تجربة الحركة الإسلامية السورية/ محمد سيد رصاص
لم يكن دور جماعة «الاخوان المسلمين»، منذ مؤتمرها التأسيسي كتنظيم سياسي في يبرود في أيلول 1946 وحتى يوم تسلم حزب البعث للسلطة في 8 آذار 1963، رئيسياً في الحياة السياسية السورية. في مرحلة «ما بعد 8 آذار» كان هناك نمو متصاعد لقوة «الاخوان» ظهر عبر محطات «تمرد حماة» (نيسان 1964) و«أحداث المولد النبوي في حماة واللاذقية» (نيسان 1973) إلى أن برزوا بوصفهم قوة المعارضة الكبرى للسلطة السورية في أحداث حزيران 1979 ــ شباط 1982، حيث استقطبوا شرائح اجتماعية من الفئات الوسطى المدينية في حماة وحلب مع استثناء ريفي في ادلب وفي بلداتها الصغيرة.
كانت نقطة ضعف «الاخوان» في دمشق التي وقف تجارها ومعظم أفراد فئاتها الوسطى مع السلطة، وهو ما برز في افشال تجار دمشق لاضراب آذار 1980، ولكن نقطة ضعفهم الكبرى أتت من أنهم تصرفوا كطائفيين حاولوا استقطاب السنة السوريين الذين لم يعتبروا أنفسهم طائفة بالمعنى الذي يطلق عليه هذا المصطلح، حيث كانت التحديدات الاقتصادية ــ الاجتماعية ــ السياسية هي المحدد الرئيسي لولاءات السنة بين تخومات السلطة والمعارضة وليس أي تحديد آخر. وهو ما ظهر حتى في حلب 1979 ــ 1980 التي وقفت معظم فئاتها التجارية والصناعية مع السلطة آنذاك. كانت نقطة ضعفهم الثالثة هي ادخال العنف في الحياة السياسية السورية بين السلطة والمعارضة، وهو غير مسبوق في سوريا ما بعد 17 نيسان 1946، الأمر الذي كان كارثياً أولاً على بيئة «الاخوان» الاجتماعية الحاضنة، ثم على الحياة السورية السياسية، وبالذات على مجمل المعارضة. هذا إذا لم نتحدث عن فشل حامل السلاح في تحقيق أهدافه. كانت نقطة ضعفهم الرابعة هي ارتهانهم للخارج في أحداث 1979 ــ 1982 أولاً لصدام حسين ومعه الملك حسين ثم للجنرال كنعان إفرين في أنقرة بعد انقلاب 12 أيلول 1980، في بلد مثل سوريا فيه حساسية وطنية عالية تجاه أي ارتهان داخلي لخارج الحدود. كذلك كانت نقطة ضعفهم الخامسة هي السدود التي أقاموها بينهم وبين القوى السياسية المعارضة، إلى درجة أنهم لم يفكروا بتحالف سياسي مع الآخرين إلا في الشهر التالي لهزيمتهم العسكرية أمام السلطة في مدينة حماة في شباط 1982.
كان تشكيل «التحالف الوطني لتحرير سورية» في11 آذار 1982، ودخول «الاخوان» في حوار مع السلطة في عامي 1984 و1987، تعبيراً عن براغماتية يلجأ لها الاسلاميون الإخوانيون في فترة الهزيمة والاستضعاف. وهي براغماتية تغيب عندهم في فترة الصعود والقوة التي يمرون بها. قاد الاجراء الأول إلى انشقاق «تنظيم الطليعة المقاتلة» عن «الإخوان»، بعد أن توحدت أجنحة «الإخوان» الثلاثة في مؤتمر في نهاية عام 1980: «التنظيم العام» و«الطليعة» وتنظيم عصام العطار (الطلائع الاسلامية)، فيما قادت المفاوضات مع السلطة إلى انشقاق 1986 بين تنظيم بغداد (عدنان سعد الدين) والرياض (عبد الفتاح أبوغدة) كان فيها الأخير أكثر اعتدالاً تجاه السلطة والقوى السياسية الأخرى، قبل أن يعودا ويتوحدا عام 1996 مع انتخاب علي البيانوني مراقباً عاماً، في ظل غروب شمس صدام حسين. تصاعدت هذه البراغماتية الاخوانية عبر وثيقة «ميثاق الشرف» في أيار 2001 و«المشروع الحضاري الاسلامي لسوريا المستقبل» في كانون أول 2004 لتطاول حدوداً فكرية لم يطلها التنظيم من قبل، كما أنهم أخذوا تجاه العهد الجديد بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد في 10 حزيران 2000 موقفاً معتدلاً كان أقل تصلباً من حزبي المعارضة: «حزب الاتحاد الاشتراكي» و«الحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي»، الموجودان في الداخل، فيما كان «الإخوان» تنظيماً خارجياً منذ آذار 1982، وربما هذا كان على الأرجح السبب في اعتداله من خلال مراهنته على تسوية مع السلطة تتيح له العودة إلى الداخل، وهو ما كان محور مفاوضات قادها وسطاء عديدون كان آخرهم رجب طيب أردوغان في فترة 2009 ــ 2011. كان «الاخوان المسلمون» أول من رفع لواء التشدد تجاه السلطة السورية لما لمسوا الضعف فيها في مرحلة ما بعد الأزمة التي قادت إلى انسحاب القوات السورية من لبنان في ربيع عام 2005، وهو ما كان عبر بيان «مجلس شورى جماعة الاخوان المسلمين» في 3 نيسان 2005، ثم كان علي البيانوني أول من بادر منذ أيار 2005، ومن خلال لقاء جمعه في المغرب مع أحد المعارضين، إلى بذر جنين تحالف «اعلان دمشق» الذي ولد يوم 16 تشرين أول 2005 في ظل وضع كان الكثير من المعارضين يراهنون فيه، ولو عبر سيناريو آخر أن تقود الأزمة الناشبة بين واشنطن ودمشق إلى تكرار ما جرى للسلطة العراقية قبل سنتين ونصف السنة. هنا، كان «الاخوان المسلمون» أول من رمى الجنين الذي ولد ميتاً عندما أداروا ظهرهم لـ«اعلان دمشق» واتجهوا للتحالف مع نائب الرئيس المنشق عبدالحليم خدام عام 2006،
نقطة ضعف «الإخوان
المسلمين» الكبرى أتت من أنهم تصرّفوا كطائفيين
ثم لما كانت الحصيلة صفراً تركوه وأعلنوا تجميد أنشطتهم المعارضة يوم 7 كانون ثاني 2009، ولكن كانت الحصيلة صفراً أيضاً لما فشلت وساطات أردوغان مع السلطة من أجل مصالحتها مع الاسلاميين الإخوانيين.
في مرحلة ما بعد نشوب الأزمة السورية بدءاً من درعا 18 آذار 2011 دخلت «الجماعة» في مرحلة قوة من خلال بوادر التحالف الأميركي الذي جرى نسجه مع قيادة «الإخوان» في القاهرة وجرت ترجمته في تونس والرباط وصنعاء وطرابلس الغرب، وقد ظهر تصلب «الإخوان» في أثناء محادثات الدوحة في الأسبوع الأول من أيلول 2011 مع «اعلان دمشق» و«هيئة التنسيق» لتشكيل «الائتلاف الوطني» لما أفشلوا المحادثات من خلال رفضهم لمطلبي الهيئة في رفض العنف ورفض التدخل العسكري الخارجي، ثم اتجهوا مع «اعلان دمشق» في الشهر التالي ومن اسطنبول لتشكيل «المجلس الوطني» على أساس مراهنات على تكرار سوري للسيناريو الليبي لما قام «الناتو» بالإطاحة بالقذافي، وكان العنف المحلي ظهيره. مارس «الإخوان» دور الحزب القائد في مجلس اسطنبول، وهم الذين أفشلوا اتفاق 30 كانون أول2011 بين «الهيئة» و«المجلس»، وهم الذين رفضوا في مؤتمر القاهرة الذي جمع المعارضين السوريين يومي 2-3 تموز 2012 أن يكون للمعارضة السورية «لجنة متابعة» للتنسيق والقيادة رغم تصويت غالبية المؤتمر على ذلك وفي جلسة رأسها علي البيانوني. وهم الذين رفضوا شعار «الدين لله والوطن للجميع» أن يكون في وثائق المؤتمر، وهم أيضاً الذين رفضوا، مع «اعلان دمشق»، أن يتضمن البيان الختامي للمؤتمر تأييداً لبيان جنيف الذي صدر في 30 حزيران 2012. في مجلس اسطنبول بانت اعتدالية «الإخوان» وانفتاحهم الفكري والسياسي على الآخرين في فترة 2001 – 2009 بأنها ظرفية وتكتيكية وأنها ليست تحولاً حقيقياً.
كما بان أن قوتهم تعتمد لا على قوة داخلية مجتمعية سورية وإنما على «أسانسور» خارجي ممتد بين واشنطن وأنقرة والدوحة. لذلك عندما انفك التحالف الأميركي – الاخواني في ربيع وصيف 2013 فقد في الوقت نفسه «الاخوان» قيادتهم لـ«الائتلاف الوطني السوري» الذي ورث مجلس اسطنبول في خريف 2012، مع التوسعة التي جرت به في أواخر أيار 2013.
عاد «الإخوان» في سوريا منذ صيف 2013 إلى وضعية التائه والفاقد للتوازن مثلما الوضعية التي كانو فيها بين آذار 1982 وآذار 2011، وقد بدأوا منذ ذلك الوقت بالعودة إلى تجريب الاعتدال من خلال تشكيل «حزب وعد»، ثم أتوا في تشرين ثاني 2014 برئيس ذلك الحزب الذي كان مصمماً ليكون واجهة اعتدالية للجماعة، لكي يصبح مراقباً عاماً لجماعة الاخوان المسلمين في سوريا وبعلي البيانوني رئيساً لمجلس شورى الجماعة، مع الإطاحة بالثلاثي الحموي: رياض الشقفة، وفاروق طيفور، وحاتم الطبشي الذي تولى قيادة الجماعة في الأزمة السورية.
وعملياً، وفي أزمة 2011 ـــ 2014 السورية ظهرت «الجماعة» تنظيماً خارجياً من دون جذور داخلية. وعندما صعدت للأعلى كان هذا بـ«أسانسور» أميركي ــ تركي ــ قطري، وعندما فقدت قوتها فقد كان هذا بسبب انزالها بأسانسور أميركي من الطابق الأعلى إلى الأسفل، كما بان بأن «السلفية الجهادية» كانت أقوى كجذور اجتماعية وكقوة حركية في الداخل السوري من الحركة الإخوانية خلال مرحلة ما بعد يوم 18 آذار 2011، بكل ما توحيه هذه «السلفية الجهادية» من دخول تيار الاسلام السياسي في مرحلة الجزر والغروب، تماماً كما كان التطرف اليساري منذ الستينيات علامة على دخول الحركة الشيوعية العالمية مرحلة الجزر وعلى قرب سقوط الكرملين.
* كاتب سوري
الأخبار