بين الصفعة والزنزانة

يوسف بزي

تروي سلوى: منذ 36 عاماً خطفوا أبي، جاءت مجموعة متخفية من عناصر المخابرات السورية من دمشق إلى بيروت وخطفوه إلى داخل سوريا. منذ ذلك الحين، اختفى والدي، الذي كان ضابطاً وديبلوماسياً ومهندساً. قيل إنه “معارض”.

بعد نحو عشرين عاماً على خطفه، عرفنا بالصدفة من أحد الضباط من ذوي الرتب العالية، انه ما زال حيّاً. لم ينطق بأي حرف. فقط أومأ برأسه أن نعم انه موجود في زنزانة ما. غادر مكان اللقاء مستاء من هذه الصدفة ومرتبكاً. كان ذلك هو الخبر الوحيد عن مصير أبي طوال هذه السنوات، تقول سلوى.

الذي حدث بعد عملية الخطف، أن الأسرة باتت بلا معيل: كنا أطفالاً صغاراً، أخذتنا الوالدة لننتقل للعيش في دمشق، بجوار بعض الأقارب. كان ذلك عندما بدأ الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. خسرنا كل شيء، بلا مال ولا مصدر عيش، وتحولنا فجأة إلى أسرة فقيرة، شديدة الفقر. وعدا ذلك، قضينا كل هذه السنوات نستقبل فيها بين حين وآخر “زواراً” من عناصر المخابرات، فقط ليسألونا “هل تعرفون شيئاً عن أبيكم؟” كنت استغرب ذلك، قبل أن أفهم انهم يريدون بالتأكيد أن لا أحد في العالم يدري بمصير والدي. كنا نسايرهم بالكذبة ونقول: اختفى في الحرب اللبنانية.

هربت سلوى وأسرتها منذ أسابيع من دمشق إلى لبنان: “لا يمكنك أن تتخيل النذالة التي تتحكم برقاب الناس في سوريا. إذا أردت الخروج من دمشق كان عليّ أن أذهب إلى مكاتب الأمن لأنال تصريحاً يأذن لي بالسفر، وطبعاً بعد تحقيق أمني مطول. وبالطبع لا يمكنك أن تذهب إليهم خالي اليدين، عليك ان تحمل هدية: هانف خلوي جديد مثلاً، ساعة يد ثمينة، سلسلة فضية. المهم أن تكون الهدية قيمة، وعليك أن تكون ذليلاً وصاغراً أمامهم يومياً وطوال عمرك. عليك أن تبدو أبله امامهم وتطأطئ رأسك امام نظراتهم المتحدية والمتعالية، وان تبلع مبتسماً الإهانة المجانية، في كل مرة تضطر فيها للتعامل معهم، وهو اضطرار دائم يخترق حياتك العادية في كل شؤونك..

مع بدء الثورة ونحن لم نكن نفعل شيئاً ولا نتجرأ حتى على الكلام، باتوا يراقبون أخوتي، يستدعونهم باستمرار للتحقيق معهم عن أحوال الحارة والسكان. كانوا يريدونهم بهذه الطريقة أن يحولوهم إلى مجندين، هكذا تحول الخوف الذي كنا نعيشه طوال مدة اقامتنا في سوريا الى رعب لا يُطاق. وهكذا قررنا أن نهرب، أن نتحول إلى مهجرين وفارين، بلا سبب فعلي، فنحن لم نشترك في اي تظاهرة ولا حتى في كتابة سطر على الأنترنت. لكن الفراغ سلب النوم منا، ما عدنا قادرين على التحمل. ومرة ثانية، خسرنا كل شيء، وتركنا وراءنا كل ما نملكه، اما مصير ابي فما زلنا نحلم بعودته، نحلم بأن نسترد تلك الحياة القديمة العالقة صورها وتفاصيلها في ذاكرتنا الطفولية. كأننا بذلك مثل كل السوريين الذين يشعرون ان بلداً جميلاً كان لهم وقد خطفه النظام منذ أربعين عاماً، ويحلمون بعودته اليهم.

ليست رواية سلوى فريدة أو استثنائية، فهي تكاد تكون أقل درامية من قصص مئات ألوف السوريين طوال العقود التي حكم فيها حزب البعث وآل الأسد سوريا. وقصة اختفاء الوالد في احدى زنزانات النظام تكاد تكون تكراراً لعشرات آلاف القصص المشابهة. فسوريا هي أحد البلدان القليلة جداً في العالم (عراق صدام حسين مثلاً) التي تعرف “أدب السجون” الى درجة يمكننا القول إنه امتياز سوري. وهو أدب فاضح بالفظاعات. عالم من الظلمات الوحشية والبربرية. جحيم انساني يفوق الوصف. ادب يتجاوز خيالات ماركيز دو ساد المريضة والمتاهات المعتمة لفرانز كافكا. ومع فارق جوهري هو انه “ادب واقعي”.

بالأمس روى لي أحد السوريين المقيمين في بيروت: “سألني جاري اللبناني، انت مع الموالاة أم المعارضة، فقلت له كان عمري خمس سنوات حين تلقيت أول صفعة من ضابط المخابرات”. وعلى هذا المثال النموذجي يمضي المواطن السوري عمره، فان كان محظوظاً كانت حياته “آمنة” برفقة الصفعة الدائمة المجازية والفعلية. لكن الكثيرين منهم بلا حظ تقريباً. اذ لا بد ان يمروا مرة واحدة على الأقل من تجربة الاعتقال والتعذيب. قبل مرة التقيت بشابين سوريين، واحد في العشرينات والآخر في الثلاثينات، الأول كان يروي بلا أي انفعال قصة اعتقاله لثلاث سنوات كما لو انه يحكي عن امر عادي جداً. لم يبدر عنه اي شعور بالغضب او المظلومية، كان اعتقاله وسجنه من حتميات الوجود، تماماً مثل الاصابة بنزلة برد او ادمان التدخين. امر لا يستدعي الاستغراب. الثاني امضى سبع سنوات في سجن عدرا الشهير، راوياً التفاصيل المهولة للتعذيب الذي تعرض له، بنبرة تقريرية كما لو انه يقرأ مقالة باردة عن شخص يعيش في الطرف الآخر من الكرة الأرضية.

حتى انهما ضحكا مرات عدة من تعابير دهشتي واستنكاري. بالطبع، الشابان ليسا مجردين من الاحاسيس ومن الشعور بالمرارة، لكنهما كانا على الأرجح يخضعان للباقة التواضع مع بقية سكان سوريا. فان تتعرض للضرب او الاعتقال او التعذيب (ناهيك عن القتل أيضاً) في الشارع أو في أقبية المخابرات فلا يجعلك ذلك “بطلاً” او فرداًُ استثنائياً. انك تتساوى مع الآخرين بل ربما هكذا تستحق ميزة “المساواة” نفسها مع مواطنيك الآخرين، تماماً كما الذهاب الى الخدمة العسكرية الالزامية مثلاً.

ما يُدهش النظام السوري حالياً، ويحيره في الثورة هو لماذا فجأة صار الناس مستنكرين لممارساته واساليبه في التعامل مع المواطنين، اليس هذا ما اعتاده طوال اربعة عقود من دون تذمر تقريباً. لماذا بغتة تعطلت آليات الخضوع؟ ثم لماذا ظهر كل هذا الغضب العالمي تجاه القمع الذي يمارسه الآن، فما يقوم به راهناً ليس جديداً، بل هو من يوميات “سوريا الحديثة” وعادياتها. ثم ان هذه الممارسات حسب عقلية النظام، لا دخل لها في السياسة. فهذه الأخيرة معقودة على “الوحدة، الحرية، الاشتراكية” وعلى “الممانعة” وعلى كراهية الامبريالية وعداوة اسرائيل. اما المسائل التي تدخل في باب حقوق الانسان، وما يترتب عليها من علاقة الدولة بالمجتمع والأفراد، فهذه بدع تخص شعوباً اخرى. تماماً كما يعتقد حزب الله مثلاً الذي قال امينه العام مرة “وما ادراك ما هو التحقيق العنجري” (نسبة الى مقر المخابرات السورية في لبنان) مشيراً الى فظاعة التعذيب ووحشيته الذي تعرض له أحد كوادر الحزب المذكور دون ان تتحول هذه الواقعة وغيرها إلى خلاف. فالسياسة هي الشعار: مقاومة، ممانعة، صمود وتصد… اما مسألة “معس” شعب بأكمله، فهذا تفصيل لا يمس حساب مصلحة “السلاح” مثلاً، ولا يهز ضمير “المظلومية” الذي يرفعه حزب الله عنواناً له.

يستغرب النظام، بصدق، لماذا خرج الشعب السوري عن طاعته، وتذهب به الحيرة الى تفسير وحيد يجده منطقياً: لا بد انها مؤامرة، وإلا بأي “سر” تبدد كل جهد التدجين الذي بذل لعشرات السنين! وهو اليوم لا يطالب الا بأمر شديد البساطة: لتعد الأمور الى حالها “الطبيعية” كما كانت. انه شديد الصدق برغبته في “عودة الاستقرار” وهي رغبة بديهية، حسب النظام، لا بد ان كل مواطن سوري ينشدها ويطلبها. استقرار يقوم على “أبدية” الحاكم و”أبدية” الزنزانة” وما بينهما الصفعة اليومية.

فمن يقبل بهكذا صفقة؟

المستقبل