بين َ الساعة الثانية عشر و ساعة الصفر
شيرين الحايك
زين العابدين بن علي في السعودية ، حسني مبارك في السجن ، القذافي جثّة تحت الثرى ، علي عبد الله صالح ، اخر الساقطين ، سيتحسس ُ بقيّة عمره آثار الطغيان عندما يواجه الثورة على وجهه ، هكذا أعلنت 2011 نهايتها ، يردد ُ كـُثر ” من كان يتوقع كلّ هذا في عام ٍ بدأته ُ البلدان العربية و شعوبها بشكل ٍ إعتياديّ و احتفالات ٍ اعتياديّة السطحيّ منها و العميق بسنة ٍ جديدة ٍ ليس َ إلّا ” و فعلا ً ، من كان يتوقع ؟
مرت منذ ُ أيام ٍ الذكرى السنوية الأولى لإحراق البوعزيزي نفسه ُ ، يراودني شيء من الرومنسية عندما أتحدث ُ عن الأمر أمام أحد الأجانب . الرومنسية التي تؤكد أن الواقع أكثر خيالا ً من الخيال نفسه ، رومنسية الثورات ، ربما . شخص يحرق نفسه احتجاجا ً على مصادرة عربة الخضار التي كانت دخله الوحيد بسبب حالة البطالة التي تعاني منها البلد و طريقة المعاملة التي تلقاها في محاولة استعادة عربته . شرطيّة تصفعه ُ فيحرق نفسه ُ عندما تتساوى الحياة و الموت بين يديه ، يحرق نفسه ُ و يمضي غير آبه ٍ بالموت معلنا ً التحدي قائلا ً كلمته ُ و صافعا ً الشعوب كافة ً على وجهها قائلا ً بفعلته هذه أنّ مصير أيّ واحد منكم لن يختلف عن مصيري و أنني أكبر كرامة ً و جوعا ً من أن أكون شريكا ً في هذه الحياة .
أفكر ُ أحيانا ً ، هل يمكن أعتبار البوعزيزي ضحيّة الشعوب نفسها قبل َ أن يكون ضحيّة الأنظمة الفاسدة ؟ لا أعرف وهو على أغلب الظن ليس َ كذلك تماما ً . يموت ُ في كلّ يوم ٍ العشرات والعشرات من البوعزيزيين الذين يخرجون من بيوتهم صباحا ً حاملين معهم من الموت كحِملهم من الحياة ، يواجهون من الوحشيّة و الظلم و الطغيان ما يحرق كلّ شيء فيهم و يعيدهم إلى أهلهم وأصدقائهم جثّثا ً تشبه شكلا ً ما عرفوه و لا تعرف ُ من يشبهها . “يخرجون إلى حتفهم باسمين “ في تأكيد على تساوي كلّ شيء ، الفرح و الموت، و الموت و الحزن ..
البوعزيزي احترق َ و أعلن بإحتراقه اشعال الفتيل الذي بدأ بإحراق الأنظمة الفاسدة واحد تلو الآخر طوال عام ٍ من أكثر الأعوام التي تعتبر أنها مغيّرة للتاريخ عربيا ً أو حتى عالميا ً ، بشكل ٍ مباشر أو غير مباشر .
بقي على الساحة العربية حاليا ً كلَ من الثورة السورية و البحرينية اللتان تنتظران اسقاط الأنظمه فيهما قبل َ أن تبداأ رحلة الإصلاح الأكبر . البحرين التي أعتبر، بشكل ٍ شخصي ّ، أنها الأصعب و الأطول مشوارا ً لأسباب يطول شرحها – أهمّها الإهمال الإعلامي و التكاتف الملكي – الخليجي ضدها – . أمّا الثور السورية فهنا تبدأ قصّة مملكة الصمت التي نطقت كالموت الذي يحيا .
أذكر ُ جيّدا ً أنه ُ عندما بدأت الإحتجاجات في تونس ، انتشرت عبارة على الشبكات الإجتماعيّة قالت “ أنا سوري ، أنا تونسي “ عندها كان الحلم أصغر ، و لكن مع ذلك أذكر محاولة بعض الأصدقاء و النشطاء في القيام بالتحدي الأوّل و تنظيم وقفات تضامنيّة مع الشعب التونسي و من ثمّ المصري و أخيرا ً الليبي في دمشق . في الوقفة التضامنيّة مع الشعب الليبي ، الذي كان واضحا ً أكثر من كلّ شيء فيها ، هو مستوى التحدي و الشعارات التي كانت ببساطه تتبع مبدأ “ الحكي إلك يا كنّة اسمعي يا جارة “ ، هناك َ صدح ً شعار “ خاين اللي بيقتل شعبه “ ، إلّا أن المفارقة الحقيقية و النقطه التي عرفت ُ عندها أنّ لا عودة فعلا ً و أن سوريا و الشعب السوري على طريق الحريّة و أنهم يتحسسون نبض بعضهم البعض كجريح ٍ يتأكد ُ بأنّ صديقه ُ مازال يتنفس كي يتابع مجاهدا ً محاولة الحياة . ثمّ كانت حادثة الحريقة في 17 شباط عندما تجمّعت الناس في سوق الحريقة و هتفت جمعاء : “ الشعب السوري ما بينذل ! “ ردا ً على اهانة لمواطن ٍ سوري من قبل شرطيّ ، أذكر ُ جيّدا ً أنه عندما حضر وزير الداخلية وبدأ بعض الخوف يدغدغ ُ بعض القلوب فبدأت تهتف بشعارات ٍ تحية للأسد ، لم يكن هناك ردّ فعلي ّ من الجموع ، كانت أصوات وحيدة ليس إلّا .. في هذه اللحظه تماماً ، تأكدت ُ من أنّ لقب مملكة الصمت في سوريا قد انتهى .
تتابعت الأحداث و ها نحن ُ اليوم نحتفل ُ برأس السنة الجديدة بمزيد من الشهداء و مزيد من الخلاف بين صفوف المعارضة السورية ، التي و برأي الشخصي َ ، خذلت الشارع مرارا ً ، و قد يصح القول أنها خذلت الشارع بقدر ما كان النظام يتمنى منها أن تفعل. المعارضة السورية هي إبنة الوضع الذي فرضه النظام في سوريا على مدى ما يقارب النصف قرن ، ليس أنها من رجالاته ، بل أنها لم تعرف طريقا ً للقيادة إلّا طريقة النظام و لم تعرف طريقا ً للتواصل فيما بينها إلّا بما اعتادت عليه السياسة السورية في ظلّ النظام. هكذا كبرت و هكذا ناضلت ، ربما أنها لم تتوقع يوما ً أنها ستصل إلى يوم ٍ كاليوم و أنه سيتعلق على عاتقها مسؤوليات كهذه . تذكرني المعارضة أحيانا ً بالأطفال الذين َ ينقدون تصرفات أهلهم معهم على مدى أعوام ٍ و هم يكبرون ، ثم ّ و عندما يصبحون هم نفسهم آباء يمارسون نفس العادات على أبنائهم ، ببساطة لأنهم لا يعرفون طريقة أخرى و لم يتعودوا على طريقة اخرى . المحزن في الموضوع ليس َ أنها كذلك و حسب ، بل أنها لا تحاول غير ذلك ، لا تثور على نفسها و القواعد و الأسس التي وضعها نظام فاسد و سار عليها على مدى أعوام و جرّنا جميعا ً للسير معه على قوانينه . أنا اليوم لا أجد ُ فارقا ً حقيقيا ً بين المعارضة السورية و النظام ، كمؤسسات و منظمات و تجمعات سياسية ، ربما أكون ُ قاسية ً بعض الشيء بحقّ المعارضة ( و في كل مرة اقول المعارضة اعني فيها المعارضة كجماعات و ليس كأفراد إذ أن الحديث سيختلف عند التطرق للأشخاص ) و لكن كمواطنة سورية أمتلك بعض المخاوف التي خلفتها طرق المعارضة في معالجة الأوضاع و حماية الشعب قبل حماية مصالحها و هذا جمّ ما أخشاه عندما أراقب الخلافات الداخلية بين أفراد المعارضة ، أن لا تثور المعارضة على نفسها و ألّا تتغيير و أن يضطر الشارع السوري لأن يثور مجددا ً على المعارضة كما ثار على النظام قبل أن يضع أولى خطواته في الطريق نحو البلد التي يحلم بها آلاف و ملايين من السوريين .
لا أخفي أننا و إذ ندخل ُ في عام ٍ جديد ٍ تزداد مخاوفي حول توجه الثورة في سوريا ، مازالت ثقتي في الشعب الذي أثبت مرارا ً أنه ُ أكثر وعيا ً من أيّ سياسيّ ، معارض أو موال ٍ يجلس ُ على كرسيّ ليطلق َ الكلام و الأفكار ، مازالت ثقتي بهذا الشعب الرائع عالية جدّا ً ، لكن مخاوفي هي في أن يُقاد هذا الشعب في طريق ٍ يضطر فيه العودة لاحقا ً ، أن يجد نفسه كالغريق الذي يترك ُ وحيدا ً في عرض البحر ساعات و أيّام حتى يصبح الحوت الذي قد يأكله ُ بعد أن يصل به إلى الشاطئ ، صديقا ً و منقذا ً . فالشعب في سوريا عاش َ أعواما ً دون أيّ وعي ّ سياسي و سيكون من السهل خداعه ُ سياسيا ً مرارا ً قبل َ أن يتمكن من أن يكتشف سياسييه الجدد ، لكنني متفائلة !
ثورة السورية بدأت بأروع ما يمكن لثورة أن تبدأ ، سواء باعتصام أهالي المعتقلين في دمشق في 14 آذار ، أو في جرأه شباب الحميدية في دمشق في 15 آذار ، و تباعا ً لدرعا و حمص و اللاذقية التي تغلبت على ما حاول النظام أن يزرع فيها من طائفيّة مرورا ً بكل شارع و حيّ و منزل ثار في سوريا . أعود إلى بعض الفيديوهات و أشعر ُ بالفخر الذي أخشى أننا نبتعد ُ عنه ُ أحيانا ً ، بشكل ٍ خاص عندما بدأت الثورة تتخلى بشكل ٍ جزئيّ عن سلميتها ، و التي دفعها النظام ( و المعارضة ) و بعض اخر من الصامتين عن الموت ، إليها . أنا و إذ أفهم من ينادي بحمل السلاح للتخلص من الوضع الحالي الذي يعيشه ُ من تهديد بالقتل الشخصي أو القتل و الاعتداء و التشويه و التعذيب لأحبابه بشكل ٍ دائم ، إلّا أنني مازلت ُ أجد ُ في النضال السلمي طريقا ً أكثر أمانا ً و إن كان يسألني البعض عندما أقول ذلك إن كان النضال السلمي مازال َ معقولا ً بعد أن أثبت النظام أنه ُ على استعداد لقتل أيّ شيء و التضحية بكلّ شيء في سبيل بقائه و لا أعرف الإجابة الكاملة و المنطقية على ذلك تماما ً.
هناك الكثير للكتابة عنه ُ و لكن كي لا أطيل الحديث أكثر علي ّ أن أقول أنني و إذ تدقّ الساعة الثانية عشر معلنة ً نهاية عام ٍ فاق ً في أحداثه توقعات أكبر المنجمين في العالم ، أحتفظ ُ بتفاؤولي و بأنّ المفاجآت قد تحصل بين ليلة ٍ و ضحاها قد تقلب كلّ النظريات التي يضعها أيّ و كلّ منّا . الكثير من الدول و الأشخاص و المعارضين و المثقفين و أشهر من كان يتوقع منهم أن يكونوا أوّل قادة لأي حراك في سوريا خذلوا الشارع السوري و لكن الشارع أبقى و أكثر قدرة على المفاجآت من أيّ شيء آخر . لذا أختم بعبارة يسقط كلّ شيء و تحيا الشعوب وحدها فهي ، و فقط هي من تكتب التاريخ !
..
مدوّنة سوريّة
www.freesham.com