بوتين وسياسة الهروب الى الأمام/ علي العبدالله
عكس اقتصار اجتماع لوزان على مناقشة الوضع في مدينة حلب ومحاولة الاتفاق على مخرج يوقف القصف المدمر على احيائها الشرقية التي تسيطر عليها المعارضة وادخال المساعدات الانسانية اليها استمرار الاختلاف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، وغياب توافق على حل سياسي للصراع في سوريا وعليها في ضوء الرفض الاميركي لدعوات موسكو الى عقد صفقة شاملة بين الدولتين، وزاد في دقة الموقف وحساسيته التوتر الذي نشأ بين الغرب عامة وروسيا الاتحادية على خلفية القصف الروسي الوحشي لمدينة حلب والسجال السياسي بين الجانبين في مجلس الأمن الدولي واستخدام موسكو حق النقض(الفيتو) ضد مشروع القرار الفرنسي الاسباني، وفشل مشروع قرارها بالحصول على الاصوات الكافية لاجازته(حصل على اربعة اصوات، يحتاج الى تسعة اصوات مع عدم استخدام حق النقض من احدى الدول الدائمة العضوية)، وتوصيف القصف الروسي للمدينة من قبل مسؤولين اوروبيين بـ “أعمال ترقى الى جرائم حرب” و ” جرائم ضد الانسانية”، والتلويح بنقل الملف الى المحكمة الجنائية الدولية، مع ما يجره ذلك على موسكو من عزلة تحوّلها إلى دولة مارقة في نظر المجتمع الدولي الذي بات يرى في الموقف الروسي المتصلب وتمسكه بالنظام السوري ورئيسه تهديدا للسلم الدولي، ومحاولة لوضع العالم على عتبة حرب عالمية، ناهيك عن تلويحهم باجراءات غير دبلوماسية ضد روسيا: عقوبات اقتصادية(جمدت بريطانيا ارصدة قناة آر تي الروسية في مصارفها) والى تزويد المعارضة السورية بأسلحة متطورة، وطرح مشروع قرار في المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الاسلحة الكيماوية يطالب بالكشف عن مخزون النظام السوري من مادة الكلور في ضوء استخدام غازات الكلور في قصف المدن والبلدان السورية.
في هذا المناخ المتوتر عُقد اجتماع لوزان الذي ضم الى جانب الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية عدة دول اقليمية(تركيا، السعودية، مصر، الاردن، قطر، ايران، العراق) بالاضافة الى الأمم المتحدة ممثلة بمبعوثها الى سوريا السيد ستيفان دي ميستورا “لبحث آفاق التسوية السورية٬ مع التركيز على ضرورة استئناف نظام وقف إطلاق النار٬ بموجب الاتفاق الذي توصلت إليه الولايات المتحدة وروسيا يوم 9/9/2016، على أمل النجاح واستئناف العملية السياسية في جنيف”، وفق اعلان الناطقة بلسان الخارجية الروسية، و”هدف الاجتماع التوصل إلى إطار عمل أفضل لوقف الأعمال العدائية٬ وتوصيل المساعدات الإنسانية”، وفق تصريح الناطق بلسان الخارجية الاميركية.
مناخ سلبي أكدته جلسة الساعات الخمس التي أسفرت عن فشل المؤتمرين في الاتفاق على مخرج للاستعصاء السياسي ولجوئهم الى المناورة ورمي الكرة في ملعب الطرف الآخر والسعي لتحميله مسؤولية عدم الاتفاق. فقد طالب وزير الخارجية الأميركي جون كيري الروس والإيرانيين بالعمل والضغط على النظام السوري من أجل وقف شامل للنار يعم كافة الأراضي السورية، وتمسك وزير الخارجية الروسي بمطالبه القديمة: فصل الفصائل المعتدلة عن المتطرفة واستمرار الحرب على الارهاب، والدعوة الى تنفيذ اقتراح دي ميستورا باخراج “جبهة فتح الشام” من شرق المدينة، من ممرات تحددها وتضمنها روسيا، كمدخل لوقف اطلاق النار وادخال المساعدات الانسانية الى الاحياء المحاصرة، وابدى تحفظا على صيغة طرحها المبعوث الدولي تقضي باخراج “جبهة فتح الشام” من شرق حلب مقابل وقف النار ورفع الحصار ومنح الادارة المحلية(ادارة تمثل قوى واطياف المعارضة في شرق حلب) سلطة ادارة شؤون المدينة من كل النواحي، فهو يرفض أن تبقى الأحياء الشرقية في حلب تحت سيطرة المعارضة، ما يؤكد تبنيه خيار السيطرة على المدينة. وقد وصف مسؤولون اتراك اجواء الاجتماع بـ “تصلب روسي ولامبالاة اميركية”. تصلب عبر عن نفسه بزيادة الحشد العسكري البري(تواتر الحديث عن تجنيد مرتزقة روس ممن خدموا بالقوات المسلحة الروسية للقتال في سوريا) والبحري بارسال حاملة الطائرات الروسية الوحيدة في أسطولها الشمالي ومقره مورمانسك ترافقها طرادات وقطع بحرية للحماية الى السواحل السورية، ما أثار تكهنات حول نوايا روسيا التصعيد عسكريا وشّن هجوم واسع على المعارضة السورية في كل مواقعها.
قاد فشل روسيا في اقناع الولايات المتحدة بعقد صفقة شاملة لكل الملفات العالقة بين الدولتين الى تبنيها الحسم العسكري في سوريا والتلويح بالذهاب الى مواجهة أوسع دون استبعاد مواجهة نووية(جرى الحديث في الاعلام الروسي عن تدريبات على انقاذ 40 مليون نسمة من ضربة نووية بالاضافة الى تعميم توجيهات للمواطنين للتعرف على اقرب ملجأ نووي الى سكنهم ونشر صواريخ إسكندر التي تحمل رؤوسا نووية في كالينينغراد المحاذية لدول البلطيق)، والاعلان عن نيتها اعادة تشغيل قواعدها العسكرية في فيتنام وكوبا، مبرزة كون كوبا على الحدود مع الولايات المتحدة، والتحرك حثيثا لفرض وقائع على الارض تكرّس سيطرتها وامساكها بالملف السوري كمدخل لفرض نظام اقليمي روسي على المنطقة استعدادا لملاقاة الادارة الأميركية الجديدة بعد أشهر قليلة. وقد عللت اذاعة سبوتنيك في تعليق لها على الاختلاف عرض العضلات الروسي بقولها:”ان سياسة الرئيس بوتين قائمة على الجمع بين القوة والحوار”. في حين حذر الخبير العسكري الروسي قسطنطين سيفكوف من “أكاديمية علوم الصواريخ والمدفعية” في موسكو من عرض العضلات المبالغ فيه وعبر عن اعتقاده أن “البنتاغون” في حال نشوب مواجهات مع روســيا يمكنه القــضاء على القوات الروســــية في سوريا ضمن عملية جوية واحــدة خلال يومين أو أكـثر بقليل. ورأى محللون في التراجع الأميركي أمام الخط الهجومي لبوتين تكتيكاً ضمن استراتيجية كاملة تقوم على استنزاف بعيد الأمد للقدرات الروسية في مستنقع صراع تخرج منه وهي مثقلة اقتصادياً وعسكرياً وأخلاقياً، وان المكاسب التي يحققها بوتين الآن لا تعني بحال ان طريق السيطرة على سوريا والاقليم بات مفتوحا لان بامكان واشنطن عكس الاتجاه، وهي تنتظر اللحظة المناسبة لذلك والتي ستلي تحمّل روسيا أكلافاً باهظة.
وقد كان لافتا كشف المسؤولين الروس عن جوهر الاختلاف مع الولايات المتحدة حيث وضع المندوب الروسي الدائم في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين المواجهة المتفاقمة بينهما في سياق أوسع من سوريا بقوله:”إن العلاقات بينهما باتت الأسوأ منذ العام 1973، وان محاولات حلف الأطلسي بناء نظام أمني جديد على حساب روسيا قادت إلى هذا التدهور، خصوصا الاستفزاز الأكبر في العام 2008 عندما أعلن الحلف خططاً لضم أوكرانيا وجورجيا إلى عضويته”. وذهب الرئيس الروسي ابعد من ذلك باعلانه على هامش قمة مجموعة البريكس التي عقدت في الهند منذ ايام “ان سبب التوتر بين الدولتين لا يرتبط بالوضع في سوريا بل بالسياسة الاميركية بشكل عام ويعود الى ايام الحرب اليوغسلافية” و “إن الولايات المتحدة باتت تعتبر روسيا مؤخرا عدوها الجديد، بعد ان كانت تعتبر إيران كذلك”، وأضاف:”أن روسيا حاولت جاهدة عدم خلق مشكلات مع الولايات المتحدة، وأنها ما زالت تعمل للتعاون معها وفق مبدأ الاحترام المتبادل”، وجزم “انه يصعب التحاور مع الادارة الاميركية الحالية”. وهذا سيرتب مزيدا من التصعيد العسكري الذي سيدفع السوريون ثمنه من دماء ابنائهم وبُناهم الاجتماعية والمادية.
المدن