صفحات سوريةعمر قدور

بين مطامع السلطة وخسارات الفضاء العام

عمر قدور

لا يتوقف الجدل الطائفي عن فعاليته المستترة أو الصارخة في سوريا؛ جزء منه يرجع بلا شك إلى دعاوى النظام عن طائفية الثورة والردود عليها، وجزء آخر يرجع إلى تجرؤ السوريين لأول مرة على الدخول إلى مناطق في وعيهم أو لاوعيهم كانت محرّمة إلى وقت قريب. يساهم في بروز هذا الجدل ما تبدو أنها إرادة دولية في إثارة موضوع الأكثرية والأقليات، بالمعنى الطائفي والإثني، على حساب قضايا تقليدية كحقوق الإنسان والتنمية، ما يضع المنطقة أمام لحظة تأسيسية إنْ على مستوى الوعي أو على مستوى الجغرافيا.

من المحتم أن نقاشاً كهذا ستختلط فيه الوقائع التاريخية والماضي القريب، وما يُبنى عليهما من تصورات مستقبلية، على حدّ سواء؛ الأمر الذي ساهم ويساهم في تشعّبه من دون الوصول إلى نقاط التقاء حقيقية بين أطرافه، بخاصة عندما يقتضي الالتقاء التحللَ الجاد من النمطية التي تقولب الآخر وتغلق عليه نافذة التحولات. هكذا قد يكون العبور إلى الوئام الوطني محفوفاً بالشكوك، طالما أن التخوفات تتغذى من وعي مأزوم ومفتوح على جروح الماضي، وطالما لا يتمّ الاعتراف المتبادل بأزمة الآخر وتمكينه من تجاوزها فعلاً.

ولأن الوعي الأقلوي أكثر قابلية للتمحور حول الذات، وأقرب لأن يكون مأزوماً متى اشتدت الظروف، فسيكون الأولى بالرعاية ظاهرياً، وهو ما تداعبه فكرة حماية الأقليات الآن. غير أن هذه الفكرة تتوسل السلطة السياسية كشكل وحيد لتمكين الأقليات، وبذلك تنفي عنها القدرة على المشاركة أو حتى الريادة في المجال العام منفصلاً عن السياسة المباشرة، فلا تصبح المشاركة في الحياة العامة مدخلاً للمشاركة السياسية بل العكس في تجاهل للوقائع التاريخية القريبة، أي عندما انفتحت الأقليات على مشاريع التنوير، بل كان لأفراد منها شرف ريادة العديد منها.

بخلاف ما يُشاع اليوم، لم تكن السلطة السياسية إلا أداة سلبية عندما عنت التسلط والاستئثار، ففي المثال اللبناني لم تكن المشاركة والريادة المارونية المتنوعة في إنجاز النموذج اللبناني موضع جدل، بينما ساهمت المارونية السياسية المنغلقة بشكل حثيث بالقضاء عليه. بالمثل شهدت سوريا انفتاحاً للأقليات ومساهمة فعلية في الحياة العامة مع نهاية العهد العثماني، وكانت الأفكار القومية والوطنية مدخلاً لانفتاحها على الآخر، قبل أن تستأثر طغمة منها بالسلطة وتطيح بالمكتسبات المستدامة التي كانت في سبيلها إلى التحقق. على المدى البعيد لم تكن السلطة بتلك الرافعة المزعومة لتمكين الأقليات، فأدت واقعياً إلى الإساءة لانفتاح الآخر عليها، وإلى إعاقة تمكينها ضمن الحياة العامة بشكل متدرج وسلس؛ آخذين بالاعتبار انغلاق السلطة في هذه البلدان تجاه مفاهيم التشاركية والتداول، أي وقوعها على الضد من المشاريع الوطنية التي تقتضي الانفتاح بين مكونات البلد.

من المرجح طبعاً أن يأخذ احتكار السلطة مسارب متشابهة بصرف النظر عن الهوية الطائفية للطغمة الحاكمة، كما رأينا في دول الربيع العربي التي لا تشهد انقسامات مذهبية، لكن اصطباغها بلون طائفي أقلوي يشتت الانتباه عن الآثار السلبية العامة، ومن جهة أخرى يتسبب بانتكاسات حادة للأقليات المعنية، ما يجعل خسارة السلطة خسارةً كبرى لجهود أبنائها في الفضاء العام. ذلك ما لم يتجاوز أبناؤها الوعي الأقلوي الحاد الذي يطغى على هذه اللحظة، وينتزعوا المبادرة من الطبقة السياسية التي تستند إليه في مقامرة فاشلة على المدى المتوسط والبعيد.

في لحظة تاريخية كهذه قد يترتب على الأقليات أن تبادر إلى ما لا تطيقه، لأنه وحده الكفيل بالحد من الخسارة العامة، ولأن التنازل عن بعض المكتسبات السياسية قد يكون المدخل الأفضل للحفاظ على الفضاء العام المشترك. قد يقتضي هذا، على العكس مما هو متداول، أن تطمئن الأقلياتُ الأكثريةَ لأن الأخيرة أكثر إحساساً أو تعرضاً لكوارث النظام، وأن تغالب مخاوفها لتكون في مقدمة قوى التغيير. أما أطروحة حماية الأقليات، كما يجري تداولها الآن، فهي ليست سوى إقصائها في غيتوات كبيرة وإقامة روابط لها خارج الحدود بدلاً من روابطها الطبيعية في الداخل، مهما بدت الفكرة عادلة للوهلة الأولى.

بالتأكيد سيساعد هذا في تخليص الأكثرية المذهبية من الوعي الطائفي المأزوم، بدلا من دفعها إليه، أو بالأحرى سيدفعها لتصبح أكثرية حقيقية، أي يخلصها من سمات الوعي الأقلوي الذي اكتسبته بدورها من زمن الإقصاء والتهميش.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى