشعرية، منها: “آلامُ الذَّاكرة” (1986)، “إفريز الشِّعر” و”الحُبُّ والموتُ” (1997)، “شجرة الحياة” (1998)، “احتفال البراءة” و”تدوير الشعر” (2001)، “مرآة الشاعر” (2004).

 

 

** ترجمة عن الإسبانية: غدير أبو سنينة

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى