صفحات الرأي

عزلة المفكّر العربي اختيار أم اضطرار؟!/ ناتالي الخوري غريب

 

 

لِمَ الانقطاع بين المفكّر والعامّة؟ هل فعلاً يختار المفكّر العزلة لتكون مساحة التفكّر أوسع؟ أم أنّ ذلك تجسيد لاختبار الخيبة؟ أم تراه من كماليّات استكمال الهالة الاستكباريّة التي يحيط بها نفسه كما يُتّهَم؟

ثمّة أسباب عديدة لهذه العزلة، منها ما يكون المفكّر مسؤولًا عنها، ومنها ما هو خارج عنه. تبقى القضيّة في جوهرها محصورة في الصراعيّة القائمة على رغبة التغيير أو الثبات بين ثلاثة أقطاب: المفكّر والسلطة والمجتمع. الرابط في ما بينها هو الإعلام، هذه القطبة المخفيّة – المجلجلة، القادرة على الفصل أو الوصل بين الأقطاب الثلاثة.

المفكّر

غالبًا ما يعاني المفكّر من اصطدام الفكر بالواقع، ويعيش في أحايين كثيرة عبثيّة التوفيق بين المثاليّة والواقعيّة. فالفكر يؤسّس لواقع مثالي يحمل في طيّاته استحالة تجسيده. هنا مكمن مأزق الفكر ومأزوميّة مبادئه، لتكون الخيبة في تراجع المفكّر عن أطروحاته فسحةً يترصّدها بعض المستغلّين ومقتنصي الفرص ليكرّسوها سقطة تبصم تاريخه، وتنتقص من وهج جديده وأهميّة رؤياه، باتّهامه بتغيير اصطفافاته، مُعرِضين عن تفهّم التطوّر الفكري وفق المتغيّرات الثقافيّة ومتقلّبات إنتاجها وتفاعل المفكّر معها. أتعس ما في الأمر أيضا تلك الانتقادات التي تنهال عليه بالمآخذ على أسلوبه. فإذا اعتمد أسلوبًا يرقى المستوى اللفظي به إلى سموّ المعنى، اعتبروه نخبويًّا استعلائيًا يحاول عرض مفاخره اللغويّة ومطامحه إلى الفرادة والفوقيّة. وإذا استخدم أسلوبًا بسيطًا لأفكاره، حسبوه سطحيًّا على هامش الفكر واعتبروا تبسيطه انتقاصًا من قيمة نتاجه.

أضف إلى ذلك، مسألة معيشة المفكّر. غالبًا ما لا يفكّر الناقدون والمنتقدون وجموع الناس والمسؤولون كيف يعتاش المؤّلف، أكان مفكّرًا أم أديبًا، إن لم يكن موظّفًا أو صاحب مؤسّسة، أو قد أمّن حياته وضمانه في شبابه وشيخوخته. المعلوم أنّ الفكر يحتاج إلى متابعة وتخصّص وتكريس. وليس سرًّا أنّ الكتب صارت بضاعة كاسدة في نظر الكثيرين وليست وسيلة كسب رزق وعيش. ليُضطّر المفكّر في أحايين كثيرة إلى أن يكون قلمه مرتهنًا لفئات معيّنة، وإلّا عاش العزلة التامة، من دون نشر.

بذلك، لا يبقى للمفكّر إلا الأصدقاء المقرّبون جدًا، يكونون جنّته التي تشكّل له منفسًا للمناقشة والملاقحة، ونافذة تحمل رياح التحفّز المغني لاستكمال التفكّر الخلّاق. وتاليًا نعود إلى الوقوع في فخّ الاعتزالات الفئويّة المنغلقة على ذاتها، التي تنضوي في إطارات معيّنة.

السلطة

تقوم ذهنيّة التسلّط على إيمانها بقدرة السلطة على قمع المفكّر لعلمها أنّه يحمل إمكانات الفكر الثوري التغييري. فإن لم يرتهن لمواقفها في تسويق ما يناسبها في الثقافة كان خيارُها إقصاءَه وتحطيم كبرياء طموحه وتفشيل مساعيه. فتكون العزلة هنا اضطرارًا. لنا أمثلة كثيرة حيّة من المفكّرين العرب المنفيين الذين لجأوا إلى الغرب. هذا الأمر ينسحب على المفكّرين السياسيين والاجتماعيين، حتى على الفنانين والأدباء. فأهل السلطة هم في أمسّ الحاجة إلى المفكّرين ليرسّخوا ثقافتهم الإيديولوجيّة. يحيطون أنفسهم بالتربويّين ليبدأوا عملهم على مستوى عالٍ من التخطيط المستقبلي للدخول إلى المناهج الدراسيّة تأسيسًا لبثّ منظومات فكريّة تخدم أهدافهم وتشرعن أبديّة بقائهم وسلطانهم. فعلى المفكّر الصوغ، وعلى السلطة الصون من احتماليّة بزوغ فجر نقد آخر. لنا في التاريخ تقليد فاضح للنموذج الصيني و”الكتاب الأحمر” (1966-1976) للرئيس ماو تسي تونغ، في جنون الثورة الثقافيّة الصينيّة، هو “الكتاب الأخضر” في ليبيا. كذلك التشبّه بالنموذج الستاليني في إلغاء استقلاليّة الفكر لربطها بالمصلحة السياسيّة تحت عنوان “جبهة القلم والفرشاة” متلازمة مع “جبهة البندقيّة”. هذا ما انتهجه معظم المفكّرين العرب الذين رفعوا لواء الاشتراكيّة. كذلك لنا أمثلة كثيرة في انتهاج المفكّرين واستماتتهم لتبنّي مقولة “الدم والتراب”، دعامة الفلسفة النازيّة الثقافيّة، مضافًا إليها الدين في عالمنا العربي. مساحاتنا العربيّة تشهد على تسييس الفكر وتطبيعه بطابع ديني – عنصري، بهدف التطهير، بحيث يُمنع التفكّر في خطوات خارج المنظومة الدينيّة المرسومة للسلطة، وإلا كان النفي أو الفتوى بهدر الدم. أمّا محاولة المفكّر تسلم السلطة بهدف الإصلاح والتغيير، كما في النموذج الناصري في مصر، فقد باءت بالفشل بسبب تواطؤ المفكّر والسلطة مع الإيديولوجيا المسيطرة التي كان يحارب من أجل تغييرها (بحسب ما جاء في كتب عبدالله العروي).

على الرغم من شعارات الديموقراطيّة والحريّة، لم تغفل الذهنيّة السلطوية يومًا عن سلطة المفكّر على الشارع. لذلك تعتمد أسلوب الترغيب أو الترهيب، ليكون موقف هذا المفكّر مبرمجًا وفق أجنداتهم، وإلّا اختار العزلة بنوعيها الاضطراريّ أو الاختياريّ.

المجتمع

يشكّل عاملًا مساعدًا في عزلة المفكّر ما يقابله من جمهور لا يقرّ بهوامات العقلانيّة الاستعلائيّة، مطلقين عليها تهمة فوقيّة الأفكار النخبويّة التي لا تخاطب هموم الناس، ليتّسع الشرخ بين المفكّر والمجتمع.

ففي الذهنيّة الجمعيّة في مجتمعاتنا أنّ الفكر للترف، وليس حتميّة نهضويّة، وضرورة للخلاص، وبخاصّة في ظلّ أنظمة اقتصاديّة واجتماعيّة يتحمّل عبء فشلها المواطن الذي يقع على عاتقه تأمين ضمانات يومه وغده، بحيث تكون هيمنة الهمّ المعيشي هي الأولويّة، ما يجعله غير آبه بالقضايا التي تصبح ثانويّة، أو مصنّفة من باب الكماليّات عند من لا همّ له. فالقضايا الوجوديّة الكبرى كالبحث في المصير والعدم والحقيقة، تُعتبر ترفًا فكريًّا أمام الواقع المعيش.

هكذا تكون اللحظة مناسبة للسياسة التي تقتنص الفرصة لاصطياد الخلاف وتجييره لصالحها أو لجهة الأديان والطوائف، في توق إلى عدم فصل الدين عن الدنيا، وهنا فخّ الوقوع مجدّدًا في أدلجة الثقافة. تشكّل الأرض العربية موطنًا خصبًا، والنماذج على ذلك كثيرة. تبقى ميزة لبنان وفرادته في انفتاحه على قبول الفكر الآخر لخصوصيّة تعدّدية الهويّات المتجذّرة فيه. في حين نراها انعكست في الدول العربيّة الأخرى استغلالًا للفهم الخاطئ للقوميات، فتلهَّوا بالتقاتل الطائفيّ، تحت عنوان القوميّة الدينية. واختفت بذلك سلطة المفكّر على المجتمع، وبسبب الشرخ، استُبدلت بأصحاب الغايات وبيع الدنيا بالآخرة.

الإعلام

يساهم الإعلام في شقّه المرئي، بعزلة المفكّر في اتّباع السياسة الإقصائية التي يمارسها، باعتبار أنّ “بضاعة المفكّر” سلعة غير رائجة وتاليًا غير جاذبة للاستثمار الإعلاني، ما يجعله ضيفًا ثقيًلا غير مرغوب فيه أو مرحّب به. الحجّة أنّ العامّة لا يستطيعون فهم المقاصد الخفيّة للمفكّر والنيات الجليّة لالتقاط رؤياه. أمّا في الإعلام المكتوب، بشكل عام، فثمّة ثقافة تقوم على القاعدة الانتقائيّة عند اختيار كتّابها أو نشر رؤيا بعض المفكّرين الذين يروّجون لسياسة اصطفوها، ما يؤدّي إلى الاختناق في سجن الحريّة المشروطة، وتاليًا اختبار الخيبة من إمكان اختبار عيش الحريّة كاملة. تأتي النتيجة، إمّا الاعتزال الحتمي وإمّا الرضوخ. بذلك يكون خيار المفكّر الانقطاع كطريق مؤدٍّ إلى الحريّة وعيشها في كامل إطلاقيّتها.

قد لا نكون قدّمنا جديدًا في المعطيات أعلاه. لكنّ الإضاءة دومًا على النزف الموجع، ربّما تولّد شعورًا عند المعنيين بضرورة إيجاد حلول ووضع خطّة طوارئ لتُقارب المفكّرين، ترسيخًا للقواعد المشتركة بينهم، كخطوة أولى، من أجل فاعليّة الاعتراف بالتعدديّة والقدرة على التغيير والبحث في مستلزمات المواجهات المحتملة من دون الوقوع في فخّ التنازلات أو الاعتزال، مع الاعتراف بالمتغيّرات الثقافيّة لانتزاع صفة تأبيد السلطة القمعيّة وتأليهها بحصرها في “شخص المخلّص” .

كذلك، ضرورة الإكثار من المؤتمرات الفكريّة غير النفعيّة التي تقارب بين المفكّرين والمجتمع، والابتعاد عن الشعارات التي تفوق مطامح التطبيق، انعطافًا نحو رفض الفكر الإلغائي، جنوحًا نحو الاقتناع بالتعدّدية والتمتّع بثمارها وتوليفاتها. من ثمّ يجب أن يعي المعنيّون مسؤوليّة الاهتمام بالمفكّرين وتخصيص موازنات تهتمّ بهم. فلماذا المجانيّة مطلوبة في البضاعة الأكثر قيمة، أي الفكر؟ من حقّ المفكّر عليهم ذلك، ليتفرّغ للهموم الفكريّة التي تتعلّق بمصائر الناس والمجتمعات. فهو من أُعطي صبر تحمّل البحث والاستقصاء، استنتاجًا واستقراء، ووُهب بصيرة تحسّس الروابط بين المتباينات وراء المتآلفات، جاعلًا حياته سيرورة في سبيل البحث عن خلاص كيانيّة المرء، همًّا فرديًا وجمعيًا، استكمالًا لوضعه في دائرة مجتمع أكثر أمنًا، وصولًا إلى يقينيّة التفكّر الأسمى في تموضعه ضمن دائرة الوجود الكبرى، طالما أنّه يضع الخلاص غائيّة تفكّره وكتاباته.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى