بيان موت الشعر/ محمد صابر عبيد
يرجّح المشتغلون في حقل تاريخ الشعر العربيّ أنّ ميلاد أوّل قصيدة عربية يعود إلى ما يقرب من قرن ونصف القرن قبل ظهور الإسلام، ويرى أحدهم أنّ المهلهل بن ربيعة هو أوّل من هلهلَ الشعر العربيّ في غضون تلك الحقبة، ولعلّ العرب في هذه السنين كانوا ربّما يعيشون واحداً من أزهى عصورهم من حيث الاستقرار والأمن والحرية والعيش الرغيد، على النحو الذي يقودنا إلى أن نرجّح أنّ الشعرَ العربيَّ في العصر الجاهليّ هو شعر الحرية العربية والبهاء العربيّ والأمن العربيّ والسعادة العربية، وربّما لمّا يدرس الشعرُ الجاهليُّ ثقافياً على أساس جوهر هذه الفكرة بعد.
وُلد الشعر الجاهليّ في ظلّ مناخ كافٍ من الحرية يجعل منه ممارسةً كمالية مثالية تدلّ على قدر من الرفاهية، أو بروتوكولية مُنتجة تسعى إلى تحقيق قدر عالٍ من التفاهم والتحاور الثقافيّ ذي الطبيعة الجمالية، وهذا ما يفسّر ظاهرة الصالونات الشعرية كسوق عكاظ والمربد وغيرهما، بوصفها مهرجانات كبرى للتعبير عن البهجة واحتفالاً بالحياة، فكان الشعر الجاهليّ أيقونة الثقافة العربية وحارس فرحها حتى لقد قيل “الشعر ديوان العرب”. إذ تشير مفردة “ديوان”، من ضمن ما تشير إليه، إلى فضاء المكان المشحون بالحرية والانفتاح والتداول والحجاج والإصغاء، وهو ما افتقدته القصيدة العربية في كلّ عصورها اللاحقة على النحو الثقافيّ المتعلّق بجوهر الحياة والمقصود حصراً هنا.
وبما أنّ الشعر مادّتُهُ الحياة، يمكن الدارس أن يتحقّق من معنى الحياة الجاهلية بوساطة شعرها حيث كُتب داخل فضاء مطلق من الحرية، ويمكن التحقّق من معاني الحيوات الأخرى بعد الجاهلية بوساطة شعرها أيضاً حين نتحقّق أولاً من شرط الحرية، على النحو الذي يجعلنا نتلمّس حقيقة تفكّك الجوهر الشعريّ لمعنى الحرية في القصيدة العربية منذ انتهاء العصر الجاهليّ اللامركزيّ وبروز حقبة العصر الإسلاميّ المركزيّ، ومن ثمّ العصور الشعرية الأخرى التي أعقبت العصر الإسلاميّ، فتلوّنت المركزية بألوان مختلفة بحسب طبيعة الإيديولوجيا الحاكمة وأطروحتها في تمييع فكرة الحرية وإعادة إنتاجها لصالح أنظمتها.
العصر الإسلاميّ هو عصر الرسالة الميدانية الإجرائية وهي تقتضي مستوى عالياً من الحجاج والإقناع والفرض (حتى ولو بالقوّة) كلّما تطلّب الأمر ذلك، على النحو الذي يُحرج فكرة الشعر ويجعلها بعيدةً عن دائرة الاهتمام بوصفها حاجةً كمالية تندرج في سياق اللهو واللغو. لا بل صار الشعر بمفهومه الجاهليّ القائم على الحرية والانفتاح وتمجيد الحياة واللذّة عائقاً أمام حركة الدعوة، وشكلاً من أشكال الإحالة على الفضاء الجاهليّ في الرؤية والتفكير والممارسة يجب منعه وحجبة وإقامة الحدّ عليه. وصار الشعر عدوّاً ثقافياً مزعجاً من أعداء الدعوة الإسلامية، دفع خاتم الرسل والأنبياء محمّد بن عبد الله إلى القول “لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً”. ومع أنّ القرآن يشير صراحة إلى توقّف البعثات الرسولية والنبوية بعد الرسالة المحمديّة، غير أنّ أنبياء جدداً لم ينتبهوا جيداً إلى آية الاختتام النبويّ فقرّروا بعثَ أنفسهم من دون استشارة إلهية، ليصبحوا أنبياء أرضيين سعوا بما تيسّر لهم من السبل إلى فرض أديانهم المتنوعة تحت غطاء الدين الإسلاميّ مرّةً أو خارج هذا الغطاء مرّات.
منع الإسلام قول الشعر إلّا ما كان في خدمة الدعوة مروّجاً لها ومدافعاً عنها، تمكيناً لها من الثبات والانتشار والتداول والهيمنة والحضور في الأمكنة كلّها والأزمنة كلّها. لكنّ هذه العقدة تجاه الشعر تفككت في العصور اللاحقة حين تحوّلت الثقافة المجتمعية إلى ثقافة سياسية غير دينية على الرغم من الهيمنة الشكلية للدين، فنشأت حاجة كمالية جديدة للشعر لكنّها مشروطة بخدمة النموذج السياسيّ الثقافيّ على نحوٍ من الأنحاء، فعادت بهجة الشعر على مستوى الحضور غير أنّها ظلّتْ محجوبةً على مستوى الحرية، إذ كانت أبرز حركات الحداثة في تلك العصور تتمركز في بحثها الدائب واللائب عن تلك الحرية المسلوبة.
وحين انتهت عصور الرخاء في الدولة الأموية والعباسية والأندلسية ودخلت الثقافة العربية في نفق مظلم، ضاع فيها صوت الشعر العربيّ النقيّ، وتشتّتَ مثل عصفور مهزوم في آفاق التفرقة والطوائف والكيانات والإيديولوجيات والأفكار المتضاربة والمتصادمة والمتقاتلة، وتمظهر صوت العنف والقتل والتدمير على نحو أكثر شدّة وانتماءً للموت، فلم يعد للشعر حتى في أسوأ أشكاله مكان، وحين وصلنا إلى ما يُصطلح عليه بالشعر الحديث بلغت الثقافة العربية على مستوى الوجود والكينونة والنموّ والسطوع الحضاريّ أرذلَ العمر، وكنستْ عاصفةُ العنف بقايا الشعرية العربية لتنتهي بها إلى سلّة المهملات، وإذا كانت الثورة الشعرية العربية الكبرى التي قادها الروّاد: السيّاب ونازك الملائكة والبياتي والحيدري في العراق ثمّ أدونيس ونزار قباني ومحمد الماغوط وخليل حاوي وحجازي وصلاح عبد الصبور والفيتوري وفدوى طوقان وغيرهم في البلاد العربية الأخرى، كانت على صعيد فكرة الشعر الجمالية ثورة بالغة الأهمية لكنّها على المستوى الثقافيّ افتقدر الى الكثير من شروط الحرية إلّا في حدود استثنائية ضيّقة.
انتهى السيّاب مبكراً إلى موت فجائعيّ مشيّع بالمطر، وتفرّق شمل معظم الشعراء الروّاد الآخرين في الأنحاء كلّها، إمّا مُحارَبين، أو مهزومين، أو مطرودين، أو منفيين، فجاء شعرهم تعبيراً عن سيرهم الذاتية والفكرية المقهورة، واستجابةً لخيباتهم المريرة في الاوطان والثورات والأحزاب، وشاهداً على فقدان الحرية “الجاهلية” في انطلاق الشعر وسياحته في الآفاق بلا موانع أو مصدّات أو شروط، حتى اعتقدَ الكثير من الدارسين أنّ الشعرَ ابنٌ بارٌّ للمعاناة والمأساة والقهر والاضطهاد والعنف والموت، وعابوا على نزار قباني مثلاً كيف يكتب شعر الحياة وهو يعيش عيشةً مرفّهة وأريستقراطية، وكيف أنّه ولد وفي فمه ملعقةٌ من ذهب، حتى ارتبطت الشعرية العربيّة بفكرة الموت أكثر من ارتباطها بفكرة الحياة، وراح الشاعر العربيّ يبحث عن شكل من أشكال المعاناة والشعور بالقهر والاضطهاد والتدمير والفقر، كي يكون شاعراً حقيقيا يلبّي هذه المشاعر ويحرسها بما تيسّر له من حرارة اللغة وصلابة الصورة وعنف الإيقاع.
حلّ هذا الاقتناع في الشعرية العراقية أكثر من حلوله في الشعريات العربية الأخرى، على نحو يوازي الغناء العراقيّ الغارق في مستنقع النواح، والغافي أبداً بأبوذياته وصويحلياته ومقاماته وويلاته وكلّ أشكاله الغنائية الرائجة على سرير الحزن واللوعة والخراب والفقدان، فتحوّل الشعر العراقيُّ مثل الغناء العراقيّ إلى لعنة “سوداء” حطّت على رؤوس العراقيين فاشتعلت شيباً، وبشّرتها بمزيد من البكاء والنحيب في مدن وبلدات وأرياف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنها منكوبة، نسبة إلى المطرب العراقيّ النائح الشهير سلمان المنكوب. لم يعد يفكّر أهلها بشيء أقرب إلى الخيال الخرافيّ والأسطوريّ يدعى “الحرية” كي يكتب شعراؤها قصيدةً جاهلية تحكي زمن الحرية ولغتها وعصرها الذهبيّ وعفويتها النادرة، إذ ضاقتْ مخيلاتهم، وانحسرت رؤاهم وأحلامهم، وتبلّدت أحاسيسهم، وطأطأت حواسّهم، واندحرت كبرياءاتهم، حتى لم يعد يحلم الأكثر تفاؤلاً فيهم بسوى رغيف خبز حتى لو كان نصف ناضج، وكأس ماء حتى لو كانت شبه نظيفة، وأقلّ ما يمكن من القتل والتهجير والقتل العشوائيّ بالمفخخات والكواتم والمؤامرات، والتصرّف المزاجيّ المازوشيّ بالأرواح على نحو لم يشهد له العالم مثيلاً. فماذا سيكتب الشعراء العراقيون يا ترى؟
الصمت الشعريّ أيّها الشعراءُ العراقيونَ هو أبلغ قصيدة يمكن أن يكتبها أشعركم. فطالما أنّ الحريةَ صامتة صمت الموتى، فعلى الشعر أن يصمت أيضاً، وطالما أنّ الحرية لم يعد لها وجود في العقل العراقيّ والثقافة العراقية والأمل العراقيّ والمصير العراقيّ والأرض العراقية المفككة المستباحة، فالشعر العراقيّ ميّت، وما يُكتَب الآن تحت مظلّة الشعر العراقيّ ليس سوى رسائل رجل ميّت يبعث بسيرته من قبر مهجور ليس له عنوان. توقفوا عن كتابة هذا الركام العظيم من الكلام وتفرّغوا للنحيب واللطم على القصيدة الجاهلية المفقودة، والحرية الجاهلية المفقودة، والأمل الجاهليّ المفقود.
البحور الشعرية (الجاهليّة) افتقرت إلى مائها الصالح للشعر، وبركات الخليل بن أحمد الفراهيديّ فقدت حسّها المبتكر الأصيل في الزحافات والعلل، وتحوّلت إلى أدعية يبيعها المشعوذون والعاطلون والحواة في الشوارع الخلفية بأبخس الأثمان. فالبحر الطويل صار قزماً لا يكاد يُرى، والبحر الكامل تناقصت صورته في مرآة الإبداع حتى كادت تتلاشى، وتوقّف الخبب المدلّل عن الحركة، والهزج الأنيق بلا صوت، وصار البسيط معقّداً، وتحوّل السريع إلى سلحفاة، وتعكّرَ دجلة الخير بعدما هُجّرتْ بساتينه، واختلط ماء الفرات الزلال بدم الأبرياء، ولم يعد في القوس منزع، فكيف ستُطلق سهامَكَ الشعرية أيّها الشاعر العراقيّ الفذّ الباسل المقدام الحائر البائر النازح الرازح، المعتقل بذاته أو من دونها في أفق حرية لا وجود له في ما تُبصر عينك، وتصغي أذنك، ويشمّ أنفك، ويحلّق خيالُك المسكين، وفي ظلّ شمس مشوّهة وقمر أعرج ونجوم تهدّلت من وجه السماء كأنها فضلات؟
أرحُ ركابَكَ من أين ومن عثر، كما قال الجواهريّ، أيّها الشاعر العراقيّ المغترب في أرضك وغيرها، فقد خذلتكَ الكلمات، ولم يسع صلواتك الشعرية أن تنقذ هواك، فالجنازة التي تحمل جثمان الشعر بكرنفال هائل من الأسى مرّتْ من أمامك بلا طبول، وعذركَ الوحيد أنّكَ أعزل.
النهار