بين الخَيار والاختيار/ حسان عباس
تُظهِر معاينة المسار الذي اتخذته الأحداث في سورية منذ اندلاع انتفاضة الكرامة عدداً من المفترقات التي ارتسمت أمام النشطاء المدنيين المنخرطين فيها، ووضعتهم أمام خيارات تبدو للمراقب الخارجي وكأنها خيارات حرّة، وبالتالي يظهر الناشط وكأنه كامل الحرية في اعتماد هذا الخيار أو ذاك. لكن الواقع أن تطورات الأحداث كانت غالباً ما تأخذ النشطاء في دروب أو تضعهم في مواقف، ما كانوا ليتخذوها، أو يناصروها، لو كانوا يمتلكون حقاً حرية الاختيار.
لا نقصد من هذه المقدمة البناء على جبرية تقول بأن كل ما قام به أولئك النشطاء كان قَدَراً محتوماً وجدوا أنفسهم أمامه مسيّرين وليسوا مخَيّرين. لا بل، على العكس تماماً، يجب علينا التأكيد على أن في الكثير من أحداث المرحلة الأولى من الثورة: مرحلة الاحتجاجات السلمية والمظاهرات والاعتصامات والإضرابات… أقدم النشطاء على اختيارات قائمة على الوعي والإدراك النابعَين من إحساس عال بالولاء للوطن ومن قناعة راسخة بحقهم المطلق في المشاركة في مصيرهم ومصير بلدهم وفي حقهم بالعيش الكريم على أرضه. لقد وضعوا بأيديهم وبإراداتهم المبادرات والخطط والمشاريع التي فتحت عيون الناس، وحركت ضمائرهم، وكان لهم قصب السبق في إطلاق مارد الثورة من قمقم الخوف المحكم.
أحد المفترقات المفصلية التي واجهت النشطاء باكراً كان ذاك الذي ارتسم حول موضوع اللجوء إلى العنف. هل يجب البقاء على سلمية الحراك أم الانخراط في المواجهة المسلحة التي كان النظام يدفع الانتفاضة إليها بكل ما أوتي من عنف ووحشية؟ في البدء، لم يكن لخيار العنف مناصروه، وإن بدا هذا القول اليوم رومانسياً فإنه لم يكن وقتها كذلك. فالنشطاء كانوا مستعدّين لمواجهة عنف النظام بالوعي وبالرواقية وبمعرفة التكلفة التي يفترضها خيار اللاعنف المدني؛ واستعادة شريط الأحداث في الأشهر الأولى يثبت ذلك بلا التباس. لكن سياسة “العنف بلا حدود” التي مارستها أجهزة السلطة القمعية تحت شعار “الأسد أو نحرق البلد” استدرجت حق الدفاع عن النفس، على المستويين الفردي والجمعي، وانزلق الحراك قسراً في المواجهة التي وقع عبئها على كاهل الجنود الذين واجهوا في ذواتهم، وفي عمق وعيهم، الصراع الأزلي بين الواجب العسكري والواجب الأخلاقي.
لقد كان أمام الحَراك الخيار بين الانزلاق إلى المواجهة المسلحة والبقاء على السلمية، لكن أهله لم يكن في يدهم حق الاختيار خصوصاً بعدما أصبح البلد ملعباً للمقامرين في اقتصاديات الحرب، وللمتآمرين على المنطقة، وللمغامرين على دروب النِعم الفردوسية المتوّهَمة.
واليوم، يرتسم أمام الناشطين مفترق جديد، قد يكون الأخطر بين كل ما واجهوه حتى الآن: هل يجب تقبّل الضربة العسكرية الغربية أم يجب رفضها؟ العقل يقول إن النشطاء المنخرطين في الحراك منذ بدايته لا يمكن أن يتقبلوا الضربة. فهم في كل ما فعلوه كان خير الوطن ومصلحته وعزته السمت الذي مضوا فيه نحو أهدافهم، فكيف لهم أن يوافقوا الغرب على فعلِ ما ينتقدون النظام على فعله، أعني تدمير البلاد؟ لكن العقل يقول أيضاً إن الأحوال التي وصلنا إليها تدفع بالناشطين إلى “قبول تدخّل الشيطان” إن كان لهذا التدخل أن يخرجنا من دوامة العنف التي جُرّت البلاد إليها بالقوة. خصوصاً بعدما بات من الواضح الجليّ أن الأمل ضعيف في قيام حوار سياسي عقلاني. حوار مسؤول ينظر إلى خلاص البلاد، وليس حواراً قصير النظر لا يتطلع إلا إلى خلاص أفراد من جانب وإلى مكاسب أطراف من الجانب الآخر.
مرة أخرى إذن، يقف الناشطون أمام مفترق ترتسم فيه الخيارات لكنهم هذه المرة، وأكثر من أي وقت مضى، يشعرون بالعجز عن ممارسة حقهم بالاختيار لأن الأمر بكل بساطة خرج من أيديهم، بل خرج من يد سوريا بكاملها.
في مكان ما من “الجريمة والعقاب” يقول دوستويفسكي ما معناه: ليس المهم أن تضع أمام الإنسان خيارات، وإنما أن تمنحه الحق في الاختيار.