صفحات الرأي

تحوّلات الشرق الأدنى من رومانسيّة التحديث إلى حروب التجديد


آزاد أحمد علي()

بعد تراجع بريق مصطلح الشرق الأوسط الجديد، الذي واجه صعوبة في تطبيقه على الأرض، يظهر في الأفق السياسي بديل مصغّر يتمثل بالشرق الأدنى الجديد، وهذا الأخير مصطلح جيوسياسي يضم كل من تركيا وسورية الطبيعية وايران والعراق إضافة إلى مصر والجزيرة العربية. ولقد كان من أوائل من اهتم بهذا الحقل الجيوسياسي ونظّر له هو البروفسور البريطاني مالكولم ياب، الذي درس نشوء الشرق الأدنى اجتماعياً وسياسياً وحدد مرحلة تبلور مصطلح «حداثة» الشرق الأدنى ومطابقته البطيئة للواقع الاجتماعي والسياسي بين أعوام (1792- 1923). فالتاريخ الأول تمثل بأول الصدمات الكولونيالية مع بدء الحملة الفرنسية على مصر وكذلك بداية تبلور النظم السياسية في المشرق، أما التاريخ الثاني فهو نهاية الإمبراطورية العثمانية وتشكل الدول والجمهوريات الراهنة على انقاضها، ومن ضمنها الجمهورية التركية المعاصرة. واعتبر ياب التاريخ الأخير ولادة أولى لشرق أدنى «حديث» بمفهومه النسبي.

في سياق متابعة العوامل الداخلية لتبلور حداثة الشرق الأدنى وضمن دراساته المستفيضة، قدر ياب عدد سكان الشرق الأدنى حوالي عام(1800) بثلاثين مليون نسمة منهم ستة ملايين في إيران ومليون واحد فقط لكل الجزيرة العربية، مؤكداً على التناقص الشديد في عدد السكان البدو وعدم استقرارهم وبالتالي تواضع دور الجزيرة العربية السياسي طوال القرن التاسع عشر. بالتوازي مع هذه الإحصائيات تطرق للنظام الطائفي في الدولة العثمانية، مركّزاً على إشكالية العلاقة بين الجماعات المسيحية في الشرق الأدنى ونظام الحكم العثماني المرشح للتغيير عصرئذ، وصولاً للكشف عن «المسألة الشرقية» المتمثلة بالعلاقة بين الحكم العثماني ورعاياهم المسيحيين الذين أخذوا يطالبون بالحكم الذاتي أو بالاستقلال، مثيراً القضايا المفتاحية المؤثرة في مسألة تغيير خارطة المنطقة السياسية وتشكل ملامحها في مطلع القرن العشرين وحتى يومنا هذا. لافتاً النظر إلى بقاء الكثير من المسائل القومية والدينية -الطائفية كامنة وعالقة وخاصة المسألة القومية الكردية. إلى جانب هذا الفاعل القومي – الطائفي المتخفي دائماً في تربة الشرق الأدنى السياسية، دعم ياب خطابه العلمي التاريخي بإحصائيات عن الزراعة والصناعة والتبادل التجاري والتطور التكنولوجي وتأثيرها المباشر على التحولات الاجتماعية والسياسية في الشرق الأدنى، وبخاصة دخول القطار المبكر إلى مصر وكذلك التلغراف والنقل البحري، والتي رجّحت مجتمعة من دور مصر الريادي في التأسيس لحداثة الشرق الأدنى السياسية والحضرية. من دون أن يهمل أي جانب آخر ساهم قليلاً في رسم ملامح الشرق الأدنى بدايات القرن العشرين، ليبنى ويثبت فرضيته المتلخصة بأن: الشرق الأدنى تشكّل وتحوّل تحولاً بنيوياً بمساعدة أوروبا الكولونيالية، وارتسمت ملامحه الحديثة وخارطته السياسية عام 1923 مع انهيار وتفكك الإمبراطورية العثمانية. فالشرق الأدنى الحديث بخارطته الحالية كان نتاجاً لتحوّلات داخلية أولاً ولمهادنات وصفقات سياسية بين بريطانيا ودول أوروبية أخرى ثانياً. لقد ظهرت دول على الخارطة لم يكن ظهورها متوقعاً ولا ضرورياً، كما لم تظهر دول أخرى كان من المفترض لها بأن تتشكل وتعلن استقلالها، وبخاصة دولة كردستان بموجب معاهدة سيفر 1920.

عملياً تم رسم خارطة الشرق الأدنى الحديث من قبل كل من بريطانيا وفرنسا. وجاءت كمحصلة لجهود سياسية وعسكرية واستشراقية وتبشيرية طويلة الأمد ليس لها علاقة مباشرة مع إرادة شعوب المنطقة، التي كانت معنية موضوعياً بتقرير مصيرها، وتحديد شكل الأنظمة السياسية، وحدود الكيانات التي ستعيش فيها.

هذا وقد تمت محاولة خجولة إثر الحرب العالمية الثانية، وكنتيجة لها، لزعزعة واقع الشرق الأدنى السياسي وللإخلال بتوازن القوى فيه، إضافة إلى إعادة النظر في الخارطة (التي رسمت على أساس مهادنات الحرب العالمية الأولى) فلم يتحقق لها النجاح إلا جزئياً، وكان التغيير الذي حصل أيضاً نتيجة لرغبة وجهود القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. إلا أن قوى الشرق الأدنى الرئيسة حافظت على مواقعها.

ظل الشرق الأدنى جامداً وخامداً تحت تأثير الحداثة الأوربية التقليدية طوال فترة ما بعد الحرب الثانية، وكذلك كثمرة للتوازن والمهادنة التاريخية بين القطبين العالميين الغربي بقيادة أميركا والشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي. وإثر انتهاء الحرب الباردة ومن بعده نظام التوازن الثنائي القطب، وتغيير الخارطة الاجتماعية والاقتصادية في الشرق الأدنى، إضافة إلى تغلل مفاعيل الثورة التكنوالكترونية والإعلامية عميقاً في مجتمعاتها، بدأت تظهر في الأفق بوادر لإلغاء نتائج المهادنة السياسية وتوازن القطبين، مع استجابة ضمنية لتغيير موازين القوى الإقليمية المتشكلة مطلع القرن الحادي والعشرين. كل ذلك يشجع على الاعتقاد بأن السمات الجيوسياسية للشرق الأدنى السابق، لم تعد متلائمة مع تحولات الواقع ومعطياته الجديدة، وبخاصة مع بروز قوى محلية مؤثرة كإسرائيل، وحركات سياسية وشبابية قوية، إضافة إلى الطاقة الاقتصادية العملاقة كالنفط، وبالتالي أضحت عملية إعادة النظر في الخارطة السياسية للشرق الأدنى ضرورة لتطابق معطيات الواقع الراهن وتعبر عنه، إذ ينبغي على الخارطة الجديدة الاستجابة لبروز شرائح سياسية واجتماعية محلية صاعدة، تريد كسر رتابة الشرق الأدنى «الذي بات قديماً«.

وفي سياق البحث في مراكز القوى الضابطة لإيقاع الشرق الأدنى الحديث، من الملاحظ أنه كانت دائماً هنالك ثلاث دول، تبدو حامية للمهادنة التاريخية، وساعية في الوقت نفسه لضبط إيقاع التجديد السياسي فيها، وهي «تركيا ومصر وإيران،». أما في المرحلة المقبلة، فمن المتوقع لمجمل التحول والتراكم الحاصل في العالم والشرق الأدنى، واختلال التوازن الجيوسياسي الحرج في المنطقة أن يؤدي إلى إضافة معطيين جديدين: هما الإسلام السياسي وجماهيره العريضة. والنفط بمخزونه الاستراتيجي. وبالتالي، وبالضرورة، يتزايد دور المملكة العربية السعودية كقطب رابع. ولم يعد هنالك سلاسة في استمرار وتفاعل دور القوى التقليدية الثلاث الأولى وإن بصيغ مختلفة. وقد تكون الثورات والانتفاضات العربية أحد عوامل الإضافية لكسر الاحتكار السياسي للدول الثلاث، وهي بالتالي آخر المداخل لهذا التجديد المتوقع في السنوات وربما الأشهر القادمة. وفي هذا السياق لن يكون مفاجئاً إن شكل انفجار سورية أحد أبرز مفاتيح التجديد المنتظر، بصفتها ساحة راهنة لترجيح وحسم توزانات القوى المحلية والدولية، وفرض أجنداتها.

أن تحولا جيوسياسياً عميقاً في عموم الشرق الأدنى بات من الضرورات والممكنات السياسية، وقد تتحقق في المرحلة القريبة القادمة، ولكن بشرط أن تنتهي المهادنات السياسية المحلية وأن يرفع الغطاء الدولي عن ترجمة هذه المساومات على أرض الواقع. فقد ينجز الفصل الأول من هذا «التحول الكبير»، والذي ربما ينبثق هذه المرة بشكل مباشر من تحولات الواقع السياسي والاجتماعي والقومي والديني والاقتصادي والنفطي، ويعبر عنها وعن سمة التنوع بدرجة أكثر صدقاً وعدلاً.

ما يمكن ختامه بأن الشرق الأدنى المعاصر كان نتاجاً لتفاعل مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، والتي يبدو أن أي رهان أو حنين إلى جذورها ومحرضاتها الأولى، كدور مصر الريادي والفكري على سبيل المثال، تنطوي على الكثير من الرومانسية. فكل متطلبات التغيير تشير باتجاه تغيرات قسرية ومخاض مؤلم واضطرابات كبرى، قد يكون أبرزها حرب إقليمية محدودة تتطور إلى حرب عالمية ثالثة. فضمن الثقافة السياسية والإيديولوجيات السائدة يصعب تصور ولادة سلمية للشرق الأدنى الجديد، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار بقاء النظام السوري الذي يرسخ دور ونوايا أكبر قوتين إقليميتين على أرضها(إيران، تركيا) وتؤهلهما لقيادة محورين متخاصمين. فثمة تكهنات وتصورات لسيناريوات متباينة ومتعددة: أولها يفترض بأن الشرق الأدنى الحديث، الذي نشأ على خلفية تفكك الإمبراطورية العثمانية سيتجدد ويعاد تشكيلة على أساس تفكك ما تبقى من الإمبراطورية الإيرانية. وآخرها هو احتمال انقسام كل من سورية والعراق واستقطاب أجزائها نحو القطبين الإقليميين الإيراني والتركي. ومهما كانت احتمالية تحقق هذه السيناريوات ودرجة تغيير وتجديد الشرق الأدنى وسرعتها، فماضي الشرق الأدنى «الكولونيالي الحديث» بات من التاريخ، الذي فيه الكثير من الرومانسية والظلم السياسي والاجتماعي، أما شرط التجديد والنجاح الرئيس فهو تحقيق قفزة حضارية نحو دمقرطة أنظمة الحكم فيها، وتأمين الوصول إلى عتبة الحرية التي تنشدها شعوب المنطقة، وإعادة توزيع الثروة وبخاصة النفطية منها. كما لا بد، كمحصلة وتتويج لذلك، إفساح المجال أمام كل الشعوب في المنطقة لتقرير مصيرها السياسي، وتحديد شكل الكيان السياسي الذي يناسبه.

() كاتب وأكاديمي سوري كردي

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى