تجنيد اللغة/ سناء الجاك
الموت زفاف، وهو نعمة تستحق التبريكات والتهنئة. هذا الوصف الطارئ على مضمون لغتنا ومفاهيمها المنطقية، الذي كان يستخدم لدى سقوط شهداء في مواجهات مع العدو الاسرائيلي، يؤكد ان هناك مشكلة ما في قبول هذا الموت بالشكل الذي يجعله جزءاً من يومياتنا؛ والا لما كانت الحاجة ملحاحة الى كل هذه الزخرفة اللغوية والتغييرات الوظيفية لمعان بعينها، فقط لتجميله وجعله مناسبة فرح وفخر.
الموت كثير هذه الأيام؛ أكثر من قدرة الأحساس الذي يتبلد يوماً بعد يوم، بحيث يستحيل عليه ان يتفاعل مع هذا الوافد المتخطي سنن الحياة من مرض وشيخوخة وحوادث وكوارث.
الاحساس هنا يعاند اللغة المستخدمة في تحويل شبان، مثل مراسل تلفزيون “المنار” حمزة الحاج حسن، والمصور حليم علوه، والتقني محمد منتش، الى وسيلة لغوية تبرر غرق “حزب الله” في القتال لحماية نظام الأسد واستمراريته، وذلك تأكيد ضرورة الجهاد للقضاء على “التكفيريين”.
الإحساس يدفع البشر الطبيعيين الى الأسى والأسف. يدفع الأمهات الى مزيد من الخوف على اولادهن. لكن اللغة التي تم تجنيدها تريد للأمهات الخائفات ان يعتبرن مثل هذا الموت مجداً ومعبراً الى الجنة او فراقاً الى حين. وعلينا نحن ان نتقبل اللعب باللغة لتغيير المفهوم الحقيقي لقصف عمر الشباب.
أذكر ان إحدى الامهات بعد حرب تموز 2006، جلست تحدثني عن حورية بعينها انتظرت وحيدها لتزف نفسها اليه. كانت قادرة على وصف لون بشرتها الأبيض الملون بزهور الجنة، وحفيف ثوبها الفضفاض وابتسامتها وحنانها.
الحورية الموعودة كانت أماً بديلة في لغة الام الثكلى. كانت مفتاح الصبر على اللوعة والفراق اذا جاز التعبير.
الا ان حرب الثلاثين يوماً لم تكن مقبرة مفتوحة، كما هي الحال في تورط “حزب الله” في الجبهة السورية المرشحة للاستمرار سنوات، والتي حصدت منذ أيام الى المقاتلين والابرياء من الشعب السوري، اعلاميين ملتزمين يعتبرون ان دورهم جهادي أكثر منه مهنياً.
مقابل هذا الحصاد الدموي، يستوقفنا غضب مستشارة بشار الأسد بثينة شعبان لأن هناك من شوّه صورة نظامها بادعائه عبر وسائل اعلام صديقة احراز انتصارات ضمنت بقاء هذا النظام، لتؤكد ان “سوريا صمدت بشعبها الذي قدم إلى الآن أكثر من ربع مليون شهيد”.
كذلك تستوقفنا الاجراءات التي اعلنها النظام الأسدي في شأن إلزام الاعلام الصديق ضرورة الحصول على تصاريح لدى قيامه بأي تغطية اعلامية تمجد هذا النظام وتظهر تفوقه المشين على شعبه.
لكن ما يستوقفنا لا يستوقف “حزب الله” ولا اياً من قيادييه المغتبطين بتغيير المعادلات، والمغتبطين أكثر بالفرصة الذهبية لتصريف فائض القوة، على ان يصار الى استثمار النتائج في لبنان.
في هذا الإطار يقول احد مسؤولي القتال في الجبهات السورية لصحيفة عربية، ان الحزب “اظهر قدرته في سوريا على مساحة توازي مساحة لبنان كمسرح للعمليات الحالية والحبل على الجرار، واصبحت كل المعابر الرئيسية وغير القانونية تحت السيطرة الكاملة وستبقى كذلك لسنوات عدة والى حين انتهاء الحرب في سوريا والاطمئنان لمن سيتولى ادارة المنطقة الحدودية لكي لا تقع في الخطأ عينه الذي سمح للارهابيين بالسيطرة على الحدود”.
في تحقيق اجرته وكالة عالمية، يؤكد قائد مجموعة، ان “بعض عناصر الجيش السوري غير منضبطين، وأحيانا غير كفوئين، وقد وجهوا أكثر من مرة نيرانهم عن طريق الخطأ إلى مقاتلي الحزب”، مضيفا “ليست لديهم خبرة في حرب الشوارع”.
ليقول آخر: “مع اسرائيل كنا في مواجهة عدو واحد. أما في سوريا فلا نعرف من نواجه، ساعة “داعش”، وساعة “جبهة النصرة” وساعة الجيش الحر”.
في ضوء مثل هذه اللغة المتناقضة والصدامية يبن حليفين يقاتلان جنباً الى جنب، لا ضير في الاستنتاج ان أرواح اعلاميي “المنار” ربما أزهقتها “نيران صديقة”، لا خبرة لديها في القتال، او هي أوامر عليا لمنع تصوير لم يحصل على إذن رسمي، لكن لأن الموت وخصوصاً موت الاعلاميين لا يمكن التستر عليه، جاء اتهام التكفيريين مريحاً ومفيداً للجميع.
الامر لم يكن يتطلب الا تغليب الهدف على الحقيقة، ليصير ما يرددون واقعاً، ولا لزوم للدقة او الموضوعية او الشفافية للتأكد من المعلومة. يكفي تجنيد اللغة وتنميق الكلمات ووضعها في غير مكانها المنطقي. ومن سمع النعي الرسمي للشباب الذين زهقت ارواحهم، يخيّل اليه ان جملة “لا زالت الافراح في دياركم زاهرة”… هي التالية!
النهار