بوريس سيرولنيك: ‘يا لها من قوة! يا لها من حرية! يا له من خطر!’
ترجمة: بيسان بن ميمون
لقد أنسانا العالم الاصطناعي الذي ابتكرناه انتماءنا إلى الطبيعة
‘في المرحلة التي كنا نعيش فيها كحيوان إنسانيّ بين الحيوانات، كنا صيداً في متناول الحيوانات المفترسة. وأوشكنا على الانقراض نظراً لكثرة ما كنا عليه من هشاشة وقابلية لأن نُفترَس بسهولة. ولم تكن النمور ذات الأسنان السيفية التي كانت تلتهمنا بلا صعوبة تقدر إلا على رد فعل إزاءَ ما تحسه. بينما كنا نحن، الكائنات الهشة لكن المزوَّدةَ بدماغ فريد قادرين منذ البدء على الاستجابة لمعلومات لم تكن موجودة في السياق : وهي التمثلات !!
لقد كان هذا الأداء الفكري ممكناُ بفضل تنظيم عصبي خاص: الربط بين الفص الجبهي الأمامي والجهازالحوفي1. تتصل الخلايا العصبية التي تشكل الأساس العصبي للتفكير الاستباقيanticipation) ) بالخلايا العصبية لدارات الذاكرة لصنع تمثُّـلٍ: فانطلاقاً من تجربة ماضية كنا قادرين على تخيل حدثٍ آتٍ. فأمكننا إذن اختراع الأداة.
وبعد أن ألقينا الحجارة على النمور، تخيلنا أنه سيكون بإمكاننا نحت حجارة الصَّوان هذه لقتل الجديان إذا نحن رميناها بها، وجزر لحمها ودبغ جلدها. وأمكننا منذ ثلاثة ملايين سنة اختراع الحضارة التقنية. لكن لِنقْل هذه المعرفة إلى حلفائنا كان علينا أن نشرح لهم كيفية صنع حجر صوان قاطع، وحائط حجري للاحتماء من الريح، ثم كيفية إيقاد النار منذ 700.000 سنة. ولم يكن التقليد كافياً، فقد كان ضرورياً القيام بإشارة باليد لإيضاح الحركة التي يجب القيام بها. بما أننا فهمنا أنه بإمكاننا القيام بإشارة باليد، كان يكفينا أن نقوم بإشارة باللسان لكي نتعلم الكلام.
لم تحتج الديناصورات إلى هذا المسار الشاق لأنها بأجسامها الضخمة والمدرعة كان لديها القليل من الحيوانات المفترسة. ولم تحتجْ مع العشب الوفير إلى أي استراتيجية في القنص، ولا إلى أي تنظيم اجتماعي لكي ترعى العشب. لقد اختفت هذه الوحوش كضحية لقوتها وسهولة عيشها، ونجونا نحن بفضل اختراعنا لعالم اصطناعي: الأداة والكلام. فأصبحنا الحيوانات الوحيدة القادرة على الفرار من شرطها الحيواني.
عندما ظهر جين ‘فوكس ب ’2 Fox P2)) الذي له دور في ظهور اللغة منذ 700.000، خصصنا جزءاً ضخماً من تطورنا لإنتاج الخلايا العصبية الصدغية(Les neurones temporaux) القادرة على تحويل الأصوات إلى علامات. إنما توجَّب أن توجد علامات ملفوظة حول المواليد الجدد لكي يتعلموا إنجاز هذا الأداء الفكري، فقد كان البالغون يزودون الرضع بهذا الغلاف اللفظي الذي يسمعه هؤلاء الصغار، ثم يتعلمون تحويله إلى لغة مكونة من أصوات مختلفة. و في حاضرنا اليوم أيضاً يحتاج الصغارُ من عشرين إلى ثلاثين شهراً حتى يتعلموا اللغة الأم التي تسمح لهم بالاندماج في ثقافتهم. لقد تبلورت لغتنا بإتقان كبير لدرجة أنها أحياناً لا تشير إلى العالم الحقيقي. نحن نخترع تمثلات لفظية ً نخضع لها: أغلب الحروب في يومنا هذا نشأت عن سرودٍ r’cits)) في حين أنها كانت تنشأ عن الجوع قبل ثلاثة آلاف سنة.
لقد أفسد طبيعتَنا أبسطُ اختراع تقنيٍّ، فقد سمح اختراعُ النِّير و أدوات الجر باستعمال حصان ليعوض قوة عشرة رجال. و قد وضعَنا اختراعُ مطبعةٍ على نهج الديمقراطية بنشرها للمعرفة. وخوَّلَ اختراعُ حبوب منع الحمل إمكانيةَ التحكم في الخصوبة. أما بالنسبة إلى اختراع الإنترنت، فإنه يجعلنا حاليا نعيش في عالم افتراضيٍّ بالأساس.
يا لها من قوةٍ! يا لها من حريةٍ! ياله من خطرٍ! لقد جعلتْ انتصاراتُنا التقنيةُ والفكريةُ منا حيواناتٍ مشوهةً جداً حتى إننا نسِينا أننا ننتمي إلى الطبيعة. لقد غيَّـرْنا كثيراً بَيْتَنا الإيكولوجي حتى إن الكروموزومات Y الهشة جداً هي بصدد التفكك إلى أجزاء، الأمر الذي سيترك ربما احتكار الإناث للإنسانية.
نحن اليوم مجبرون على إيجاد حل للكوارث التي تسببت فيها انتصاراتنا التكنولوجية.
فهل سنفعلُ مثلما فعلتْ الديناصورات : الموت من جراء نقطة قوتنا؟ أم هل سنفضل محاربة الآثار الثانوية لنواحي تقدمنا كي نستفيد منها في سكينة ؟
إشارات :
* اقترح هذا الموضوع (ما هو الإنسان؟) دومينيك لوغلو على بوريس سيرولْنيك, وهو طبيب للأمراض النفسية والعصبية ومحلل نفسي، كما أنه مدير تعليم مادة الأخلاقيات L”thologie)) في جامعة تولونToulon) ) بفرنسا، حيث طوَّر فيها مفهومَ المرونة النفسية (La r’silience).
– الجهاز الحوفي (syst’me limbique): اسم يطلق على مجموعة من البنيات الدماغية التي تلعب دورا مركزيا في الذاكرة و الشم و الإحساس بالاتجاه و التحكم في الانفعالات كاللذة و العدوانية.
المصدر:
مجلة (علوم ومستقبل) الفرنسية، عدد 169 خاص ـ شهر يناير- فبراير 2012(ص.71).