تجاذب المكوِّن الأدبي والجاهز السياسي
مازن معروف
تستثير رواية “طبول الحب” (دار رياض الريس – بيروت) جملة من الأسئلة، منها ما يتعلق بمهمة الأدب في الأزمات السياسية والاجتماعية الحادة، منها ما يدور حول مستوى استقلالية هذا الأدب عن الواقع، ومنها ما يلامس الإمكانيات الجمالية والأسلوبية التي يمكن لهذا الأدب العمل بها من داخل اللحظة السياسية نفسها.
لا تكمن أهمية الرواية في انضوائها فقط تحت ثقل اللحظة السياسية المعقدة في سوريا أو كونها “أول رواية تكتب عن الثورة السورية”، بل بمعالجتها الدرامية والديالكتيكية لآراء متباينة حيال ما يقارب الأربعة عقود من حكم نظام البعث. وهو ما يجعل من قراءة الرواية بناء على حدث “الثورة السورية” قراءةً قد تشتمل على إغفال للتراكمات الفكرية والمجتمعية المعقدة والشديدة الاختلاف التي تشكلت منذ أوائل السبعينات ثم طُمست. كما قد توحي بأن المجتمع السوري أو أي مجتمع آخر، يمرّ بفترات سبات فكري ينحدر خلالها نشاطه الفكري إلى الصفر، ثم يشتعل هذا النشاط مرة واحدة وبصورة مفاجئة، مُحَفَّزاً بلحظة تاريخية ما (الثورة مثلاً).
من هنا، تبدو “طبول الحب” بكل ما تنضوي عليه من نقاشات حادة ووجهات نظر مختلفة، كشّافاً يضيء تشبع المجتمع السوري و”شريحة المثقفين” تحديداً بالآراء المتباينة فكرياً، حيال الثورة السورية والنظام، وضرورة رحيله من بقائه والأسباب الموجبة لهذا أو ذاك. ولا شك أن إقدام مها حسن على كتابة رواية تعتمد واقعاً لا نهاية له إلى الآن، واشتغالها بتفلّت من أي نيغاتيف حاسم للصورة السورية، يستوجب شجاعة كبيرة وأدوات لغوية لكي تتقي شرّ السقوط في انفعال مجاني أو استعراضي. وهو ما تنجح فيه حسن من الناحية التقنية، وإن تأطّرت المادة الأدبية في روايتها بالواقع، واستخدمته مرجعاً للتخييل ورفع التراجيديا إلى حدود رمزية قصوى، والتجأت إلى المعطى الصحافي اليومي والمعلوم، القاسي بمادته وطبيعته.
أكاديمية سورية الجنسية، تعيش وتعمل في باريس، تختار العودة إلى بلدها الأم في هذه الظروف بالذات، مدفوعة بقلق مستعر وحب افتراضي في آن. وهناك، وفي ظل ما يجري، تتصادم مع عينات لمثقفين سوريين ينتمون لأجيال مختلفة، وعبرها يعاد تعيين تاريخ سوريا الحديث، ومعاينته، وإبداء الملاحظات بشأن نظامه البعثي. اختارت الروائية أن تحوّل مسار الشخصية الأساس في العمل نحو سوريا، عاملة بعكس المتوقع (الهروب إلى المنفى)، وهو الانتقال “الجغرافي” الذي ينسلخ عن أي رومانسية محتملة داخل سوريا، ليصبح آلية لفتح جيوب المجتمع السوري أولاً، ومن ثم الوقوف في المساحة التي تؤلف حال المرأة السورية والبيئة التي تُلزمها بقرار مصيري، تقيم تحته، كمن يقيم تحت ظل من ظلال المنفى.
الرواية تحيلنا إلى إشكاليتين. الأولى تتعلق بكيفية صنع استمرارية ما داخل لحظة سياسية مخثّرة، والثانية تتعلق بالاتجاهات التي ينبغي تحريك هذه الاستمرارية بينها. قد تبدو الرواية ظاهرياً كجديلة من حبلين، إحداهما أدبية والأخرى سياسية. إلا أنها في المحصلة، تخرج اليوم إلى المكتبة الأدبية كضرورة أخلاقية وسياسية تحمل سمات توثيقية وتقريرية عاجلة، وتبيِّن أن الروائية اضطرت لتعديل المكوِّن الأدبي لصالح إبراز المشهد السياسي السوري بتعقيداته وتبايناته قدر الإمكان. وبالتالي فإن هذين الحبلين، لا يتساويان في المتانة. ولا يمكن القول إذن إنهما متعادلان في قوة الشد، نظراً لانعطاف الرواية باتجاه تظهير النيغاتيف السياسي للآراء المعارضة. ذلك أن الجانب الصنعي من الرواية والابتكاري، يتنازل عن كينونته، عن جزء ما من قيمته الجمالية لصالح تدوين فانتازيا الواقع التي تفوق في شحنتها البصرية الصادمة كل محاولة تخييلية بطبيعة الحال. لتحوّل الرواية إلى موضوعة أخلاقية، تناصر الثورة من جهة وتوجه نقدها لمثقفي المعارضة من جهة أخرى.
ورغم انضمام السياق الاجتماعي والعاطفي للرواية لموضوعات “موقع المرأة” (فتاة تتزوج دون رغبة أهلها، تتصادم مع أبيها، تهاجر ثم تعود بعد سنوات إلى موطنها وبيئتها الاجتماعية) فإن مها حسن، وبتمرّس الروائية، تدسُّ هذه السياقات ضمن منظومة من التضادات. مكان رديف (كي لا نقول منفى اختياريا – باريس) ومكان أصلي (سوريا)، نظام معترَضٌ عليه (تثبِّتُه حسن في الرواية ضمن إطار لا يتزحزح قيد أنملة) ومعارضة تتفاوت آراؤها حيال الأزمة (تحرِّكه الروائية في طيف من النقاشات)، حب “آني لكنه إلكتروني افتراضي” (يقع ضمن مسوِّغات عودتها إلى الوطن) مقابل حب “سابق لكنه واقعي” (يسوّغ روائياً لمسألة مغادرتها الوطن في الماضي)، ثم هناك الصراع بين جيلين – إرادتين، بين التقاليد التي تضرب حتى الليبراليين، وصفّارة التحرّر التي يطلق صوتَها انحيازٌ لعاطفة، لمكوِّنٍ فطري غير إيديولوجي.
غير أن هذا المسح الأفقي الذي تجريه الروائية على الحالة السورية، يعمل بمكانيزمَيْن. الأول يعيِّن المتغيِّرات الجديدة في المجتمع السوري ويشير إلى ديناميكية الأفراد والواجبات التي ولّدها الظرف. أي، موضعة استراتيجية للشخصيات المُصَمَّمَة لخدمة التنوع الصوتي ودياليكتيك الثورة (أكاديمية، ناشط وحقوقي، عالم نفس، سينمائية، جرّاحة، كاتب مسرحي شاب يجيد عدة لغات، محامي، روائيون شباب). وهي شخصيات تنبثق كارتداد عن الظرف السوري وانضواء فيه، وتتوزع لنعاين عبرها الاختلافات في الرأي من الثورة وتفاصيلها المتعلّقة بالتسلح أو الحراك السلمي أو التدخلات الخارجية أو التضاربات بين بعض أطياف المعارضة. وهي آلية تثبيت المتغيرات الشخصية الاجتماعية، وإعادة تأليف مهمة المجتمع على ضوء المستجد أو الطارئ.
أما الألية الثانية، فهي تسلسلية، تتطور وتتفاعل مع الحدث، وتجعل الروائية تتجنب الولوج عميقاً في التراجيديات الشخصية أو في التعقيدات النفسية العميقة التي خلفتها الممارسات القمعية، فيقتصر الأمر إما على مرور طوبوغرافي في الثورة أو على ربط ملامح من بعض القصص بميثولوجيات (أسطورة “تيريس” السورية حبيبة هرقل)، عبر نسج أحلامٍ رمزية تحمل إسقاطات ظرفية سياسية. الأمر الذي يسهم في إعلاء المستوى الجمالي للعمل من خلال تذويب الحدود الفاصلة بين الكابوس والواقع، ومزجهما ضمن تقنية سردية بجملة قصيرة مشذبة، سيطرت فيها حسن على الفكرة الواحدة بمنع تناسلها والحفاظ على انتقالات مرنة بين الشخصيات والقصص.
لكن الرواية تنضوي على جانب فكري يبرز المثقفَ كإشكاليةٍ قائمة بحد ذاتها، تدور حولها نقاشات ويُستطلع دورها عبر الشخصياتِ فنحصِّل آراء متباينة تذكّر بطروحات إدوارد سعيد وجوليان بندا وبرتراند راسل وسيمون دو بوفوار. وهذه الحوارات الديناميكية، والمشغولة بإتقان لافت، تحمل من الأهمية ما يجعل المرء منادياً بنقلها وتفعيلها في بيئة المثقفين السوريين في ظل انقسامات تتطور دائرة ظهرها لما يعانيه مواطنو سوريا.
غير أن أسئلة معاكسة تطرح نفسها انطلاقاً من “طبول الحب”. فإلى أي درجة يمكن للروائي أن يتخفف من ثقل اللحظة التاريخية عند الكتابة عنها، خصوصاً إذا ما اختار الوقوف في قلبها؟ وهل يمكن لرواية تستند إلى أهمية أخلاقية، على علو مستوى نبلها، بأن تتجاوز الظرف الذي ولدت فيه، خصوصاً وأن الأنترنت ينافس مادتها بشراسة في احتوائه على التفاصيل؟ وما هي الخيارات في اللغة الروائية، التي ينبغي اتخاذها عند خيار الدخول في قلب اللحظة السياسية المتحركة، والمتملصة من أي توقُّع مفترض؟
المدن