بوّابات أرض العدم” المهمة الأصعب لسمر يزبك أن تكون الكاتبة شاهدة على الفجيعة السورية/ فاطمة عبدالله
تدرك الكاتبة السورية سمر يزبك استحالة تناول خراب الأوطان من مسافات بعيدة. في “بوّابات أرض العدم” (“دار الآداب”)، تخترق يزبك جنون الأرض المستباحة حيث الأحلام المجهضة والتمزّق العميق. يتحوّل السرد واقعاً توثيقياً يعيد الاعتبار إلى التضحية، ويصوّب الضلال الذي رافق مسار الثورة. تخرج من بين السطور رائحة احتراق الجثث وتنبعث من مكان ما صرخة عصافير جريحة. تحضر من العمق السوري إشكالية السقوط الأخلاقي للإنسانية والصراع الايديولوجي القائم على الكراهية.
تختار سمر يزبك المَهمة الأصعب: التحوّل الى شاهدة. الرواية وجع أرضٍ تزدحم بالموتى، وحكايات مَن بقوا أحياء يتقلّبون على الجمر. الكاتبة مجرّد عين. عين وغصّة على الأرجح. بصرٌ جوّال وبصيرة تستشرف استمرار المجزرة. عبر شهادات مقاتلين وأهالٍ وناشطين، يغوص السرد في يوميات تغلي، جاعلاً من الميدان السوري مكاناً مكشوفاً على تفاصيل جحيمية. تعرّي العدميات السائدة؛ العدمية الاستبدادية الأسدية، والعدمية الانتحارية الدينية حيث التطرّف والمرتزقة، وتبيّن الصلة بينهما وكيف أنّ العدمية الأولى هي أمّ الثانية. لا تتجرّد يزبك من إنسانيتها بذريعة إبقاء “موضوعية” المشهد. يحوم الطيران الحربي النظامي طوال السرد وتمطر البراميل بيوتاً لا تكترث للرجاء في الحنايا. يتخذ القصَّ موقفاً صريحاً ضد الظلم والظلمة، ويجاهر بأنّ الحلّ ليس بقاء النظام أو تمدُّد “داعش”. تُطرَح الثورة كمسار مُصاب بالشلل، وكعدمٍ آخر تُعلَّق عليه الاخفاقات، ويُستَحضر ذريعةً عند الحديث عن فشل أدوات البدء من جديد. علاقتان تقيمان بين السطور، علاقة السوري بالموت وعلاقة العين بالسماء. الأولى من شقّين متعارضَيْن: خوض المعارك والإذعان لإمكان اللاوجود، والاصرار على البقاء والتشبّث بالوجود من خلال الأمل بمرحلة ما بعد بشار. أبطال السرد يترنّحون بين النقيضين. يجاهر مقاتلٌ بالانتماء الى الكتائب المسلّحة، والشعور بالبغض حيال كلّ سوريٍّ ليس من طائفته، ثم يُفصح عن الرغبة في إلقاء السلاح وتعلّم الموسيقى فور سقوط النظام. تنسحب ثنائية الوجود واللاوجود على العزّل في بيوتهم، فإذا بالعيش في العراء وبؤس الأطفال لا يحولان دون عزم النساء على النظافة وتحسين الحال. تبقى علاقة العين بالسماء، يوطّدها السرد عبر تماهي صوت القذائف وهدير الطيران الأسدي بصوت الناطق وحكايته، وعبر التعوُّد على مراقبة السماء قبل القصف وبعده وفي كلّ لحظة.
السخرية التي تلبط الموت
تتنقّل الكاتبة بين مَهربٍ وآخر مما يتيح لها تدوين ما يخرج من الألسن وما يختبئ في الصدر. تُحفَظ التنهّدات كجزء من المشهد وتُصان لحظات الذلّ كأنّها حقّ الضحية على جلاّديها. تحافظ يزبك على دورها كطرف يصغي بهدوء، لكنه من الداخل يتخبّط. الرواية إصغاء وحشرجة وتوازنٌ مفقود أمام التصدّع والاحتراق والبَتر. يوصِّف الموت ذاته عبر الحضور المرعب للحم الأصمّ في مقابل التحرّك الحيوي للحديد والإسمنت والمنازل بعد هدمها. ويوصَّف أيضاً عبر الضحك. الجامع بين الشهادات (باستثناء شهادة أمير “جبهة النصرة” أبو حسن والعناصر الإسلاموية المتطرّفة) اعتمادُ الضحك كمضاد حيوي للموت. تعلّم الحرب السوريين كيفية لبط الموت بالسخرية. عناصر مسلّحة التقت يزبك فإذا بها- بينما تقصّ عليها الدوافع إلى التسلّح- تُرفق الدعابة بالسرد وترطّب بالهزء الصور المؤذية، كأنه رفض الحال بما تيسَّر والتكيُّف مع الخراب بوضعه في قالب آخر. تتولّى الضحكة ردِّ الموت، كحال السلاح حين يصدّ الأعداء. الموت مصير السوريين مذ صرخت الحناجر “يا محلاكي حرية”، فإذا بانحراف الثورة وقتل المكان بالعدم، يوجدان صلة ملحمية به لم تعهدها المنطقة راهناً. على رغم ذلك، تحمل الخطى يزبك الى القرى التي تحمل الارتجاف وجنون الدم، لا لأغراض توثيقية فحسب، بل لحضّ النساء على التعلّم والنضال من أجل البقاء. الكاتبة “أخت رجال”، تفضّل الهاوية على النزهة، والخطر على التفرّج من بُعد. تُقدِم وإن كان الموت يكمن عند أول مفترق. تصغي الى سوريين يشتهون القتل، وتُخفي انتماءها الديني خارج منطق سوريا الوطن. إنها حال السوريّ المعذَّب بالوطن والمنفى. تنجو لأنّ النجاة لم تعد قدراً بل مصادفة. يطاردها الشرّ الخارج من الجحور، الموزَّع في الهواء، ويولّد شراً يحوم في حلقة لامتناهية من الدوران. ثم تبرز علاقة أخرى هي علاقة السوري بالحقيقة. كأنّ ما يجري على الأرض لا يُصدَّق، وعلى العين أن ترى المأساة وفق العلاقة مع الحقيقة بوصفها حالاً نسبية غير مطلقة، مستجدّة وطارئة.
الكتابة إذ تعي فعل الموت وتعي هزيمتها أمامه
لا يكتفي السرد بأن يتحوّل أذناً صاغية وحضناً لإفراغ الهمّ. تُستَخرج من القلوب النازفة مَشاهد عنوانها المشكلة الطائفية، ويُفتح نقاشٌ حول ضرورة حلّها والسعي الى دولة سورية مدنية واحدة. تترك يزبك للثورة أن تُظهر شوائبها بنفسها وتبوح من تلقائها بالاخفاقات. تُبيّن مواجهة الموت مدى القسوة الكامنة في سؤال يتعلّق بالعدالة والهوية. تفقد القرى معالمها ولا تتعرف الوجوه الى أصحابها. حتى الركام حاله كالعيون البيض التي تشخص إلى الجثث التي ترمى في الشاحنات وأخرى تنهشها الكلاب، فيما يدٌ ما تحاول الاقتراب من أصابع صغيرة تحت الأنقاض. تعي الكتابة فعل الموت فتُهزَم أمامه، ويكون القصد من التدوين إبقاء الذاكرة حيّة. النصّ وعيٌّ للتداخل الحتمي بين الموت والكتابة، والشعور بالضعف أمام كيفية التعبير عن هذا الخراب كله، كأنّ الأرض مجبولة من العظام واللحم البشري، والتراب خليط من سوريين يأكلون بعضهم بعضاً جاعلين الموت واقعاً حميمياً أقرب من التنفّس. يتخذ السرد جانباً ذاتياً تُفرغ فيه الكاتبة سخطها على التطرّف واستقدام المقاتلين الأجانب لاستباحة سوريا، فيما العالم يغضّ النظر عن قول الحقيقة. لا تخفي صراع المكانين فيها: عندما تدخل سوريا وحين تخرج منها لإلقاء المحاضرات في دول العالم. الوطن في أحيان منفى ولا شيء آخر. أن تشعر أنك يتيمٌ على أرض غريبة.
النهار