صفحات العالم

بوتين (السوري) مؤسساً لإمبريالية الفاشية الجديدة/ مطاع صفدي

 

استقالة الدبلوماسي الإبراهيمي ليست شخصية فحسب. كأنه يعلن استقالة الحلول السياسية كلياً من صيرورة النكبة السورية. كانت هذه النتيجة مفهومة ومتوقعة منذ بداية المهمة التي تقبلها الإبراهيمي عن طيب خاطر رغم يقينه المسبق بعقم المحاولة. فلا حلول سياسية في ظل معارك القوة الغاشمة المشتعلة بين أطراف الأزمة. ليس هذا فحسب بل لأن هذه المعارك عينها لا يراد لها أن تنتهي، ولا أن تكون النهاية نصراً لفريق وهزيمة للفريق الآخر. إنها حرب طواحين كبرى صاخبة مستمرة في السحق والمحق من دون أي هدف آخر. فلا يمكن لأحد أن يدّعي أنه صاحبها أو قائدها، من بين جميع المرتزقة في حساب محاصيلها العبثية الدامية. ومع ذلك فإن لهذا العنف المجنون أطرافاً متعارضين من المستغلين، المتعطشين للمزيد من فظائعه وديمومته، وتجاوزه لأعلى معدلات الهمجية المعروفة والمستجدة. ولعلّ المستغلّ الأكبر لهذه المقتلة هي السياسة الدولية نفسها التي تدعي حفاظها على السلم العالمي، فهي عملياً أمست الخبيرة العظمى بأنواع ما يُسَّمى تجارات الحروب ببضائع الدبلوماسيات، من ‘حوارات’ و’اتفاقيات’ السلام الزائفة غالباً.

حتى لا نذهب بعيداً عن الجغرافية العربية، لنتذكر فقط أن قرار تقسيم فلسطين في أعقاب الحرب العالمية الثانية، قد حكم مختلف خطوط التطور السياسي والاقتصادي وحتى البنيوي للمشرق العربي طوال سبعين عاماً تقريباً. وهو عصر الانقلابات والحروب الإقليمية والأهلية التي لم يعش العرب مثيلاً لها حتى في أحلك عصور انحطاطهم الحضاري. هذا التقسيم المشؤوم كان من أولى ثمرات الدبلوماسية الدولية لعالم النصف الثاني من القرن العشرين، وقد تلاقت حول بنوده قوى الغرب والشرق آنذاك، أي أمريكا وأوروبا والاتحاد السوفييتي، وحتى الصين كان قمة المظلومية العربية المستديمة. ولقد نسجت بقية الإتفاقيات الدبلوماسية في هذه المنطقة على منواله، من معاهدة كمب ديفيد إلى تفاهمات أوسلو. ليس هذا فحسب بل حتى الحرب الأهلية اللبنانية انتهت صورياً تحت بنود اتفاق (الطائف)، لكنها استمرت سياسياً في بلد الأرز حتى أزمة الرئاسة الراهنة، والانقسام الأهلي العنيف إزاء سلاح حزب الله وإيران.

هل يمكن للمقتلة السورية أن تنجو من هذا المصير سياسياً دبلوماسياً أو عسكرياً أو إرهابياً، حتى . بل هو الأمر على العكس تماماً. إذ تبرهن هذه المقتلة أنها هي الذروة المطلقة لمذاهب السياسة المعاصرة. فالعالم العربي ومحيطه الإسلامي، والدائرة الإقليمية الأوسع فالأوسع منه، سيكون لها مستقبل مختلف تماماً بعد المقتلة السورية عمّا كان عليه قبلَها، وإذا كانت بعض شرارات الصراع المؤذية قد انطلقت نحو الخاصرة الأوروبية مع أزمة أوكرانيا، فإن ذروة حروب المشرق ستكون لها الفعالية الرئيسية في تعديل موازين للقوى الكبرى والوسطى. وإذا كان ثمة اجماع بين المراقبين في الغرب على اعتبار الصراع مع روسيا بوتين هو بداية العودة المشؤومة إلى عصر الحرب الباردة. لكنها ستكون هذه المرة حرباً باردة ولاهبة في وقت واحد، لأن منطلقها هو من صنف الحروب الإقليمية والأهلية. والمشرق سيكون هو مهدها الأول. شرط النقل السريع (الترانسفير) لكثير من تداعياتها إلى مناطق رخوة كثيرة من القارة الأوروبية نفسها.

ما يخشاه ويتوقعه بعض الفكر الغربي النقدي ليس عودة آلية لمعطيات الحرب الباردة السابقة بل هي الرجعة الأشد إرهاباً واستفزازاً لعصر الفاشية، لديكتاتورية الفردية الكاريسمية ، وجماهيرها المهووسة بقصص العرقيات؛ ومزاياها المتناقضة والإعتقادات الجماعية وأساطير التفوق وأمجاده الكاذبة. فالعقل النقدي اللاسياسوي، ينظر إلى جولات ‘النصر’ للسلاح الروسي كأسباب رئيسية في إنقاذ الإستبداد السوري من السقوط المحتوم، وقد شجعت بوتين على نقل شيء من فاشيته الداخلية في روسيا إلى محيطها الخارجي، بل حفّزته لإطلاق مشروعه التوسعي. الذي هو العلاقة المميزة دائماً للفاشيات الأوروبية. وهكذا فإن التسليم الأوروبي لبوتين بنجاح مخططه في دعم نظام الإستبداد السوري قد يعني مباشرة أن أوروبا نفسها سوف تواجه نوعاً من انبعاث مضطرد لحركات اليمين المتطرف، ومن ثم لأنظمة، من الديكتاتوريات المتفشية في العديد من أقطارها الشرقية، وقد يقابلها في الأقطار الغربية العريقة صعود نزعات من اليمين المتطرف والقوموي، ومن المعروف أن هذه النزعات كانت متغلغلة في الكثير من كيانات المؤسسات السياسية الحاكمة والمجتمعية، دون أن تكّف أشباحها نهائياً عن تهديد الديمقراطية، عبر مختلف التحولات والإنجازات، كما عَقِبَ النكسات والخيبات التي كانت تقترفها بعض أحزابها (الديمقراطية) أو حكوماتها العابرة.

لا يمكن للغرب أن ينكر أن غروب الأمبريالية الأمريكية ستتابع فصوله الدرامية. ولن يكون انحساره عن بعض مناطق الشرق الأوسط سوى مقدمة كذلك لانسحاب نفوذها وأدوارها الظاهرة والخفية من القارة الأوروبية. هناك إذن شكل آخر من الأمبريالية التي يمكن وصفها بالأمبريالية الفاشية التي عليها أن تؤدلج أنظمة الإستبداد بابتعاث أظلم النظريات العنصرية البائدة، وإن تحت عناوين التمايزات الدينية والعرقية والحضارية. ولقد خاضت هذه الأمبريالية الفاشية تمارينها الأولى الناجحة ختى اليوم انطلاقاً من قلب المشرق، وصولاً إلى الخاصرة الأوروبية. هنالك إذن مشروع بناء كتلة دولية، بمحور قاري، أوروبي آسيوي، يحلم بوتين بقيادته، كأحدث تجمع عالمي، سوف يرث أمبريالية أمريكية هرمة متداعية.

باكورة إنجازات هذا المشروع هو خياره اللامحدود للإستبداد العربي ضداً على ثورات ‘الربيع′. فقد نصب بوتين نفسه حامياً مطلقاً لأخطر نماذجه. نَشَل هذا الإستبداد من نهاياته المحتومة. زَرَقها بحياة جديدة. قلب بوتين ما كان يسمى بمعسكر الممانعة ضد الإستعمار والصهيونية، إلى ممانعة دموية رهيبة ضد شعوبها وحضاراتها. فلقد عرف العرب في تاريخهم المديد كل صنوف العنف الذاتي، لكنهم لم يشهدوا مثيلاً لهمجيات دولانية قاتلة للبشر والحجر معاً،على طريقة طواغيت المشرق، وذلك بدعمٍ من السلاح والخبرة والتخطيط الروسي. حيثما فشلت أمريكا بإجهاض ثورات الحرية العربية وفق أساليبها القديمة المكشوفة، تتطوع الروسيا البوتينية بتلقين طواغيت المنطقة طرق النقلة النوعية من مناهج القمع التقليدي، إلى منهج الإبادات الشاملة المحفوفة بفظائع التعذيب والتنكيل الجماعي.

ومن غرائب هذه التحولات في فلسفة البطش الهمجي الممنهج أن ‘السياسة الدولية’ إياها ابتدعت لنفسها أدوار الشاهد الذي لا يعفُّ عن مشاركة المجرم تارة بأساليب الإدانات اللفظوية، في حين يسمح للطغاة أن يتابعوا فظائعهم أمام الملأ الأعظم مما يسمى بالرأي العام العالمي. فقد وصلت صفاقة البطش بأحد كبرائها إلى السخرية من مفاهيم الشرعية الدولية أو الدستورية عندما منح ذاتَه رئاسةً ثالثة على أنقاض دولة سورية. ولسوف لن تعاقبه أية سياسة لأية دولة أو دول عظمى حتى بنزع جديد للمشروعية، بل ربما كافأته مجدداً، تحت مصطلح الإعتراف بالأمر الواقع، وتبرعّت له بإعادة تملك شخصي لسوريا، لسبع سنوات أخرى، وما قد يتلوها من سباعيات التسلط إلى مالا نهاية حتى موته، ومن ثم توريثها لنسله من بعده.

أما على الصعيد العالمي فإن عودة الإستبداد مصحوباً بزميله الدائم الذي هو الفساد، لن تكرر الإستقطاب السابق بين كتلة إشتراكية وأخرى رأسمالية كما كان الحال إبان الحرب الباردة. بل هناك وحدها الأمبريالية ستكون هي الفرس المتفوق، وإن ظل لها إسمان، إحداهما هو الأمبريالية الأمريكية التي سيطول زمن أفولها وانهيارها، والآخر هو إسم الأمبريالية الفاشية. وللإثنين عدوّ واحد مشترك هو حريات الشعوب، المتقدمة منها والنامية، فما أبعد عصر الديمقراطية من هذا الزمن العالمي الرديء.

أما الزمن العربي فهو الخبير التاريخي بإنتاج الحريات الكلية، وبأساليب إجهاضها في وقت واحد. لكنه مع ذلك سيظل هو الحد الفاصل ولو نظرياً، بين ماضيه وكل مستقبل آخر، عربياً كان أو عالمياً. وعصرنا الراهن يمثل فصلاً رئيسياً في هذه الملحمة الإغريقية المستديمة. إنه لا ينذر بالكوارث النهائية وحدها ما دام يمتلك موهبة الإستشعار بالمستقبل المختلف. فلا تأسر عينيه بقعةُ المكان حيثما يتوقف جريان الوقت ولو لحين؛ عيناه مرفوعتان بنظرهما إلى أمام، إلى أفق المجهول، لعله يتعرف إلى بعض رموزه في حاضره الراهن البائس.

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى