تاريخ الاسلام السياسي في سورية المعاصرة وتأثيره على الثورة
د. حازم نهار
يمكن القول، من وجهة نظر تاريخية، أن الإرث السياسي الإسلامي في سورية قد مر عبر مرحلتين متمايزتين: الأولى هي مرحلة الانتداب الفرنسي وما بعد الاستقلال حتى انقلاب الأسد عام 1970 (أي ما يقارب الـ 50 عاماً)، والثانية هي مرحلة الرئيس حافظ الأسد وتوريث نجله السلطة عام 2000 وحتى اليوم (مدتها 42 عاماً).
لقد تشكلت سورية الحديثة في سياق نهاية الدولة العثمانية وحلول الاستعمار الفرنسي مكانها في عام 1920. وكان واضحاً أن التطور الاقتصادي-الاجتماعي في سورية يسير بشكل عام في اتجاه مدني مرتبط بشكل وثيق مع السوق الرأسمالية الدولية ومع قيم الثقافة الليبرالية، خاصة مع بدء ظهور الطبقة الوسطى من التجار والمهنيين والموظفين الذين بدؤوا يلعبون دوراً مؤثراً في المجتمع السوري. ومع ذلك نشأت في هذا السياق أيضاً النويات الأولى لتنظيمات الإسلام السياسي، فقد ظهرت جمعيات إسلامية عدة، وهي جمعيات شكل كثير من قادتها وأعضائها القاعدة الأساسية والنخبة القيادية لجماعة الإخوان المسلمين وتيارات الإسلام السياسي الأخرى فيما بعد.
ومن هذه الجمعيات جمعية “الغراء” برئاسة محمد هاشم الخطيب الحسيني، ثم محمد الدقر، وكان من نشطائها عبد الحميد الطباع الذي انتخب فيما بعد عضواً في البرلمان العام 1943. وتأسست جمعية الهداية في العام 1930، ومن أشهر شخصياتها: كامل القصار وهو رجل دين وقاض، وسليمان العظمة أحد التجار والمالكين الكبار في سورية، وكان الشيخ مصطفى السباعي، مؤسس الإخوان المسلمين في سورية، رئيساً لفرع الجمعية في مدينته حمص.
وأنشئت جمعية التمدن الإسلامي في العام 1932، وكانت تصدر مجلة “التمدن الإسلامي”، وتميزت فيها مجموعة من النخب المؤثرة، مثل أحمد مظهر العظمة وأحمد بهجت البيطار وحسن الشطي وخالد الخاني، وكان اثنان من قادتها من القيادات السياسية في البلد، وهما عارف التوأم ووحيد الحكيم، وكان كثير من قادتها ونشطائها من قادة ونشطاء الإخوان المسلمين، مثل عمر بهاء الدين الأميري، ومحمد المبارك، وترأس هذه الجمعية فيما بعد أحمد معاذ الخطيب الحسني.
ليس هناك تاريخ تأسيس محدد لدى الإخوان المسلمين في سورية كما هو الحال في مصر، مع العلم أن الإخوان في مصر قد اهتموا بالطلبة السوريين المتواجدين هناك للدراسة وكان أبرزهم الشيخ مصطفى السباعي والشيخ محمد الحامد. وقد نشأت الجماعة في سورية من خلال اندماج عدة جمعيات إسلامية في منتصف الأربعينيات. وكانت هذه الجمعيات قد تأسست في أوائل الثلاثينيات والأربعينيات، مثل جمعية “شباب محمد” و”دار الأرقم” برئاسة عمر بهاء الدين الأميري الذي عمل فيما بعد نائباً لرئيس الإخوان المسلمين.
وقد أقامت جماعة الإخوان المسلمين في صيف العام 1946 معسكراً تدريبياً، شارك فيه حوالي 300 شاب من الإخوان، وتوسع تنظيمهم بسرعة وكانت لهم فروع في جميع المحافظات والمدن السورية. وكشأن الإخوان المسلمين في جميع الأقطار، كانت الجماعة في سورية تعبر بوضوح عن الإرادة والرغبة في مجابهة مشاكل العصر الحديث بالتوافق مع الإسلام، ولم يختلفوا من خلال نشاطهم كجمعية عن الإطار العام للتطورات الاجتماعية في ذلك الحين.
ومن المعروف أن شكري القوتلي قد حظي بدعم الجمعية الغراء الإسلامية وجمعيات إسلامية أخرى. ومن الإسلاميين الذين نجحوا مع القوتلي في الانتخابات التي أجريت العام 1943 عبد الحميد الطباع، ولكن التحالف بين القوتلي والجمعية الغراء تفكك بعد عام واحد. وشارك الإخوان والإسلاميون المتحالفون معهم في الانتخابات النيابية العام 1947، وانتخب منهم محمد المبارك ومعروف الدواليبي ومحمود الشقفة، وكان من مرشحيهم لتلك الانتخابات عمر بهاء الدين الأميري وعلي الطنطاوي وعبد الحميد الطباع ومظهر العظمة.
كانت مشاركة الإخوان السياسية في الفترة بين العامين 1947 و1949 (انقلاب حسنى الزعيم) تعبر عن تفاعل إيجابي مع التطورات السياسية، وغالبا ما كانت مناقشاتهم السياسية لا تشير إلى أنهم يرون في نظام الإسلام نظاماً شاملاً لجميع نواحي الحياة. وأثناء التعرض لمسائل السياسة الداخلية والاجتماعية في المجتمع، لم يحاجج الإخوان المسلمون من منطلق نظام الإسلام، ولكن من منظار ديني أخلاقي.
وبعد انقلاب حسني الزعيم عمل الإخوان من خلال الجبهة الاشتراكية الإسلامية، وحافظوا على الطابع غير السياسي للإخوان المسلمين. وأصدروا مجلة “المنار الجديد” بعد مجلتهم السابقة “المنار”، وشاركوا في الانتخابات النيابية التي جرت العام 1949، وكان من مرشحيهم مصطفى السباعي ومحمد المبارك وعبد الحميد الطباع وعارف الطرقجي وعمر بهاء الدين الأميري ومعروف الدواليبي، ودعموا في تلك الانتخابات اثنين من المرشحين المسيحيين، هما الطبيب جورج شلهوب والمحامي قسطنطين منصة. وشارك الإخوان المسلمون في حكومة خالد العظم العام 1950 من خلال معروف الدواليبي وزير الاقتصاد، وشاركوا في معظم التطورات المهمة التي وقعت في سورية، مثل القضية الفلسطينية، وتطوير سياسة الحياد بين الدول العظمى.
كان الجيش هو الخصم الأساسي للإخوان المسلمين، بدءاً بانقلاب حسنى الزعيم ثم أديب الشيشكلي. وقد انسحبوا من العمل السياسي إثر انتهاء فترة حكم أديب الشيشكلي العام 1954، فلم يشاركوا في الانتخابات العامة، وظلوا يعبرون على نحو عام عن مصالح وتطلعات الطبقة الوسطى.
لقد كانت كل حركات الإسلام السياسي حتى ذلك الوقت تؤمن باللعبة الديمقراطية، ولا تشكل برامجهم السياسية فروقاً واضحة عن برامج أي حزب علماني محافظ باستثناء البصمة الدينية المحدودة التي تتجلى في مطلب أو اثنين حيث تبدو مجرد زينة في إطار برنامج سياسي صرف. والأكثر من ذلك فقد ساهم الإخوان في أول صياغة علمانية للدستور السوري عام 1950م واكتفى الإخوان بقبول بندين في الدستور يتعلقان بالإسلام. وتحت قيادة السباعي في مرحلتي الأربعينيات والخمسينيات كانت الجماعة تبشر بخطاب معتدل مقبول من كل الأطراف، أسماه بعض الباحثين بالخطاب الليبرالي الإسلامي، وقد تميز طرح تلك الفترة بأطروحات السباعي الحضارية: (من روائع حضارتنا، عظماؤنا في التاريخ، أخلاقنا الاجتماعية، اشتراكية الإسلام…) .
كان التنظيم السوري للجماعة في فترة الخمسينيات من أقوى التنظيمات الفاعلة على المستوى الإخواني العالمي، بل يقال أنه جرى التفكير بعد اغتيال حسن البنا في أن تتحول مكاتب الجماعة إلى سوريا بحكم قوة حضورها فيها، وإبان الصدام ما بين الجماعة وعبد الناصر بين عامي 1953، 1954 شكل التنظيم الإخواني السوري نوعاً من قاعدة خلفية لمكتب الإرشاد العام، وبعد محنة عام 1954 تولى التنظيم السوري عملياً مهمة التنسيق ما بين التنظيمات القطرية الإخوانية في البلدان العربية.
وقد نشأ أول تفكير في تأسيس تنظيم أصولي عنيف بعد عام 1963م ، أي بعد استيلاء البعثيين على مقاليد الحكم، ويتضح من ذلك أن منشأ التفكير المتطرف يعود لسببين رئيسيين هما: احتكار البعث للسلطة، والاستقطاب الطائفي في قيادات الجيش وحزب البعث.
لقد تركت فترة الستينيات أحقاداً بين الإسلاميين والبعثيين على وجه الخصوص، إذ بعد أن استلم البعثيون الحكم في عام 1963، بدأ الإخوان المسلمون بإثارة مشاعر العداء ضد البعثيين في المدن السورية الداخلية، وتم تشكيل خلايا سرية من الجماعات الاسلامية تهدف إلى إسقاط نظام البعث. فعلى سبيل المثال، في حلب قام الشيخ عبد الرحمن جودة، وهو حليف الرئيس السوري الأسبق ناظم القدسي ومفتي سابق في مدينة حلب، بتأسيس حركة التحرير الإسلامي. وفي عام 1964 تفاقم الشغب وتحول إلى حرب دينية في مدينة حماه المحافظة، التي حملت فيها الأسلحة ضد الحكومة. كان المحرض الرئيسي لهذه الأحداث هو مروان حديد القائد الاسلامي من مدينة حماه الذي زعم بأن البعثيين وجميع الأشخاص العلمانيين هم ملحدون ويجب ذبحهم. لقد خلق هذا القائد من المتطرفين الاسلاميين ميليشيات شوارع لضرب أي شخص له علاقة مع النظام، وسماها الطليعة المقاتلة. وهكذا أصبح من غير الآمن على البعثيين السير في شوارع حماه دون حراسة، بسبب تعرض كل من وقع بيد هذه الطليعة إلى الضرب وأحياناً للقتل على يد الإسلاميين. وكان أشهر اغتيال قامت به هذه الطليعة هو اغتيال منذر الشمالي العضو الشاب في حرس البعث الوطني، لذا أمر وزير الدفاع حمد عبيد الجيش السوري باجتياح مدينة حماه، وفي النهاية قتل حوالي 70 شخصاً من الإخوان المسلمين. وبد أن لحقت بهم الهزيمة ألقوا أسلحتهم وأوقفوا نشاطاتهم الحربية خلال الخمس عشرة سنة التالية، وعادوا للظهور ثانية عام 1979، مع العلم أن جماعة الإخوان قد انشقت في عام 1970 إلى مجموعتين، تنظيم دمشق يرأسه عصام العطار، وتنظيم حلب يرأسه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة
هناك عدة عوامل دفعت الإخوان المسلمين للنشاط ثانية في منتصف السبعينيات، فهم من جهة تجاوزوا هزيمتهم مادياً ومالياً في عام 1964، ومن جهة ثانية ساهم دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976 ووقوفه إلى جانب المسيحيين ضد ياسر عرفات في رفع درجة استفزازهم ضد الأسد في ظل مناخ التوتر الطائفي والسياسي الحاد آنذاك، ومن جهة ثالثة كان الإخوان المسلمون يحتكرون بقوة المدارس آنذاك وبالتالي يمكنهم تلقين مذهبهم للكثير من اليافعين والشبان، إضافة لتحول خطابهم منذ أواسط السبعينيات باتجاه خطاب جهادي ينحو باتجاه التطرف والعنف.
وفي عام1975 شكل عبد الستار الزعيم تشكيلاً عسكرياً يدين بالولاء لمروان حديد، لكن هذا التنظيم ظهر عمليا من خلال مهاجمة مدرسة المدفعية في حلب في حزيران عام 1979. وقد تبرأت جماعة الإخوان من الحادثة، غير أن أفراد الطليعة أصروا على أنهم “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين”، وأسفر ذلك عن مقتل العديد من شباب البعث العسكريين، رغم أنهم ليسوا جميعاً من البعثيين العلويين. وهنا رد نظام البعث بقسوة، ففي المؤتمر السابع لحزب البعث الذي انعقد بين 23 كانون الأول و 6 كانون الثاني من عام 1980، صرح رفعت الأسد، شقيق الرئيس، بشكل واضح أن الإخلاص هو واجب وأنه كل من لا يقف إلى جانب البعث في هذه المرحلة هو ضده. وفي 26 حزيران عام 1980 حاول الإخوان المسلمون قتل الأسد في دمشق، لذا قام هو بدوره بسن القانون 49 في 8 تموز الذي ينص على أن العضوية في الإخوان المسلمين يعتبر جريمة عقوبتها الإعدام. وبلغ القتال ذروته في الثاني والثالث من شباط عام 1982 في مدينة حماه، التي صعد الإخوان المسلمون منابر جوامعها ودعوا إلى “حرب شاملة” ضد نظام البعث. السلطات من جهتها استخدمت القوة في ردّها، حيث أصدرت أوامرها للجيش السوري بسحق التمرد، وعلى الفور امتثل الجيش للأوامر وقام بسحق التمرد وقتل الآلاف منهم.
لقد مارس نظام الأسد أشد الأعمال قسوة ووحشية تجاه كل من يشتبه بأنه من الجماعة، فقد اعتقل عشرات الآلاف وتم تصفية الآلاف بشكل منظم في السجون وبقيت مجزرة حماة 28 فبراير 1982 التي ذهب ضحيتها حوالي 38 ألفاً من أفظع ما يمكن أن يحدث في صراع نظام سياسي من أجل البقاء في الحكم، كما طال تأثير هذه الفظاعات مئات الألوف من الأسر، فحرم طوال أكثر من ربع قرن أبناء المسجونين والمنفيين وأقرباؤهم من أغلب حقوقهم المدنية وتمت مصادرة أملاك الكثيرين منهم.
هذه الهزيمة التي لحقت بالإخوان المسلمين في حماه تسببت باختفائهم من ساحة السياسة السورية خلال الفترة المتبقية من عقد الثمانينات، وكان لذلك تأثيره على مجمل الحياة السورية، فقد كان عقد الثمانينيات عقداً كئيباً في حياة السوريين حتى حرب الخليج الثانية عام 1991م، ففي ظل هذه الحقبة وما أعقبها تم تثبيت أركان النظام الاستبدادي وإلغاء الحياة السياسية، رغم قيام النظام بالإفراج عن دفعة من السجناء السياسيين كان معظمهم من الإخوان المسلمين عام 1991. ونذكر هنا أن الجماعة قد انشقت في عام 1986 إلى تنظيمين، حلبي بقيادة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وحموي بقيادة عدنان سعد الدين، ثم توحد التنظيمان لاحقاً في عام 1992، ولا يزال التنظيم موحداً حتى اليوم، بعد أن تسرب منه أعداد ذات وزن وكفاءة!
أما سنوات عقد التسعينيات فكانت أكثر السنوات راحة لحافظ الأسد بعد أن أغلق فيه المجال السياسي الداخلي نهائياً، بل أهمل السياسة الداخلية بعد ذلك بشكل لافت بعد أن اطمئن إلي استحكام قبضته فيها بالحفاظ على النموذج البوليسي للدولة التسلطية، والتفت إلي مسألة التوريث بعد أن استتب له الأمر في لبنان، واستطاع بسط نفوذه عليه بعد اتفاق الطائف 1989م.
في أواخر التسعينيات لم يهتم الأسد سوي بتهيئة مناخ التوريث، وكانت مخاوفه دوماً من تنظيمات إسلامية تفسد ذلك، ولهذا السبب توجه في نهاية عام 1999م لاعتقال جميع أعضاء “حزب التحرير” الذي يعمل بشكل سري منذ الستينيات ضمن قناعات حول عودة الخلافة الإسلامية، وقد توفي الأسد بعد قرابة ستة أشهر فقط من اعتقالات التحريريين، منهياً بذلك أي شكل من أشكال الوجود التنظيمي للإسلام السياسي علي الأراضي السورية.
لقد رافق صعود بشار إلى الواجهة السياسية تمهيداً للتوريث ترتيب واسع للملفات الإقليمية مثل: عودة العلاقات تدريجيا مع العراق منذ 1996م، عودة العلاقات مع الأردن، وتحسين العلاقات مع تركيا، أما لبنان فقد أوكل ملفه كاملاً إلى بشار بعد أن سحبه من يد نائبه عبد الحليم خدام. وبالنسبة للإسلام السياسي، اعتمد الأسد الأب إقليمياً بناء سياسة تحالفات واسعة مع الإسلاميين في دول الجوار، إذ إن هذا التحالف عموماً يلعب دوراً مهماً في تسويق الدبلوماسية الخارجية السورية شعبياً في العالم العربي والإسلامي، كما أنه يضع في يده أوراقاً تعزز موقعه التفاوضي مع الغرب وإسرائيل.
ومع مجيء بشار الأسد للسلطة كانت هناك حركة واسعة للمثقفين ومنظمات حقوق الإنسان ونشطاء المجتمع المدني فيما سمي بربيع دمشق، لكن هذه الفترة كشفت عن مدى تحفظ الإسلاميين على أي مشاركة سياسية علنية بسبب مخزون القمع الموروث منذ أحداث الثمانينيات. لكن في هذه الأثناء كان الإخوان المسلمون في الخارج ينظرون بترقب إلي الحراك السياسي في ربيع دمشق وعزموا على التحرك مع المعارضة الخارجية، فجمعوا معظم التيارات المختلفة في الخارج وبعض نشطاء الداخل على ميثاق الشرف الوطني للعمل السياسي.
لقد أعلن عن وثيقة “ميثاق الشرف الوطني” في أيار 2001 من قبل هذا التنظيم الاسلامي السوري المعارض، وقد أتى نص الوثيقة ليحاول تقديم الإخوان المسلمين السوريين في صورة جديدة، تختلف عمّا ظهروا عليه في تلك الأحداث الدامية، لتقديمها إلى جميع الأطراف السورية، كرسالة للسلطة بانتهاجهم سياسة الاعتدال، وإلى أطراف المعارضة الأخرى من خلال تبني مقولة الديموقراطية والابتعاد عن مقولات ومفردات الخطاب الإخواني السوري في السبعينيات، والذي كان أقرب إلى سيد قطب (ليس فقط عند الشيخ مروان حديد وإنما أيضاً عند العديد من قيادات التنظيم العام مثل الشيخ سعيد حوا) منه إلى اعتدال ووسطية مراقب الإخوان السوريين في الخمسينيات الشيخ مصطفى السباعي، وأيضاً كرسالة للمجتمع السوري الذي كانت تنوعاته الدينية والمذهبية واتجاه مسلميه إلى الانخراط القوي في مظاهر الحياة الحديثة على تناقض مع ذلك الخطاب الإخواني الذي طغى عليه التشدد والتطرف في أحداث الثمانينيات.
قامت لجان إحياء المجتمع المدني في شهر كانون الثاني 2005 بإصدار بيان اعتبرت فيه الإخوان المسلمين جزءاً من النسيج الوطني السوري، وفي أيار 2005 قامت إدارة منتدى الأتاسي بالسماح بقراءة كلمة للإخوان المسلمين ضمن ندوة حول “رؤية القوى السياسية للإصلاح”، وكانت نتيجتها اعتقال مجلس إدارة المنتدى وإغلاقه نهائياً. وكانت النقطة الفاصلة في تلك الفترة هي تشكيل ائتلاف إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي الذي شكل قفزة نوعية في عمل المعارضة السورية، انتقلت معها مطالب المعارضة صراحة من “إصلاح النظام” إلى “تغييره”، كما شكل من جهة ثانية أوسع ائتلاف سياسي بانضمام قوى قومية ويسارية وليبرالية إليه، فضلاً عن انضمام جماعة الإخوان المسلمين إليه.
وفي حزيران 2006 أعلن الإخوان المسلمون تشكيل جبهة الخلاص بالتعاون مع نائب رئيس الجمهورية الأسبق عبد الحليم خدام، رغم كونهم لا يزالون في ائتلاف إعلان دمشق. وفي 7 كانون الثاني 2009 أعلنت جماعة الإخوان المسلمين عن تعليق أنشطتها المعارضة للسلطة السورية إبان الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، وبعد شهر من ذلك أعلن المراقب العام للجماعة السيد علي صدر الدين البيانوني “أننا نعيد تقويم تحالفاتنا بشكل دوري في ضوء المتغيرات والمستجدات” (مقابلة مع قدس برس، 12 شباط 2009).
تعمل جماعة الإخوان المسلمين اليوم بعد انطلاق الثورة السورية في آذار 2011 بشكل حثيث، وساهمت في كل المحطات السياسية للثورة بفاعلية، وانتقلت مؤخراً لتساهم في تمويل الجيش السوري الحر المتمركز في تركيا وداخل الأراضي السورية، وترسل المال والإمدادات إلى سوريا لتحيي بذلك قاعدتها بين صغار المزارعين وأبناء الطبقة المتوسطة من الطائفة السنية في سوريا. وفيما تتعارك القوى السياسية الأخرى فإن جماعة الإخوان المسلمين تعمل بجد من أجل رصيدها في الشارع السوري مستقبلاً، فقد تحقق للإخوان مثلاً السيطرة على مكتب المساعدات في المجلس الوطني السوري والمكتب العسكري، وهما المكتبان الأساسيان فيه.
استطاعت جماعة الإخوان استعادة بعض نفوذها داخل سورية، خاصة في مدن حمص وحماة وإدلب، والتي تعتبر المعاقل الأساسية للثورة على حكم الأسد. رغم ذلك، فإنه ما زال عليهم أن يبذلوا المزيد من الجهد لكسب التأييد في الداخل، فالكثير من رجال الدين والنشطاء والمعارضين لا يريدون التعامل مع الإخوان أو الارتباط بهم، فالعودة للساحة السياسية ليست بالمهمة الهينة بعد ثلاثين عاماً من الغياب السياسي.
أما على المستوى السياسي والأيديولوجي، فقد شكلت وثيقة “عهد وميثاق من جماعة الاخوان المسلمين في سورية” نقلة نوعية في تاريخ هذه الحركة وما يعرف بالتيارات الأصولية الإسلامية. لا بل يمكن القول إن هذه الوثيقة التي صدرت في 25 آذار 2012 قد ألغت بوضوح، على الأقل من الناحية النظرية، الفهم الايديولوجي السائد لمسألة السلطة لدى معظم التيارات الإسلامية في العالمين العربي والاسلامي، أي ذلك الفهم الذي ينطلق من اعتبار السلطة في الاسلام شأناً إلهياً.
لا يقتصر الإسلام السياسي في سورية على جماعة الإخوان المسلمين، وإن كانت هي الأبرز والأكثر تأثيراً في تاريخ سورية، فهناك أحزاب وجماعات وتيارات وجمعيات دينية عديدة، ولكل منها تأثير ما يزيد أو ينقص حسب الظروف العامة.
من الأحزاب الشهيرة حزب التحرير الإسلامي، وهو حزب إسلامي أسسه الشيخ تقي الدين النبهاني في أواخر الخمسينيات كرد فعل على عدم رضاه عن تجربة الإخوان المسلمين، وهو حزب عابر للحدود العربية والاسلامية يدعو لاستعادة الخلافة، ويربط كل إصلاح بوجود الخليفة. وتشير الاعتقالات التي حدثت في سورية في الفترات السابقة إلى أنه لا زال متواجداً في الساحة السورية. ففي خريف عام 1999 شنت السلطات الأمنية السورية حملة اعتقال واسعة على أعضاء حزب التحرير الإسلامي المحظور. فعلى أثر الاجتماع بين حافظ الأسد وبيل كلينتون وزع أعضاء من حزب التحرير منشورات تنتقد سلوك وسياسات الحكومة السورية تجاه الأراضي السورية المحتلة والقضية الفلسطينية والسلام مع الدولة الصهيونية، فبادرت السلطات الأمنية التي تمكنت من دس بعض عملائها في صفوف حزب التحرير إلى شن حملة اعتقال شملت أعضاء الحزب والمتعاطفين واحتجزت بعض الرهائن. استمرت حملات الاعتقال في عامي 2000 و 2001 فاعتقلت السلطة أفواجاً جديدة. أطلق سراح بعض الذين اعتقلوا مع الإفراجات ومراسيم العفو التي أمر بها بشار الأسد، بينما قدم آخرون لمحكمة أمن الدولة وحكم عليهم بالسجن لفترات متفاوتة، وما تزال حملات الاعتقال مستمرة بحق كل من تحوم حوله شبهة الانتماء أو التعاطف مع حزب التحرير.
وهناك أيضاً جمعية القبيسيات، وهي جماعة إحيائية دينية إسلامية دعوية نسوي ، تأسست على يد منيرة القبيسي (من مواليد 1933) في الستينيات في سورية، ثم انتشرت في بلدان أخرى، وهي لا تتدخل في السياسة، بل يقتصر عملها على تنظيم دروس دينية في المنازل ونشر الوعي الديني بين الشابات الصغيرات .وخلال ما يزيد عن أربعة عقود كانت الجماعة تعمل بالسر والعلن، تبعاً للظروف الأمنية والسياسية، وقد كانت محظورة في سورية إلى أن سمح لها بالعمل العلني عام 2006 عندما حصلت على موافقة الحكومة السورية للسماح بعقد الدروس في المساجد، إذ يقدر أتباعها بأكثر من 75 ألف إلى 100 ألف .
وهناك حركات إسلامية معتدلة، كالحركة الخزنوية وجماعة جودت سعيد. أما الخزنوية فهي حركة إسلامية كردية ذات تطلعات سياسية، ترتكز في مدينة القامشلي، وكان يتزعمها الشيخ معشوق الخزنوي، وهي مجموعة تحمل هم تجديد الخطاب الديني وإصلاح المنظومة المعرفية الإسلامية بمختلف جوانبه.
تهدف الحركة الخزنوية إلى الإسهام في إحياء الاجتهاد الإسلامي وفق قاعدة احترام التعددية وحرية الاختيار من الفقه الإسلامي ونبذ التعصب والتكفير من خلال فك الاشتباك بين العقل والنص عن طريق منح النص ظروفه المكانية والزمانية، والتأكيد على الأخوة الإنسانية، والبحث عن المشترك بين الناس في مختلف اتجاهاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية، وخاصة أبناء الوطن الواحد.
كان الشيخ معشوق الخزنوي قريباً من الناس وخطيباً فصيحاً لامس من خلال خطاباته جروح الناس وخاصة المجتمع الكردي، وفي الأول من حزيران 2005 اغتالته أجهزة الأمن السورية، وعلى أثرها تشكل تيار ينادي بفكر الشيخ معشوق الخزنوي، إضافة إلى العمل السياسي من أجل القضية الكردية ، ويترأس هذا التيار حالياً نجله الشيخ مرشد معشوق الخزنوي.
أما جماعة الشيخ جودت سعيد، فهي حركة إسلامية تعتبر العنف أياً كان، حتى لو دفاعاً عن النفس، عملاً غير مشروع، وقد أسسها المفكر الإسلامي جودت سعيد (مواليد 1931) في مطلع الثمانينيات، والذي تأثر بالمفكرين الإسلاميين الكبيرين محمد إقبال ومالك بن نبي ، حيث عمل على نشر نظريته الفلسفية (اللاعنف)، لكنه لم يستطع تكوين جماعة تؤمن بنظريته إلا مطلع التسعينيات، وكان أول ما كتبه في مطلع الستينيات (مذهب ابن آدم، أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي) الذي جاء رداً على جماعة الإخوان المسلمين في ممارسة العنف السياسي، وهو يناقش مبدأ اللاعنف وعلاقته الجذرية بالإسلام، وشرح قصة ابني آدم الواردة في القرآن الكريم واستنبط فكرة اللاعنف منها، ثم كتب فيما بعد مؤلفه “حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
على العموم، فإن الإسلام، كما يظهر التاريخ ومجريات الواقع على الدوام، ليس كتلة صماء متجانسة في أي بلد، فهو يتكون من أطياف وألوان لا حصر لها، بدءاً من التدين العادي الشخصي المعتدل، إلى التدين الجماعي المنظم وغير السياسي، وانتهاء بالحركات الإسلامية السياسية مثل الإخوان المسلمين، وهي الأبرز على الساحة كشهرة وتاريخ وفعل سياسي، وحركات أخرى ذات نهج متطرف وتكفيري يتصادم مع كل معالم الحياة الحديثة في مستوياتها كافة، السياسية والاقتصادية والإنسانية.