تحالف التطرّف والاستبداد ضد الثورة في سورية/ أحمد أبا زيد
(1)
منذ بدأت الثورة السورية في درعا، مارس/ آذار 2011، كانت التحولات العنوان الأبرز والمستمر في سورية والمشهدين، العربي والدولي، والتيارات الأيديولوجية والسياسية والتنظيمات المسلحة المختلفة، الفاعلة أو المتأثرة بالمشهد السوري. وعلى الرغم من الصلابة الأيديولوجية للتنظيمات الجهادية السلفية، فإنها لم تكن في معزل عن هذه التحولات، بقدر ما كانت أوضح مظاهرها والمؤثرين فيها، وطغت عناوين حرب الإرهاب تدريجياً على مطالب التغيير السياسي والديمقراطي الشعبية، كما طغت صدامات التنظيمات الجهادية ضد الجيش السوري الحر وقوى الثورة المدنية على المشهد الميداني، بديلاً عن صراع الثورة والنظام.
تعامل نظام الأسد مع الانتفاضة السلمية بالعنف الأعمى منذ البداية، إلا أن الزخم الشعبي للثورة الشعبية، وامتدادها على مساحات جغرافية ومجتمعات محلية واسعة ومتنوعة، دفعه إلى بناء استراتيجية أزمة طويلة الأمد، لتقليل الخسارات ومحاولة تفكيك هذه الثورة، وتفريغها من شرعيتها الشعبية والقيمية، ومطلبها السياسي نحو نموذج الفوضى وحرب الإرهاب.
أفرج النظام منذ مايو/ أيار 2011 عن مئات (وربما آلاف) من المعتقلين الجهاديين في سجن صيدنايا الشهير، والذين انتقلوا فيما بعد إلى المناطق التي خرجت عن سيطرته لصالح كتائب الجيش السوري الحر المحلية، وأنشأوا بدايات الشبكات الجهادية والتشكيلات السلفية منذ نهاية 2011، في مقابل الاعتقال المستمر للآلاف من شباب الانتفاضة السلمية، الجامعيين والمثقفين الذين قُتلوا تباعاً تحت التعذيب.
تنامت هذه الشبكات تدريجياً ضمن الطيف الجهادي الواسع، ما بين الجهادية المحلية “المعتدلة” والجهاديات السلفية والعراقية والمعولمة، مع توافد متطوعين عرب إلى هذه التنظيمات، عبر الحدود الشرقية والشمالية. واقتصرت جبهة النصرة، في بدايتها، على ضربات أمنية ونوعية ضد النظام، وعلى أدبيات الخطاب السلفي الجهادي التعبوي، من دون الاحتكاك بالمجتمعات المحلية والفصائل المسلحة، ما دفع كثيرين إلى الدفاع عن جبهة النصرة، حين أدرجتها الولايات المتحدة على لائحة الإرهاب نهاية 2012. وشهدت هذه الفترة صعود تشكيلات وتحالفات إسلامية محلية، بالتأثر والتوازي مع التنظيمات الجهادية المعولمة، وكان أبرزها حركة أحرار الشام الإسلامية (نشأت الكتائب نهاية 2011 وتحولت مع اندماجاتٍ إلى حركة آذار 2013)، والتي مثلت طويلاً الموقع الوسط والقلق بين الهوية الثورية والجهادية، وتعتبر الحالة الدراسية الأمثل لتحولات هذا الصراع.
اجتذبت هذه التنظيمات الجهادية والإسلامية شبابا سوريين عاديين غير مؤدلجين سابقاً، بسبب خطابها العاطفي والصلب، مع تنامي حدّة القمع والحساسيات الطائفية، وتوافد المليشيات الشيعية إلى سورية، ولكن تأثيرها الأخطر كان على الفصائل المحلية التي تأثرت بهذا الخطاب،
“طغت عناوين حرب الإرهاب تدريجياً على مطالب التغيير السياسي والديمقراطي الشعبية” واتهاماته المتصاعدة تجاه قوى الثورة السورية، المدنية والمسلحة، ومطالبها المتعلقة بالحرية والديمقراطية والدولة الوطنية، وهو ما ظهر جلياً خلال عام 2013 الذي شهد ظاهرة هيمنة الخطاب المتشدّد على الفضاء العام في الثورة السورية، وتحول الفصائل السورية إلى موقع ردّ الفعل، والدفاع ضد المزايدات والاتهامات الجهادية التي أثرت على عناصر هذه الفصائل أنفسهم، فتخلى عديد منها عن رفع علم الثورة السورية، لما يمثله من رمزية وطنية (مقابل الدعاية العالمية)، وعن مطالب الدولة المدنية والحرية ووحدة السوريين إلى خطاب تطبيق الشريعة والساحة الشامية والأدبيات الجهادية. وتم تقويض المرجعيات المؤسسية والرمزية للثورة السورية، بدءاً من علم الثورة إلى المؤسسات السياسية وهيئة الأركان، بدعوى علمانيتها والبحث عن بدائل إسلامية. وكان هذا الانزياح نحو الخطاب المتشدّد استجابة للضغط الجهادي، ومحاولة من بعضهم للتحصين ضد انتقال شبابهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو جبهة النصرة، وأبرز أمثلة ذلك “الجبهة الإسلامية” (نوفمبر/ تشرين الثاني 2013) كتحالف بين سبعة فصائل كبيرة، وميثاقها “مشروع أمة” الذي جاء ردّ فعل واستجابة لاتهامات “داعش” و”القاعدة”، وليس بعيداً عن خطابهما.
بعد انفصال جبهة النصرة وتنظيم داعش (9/4/2013)، شن الأخير هجمات على الجيش السوري الحر وحركة أحرار الشام، واعتقل نشطاء الثورة الشباب من المناطق التي وجد فيها، وأعدم عشرات منهم بشكل جماعي لاحقاً. واستطاع، بسبب وجوده داخل المناطق المحرّرة والهشاشة التنظيمية والأيديولوجية لخصومه، أن يتوغل ويبتلع أكثر، إلى حين إعلان الجيش السوري الحر في حلب وإدلب الحرب عليه، وطرده خلال أيام إلى ريف حلب الشرقي والمنطقة الشرقية من سورية بداية 2014، ليسيطر التنظيم منفردا على مناطق واسعة شرقاً وشمالاً، كانت بيد الجيش السوري الحر سابقاً.
(2)
بعد الحرب الموسعة والتمايز الجغرافي بين مناطق الثوار ومناطق “داعش”، أصبحت جبهة النصرة ممثل السلفية الجهادية وتنظيم القاعدة في المناطق المحرّرة. وعلى الرغم من انتقال عناصر متشددة وأجنبية كثيرة إلى تنظيم داعش، إلا أن الجبهة بدأت وقتها فعلياً مشروعها للسيطرة والصراع المباشر مع القوى الثورية المحلية بشكل أكثر مرونةً وذكاء من تنظيم داعش، بالتوازي مع الصراع الدموي والاستنزاف الطويل لهذه القوى ضد التنظيم.
في نهاية يوليو/ تموز 2014، ظهر تسجيل صوتي لزعيم جبهة النصرة، أبو محمد الجولاني، يعلن فيه إقامة إمارة إسلامية تطبق الشريعة وتحارب المفسدين، وبدأت بذلك حملة الإمارة ضد فصائل الجيش الحر، والتي بدأت بجبهة ثوار سورية، وتتوجت، بعد ثلاثة أعوام، بالهجوم على حركة أحرار الشام الإسلامية وانهيارها أيضاً، بعد قرابة 15 فصيلاً.
شهدت إدلب عدة مراحل من التحولات في المشهد الفصائلي، وفي الصراع ما بين جبهة النصرة وحلفائها من الجهاديين من جهة، وما بين تشكيلات الجيش السوري الحر، وإلى جانبها أحياناً حركة أحرار الشام الإسلامية، بدأت بحملة (يوليو/ تموز 2014 – مارس/ آذار
“شهد 2013 ظاهرة هيمنة الخطاب المتشدّد على الفضاء العام في الثورة، وتحول الفصائل السورية إلى موقع ردّ الفعل” 2015) كسلسلة معارك ضد فصائل من الجيش الحر، بدأت بجبهة ثوار سورية، وانتهت بحركة حزم، وفرضت سيطرتها على إثرها قوة رئيسة ضاربة في ريفي إدلب، الشمالي والجنوبي، وقامت بحملة مشابهة في مارس/ آذار 2016 ضد الفرقة 13 في معرّة النعمان ثم ضد جيش التحرير (ينتمي قواعده إلى منطقة سهل الغاب في ريف حماة)، لكنها لم تنجح في استئصالهما، وشهدت معارضة شعبية واسعة وتنامي المقاومة. وكانت الحملة الثالثة والأوسع على إثر عقد مؤتمر أستانة في يناير/ كانون الثاني2017، ضد مجموعة من الفصائل التي حضرت المؤتمر (الجبهة الشامية، تجمع فاستقم، جيش المجاهدين، جيش الإسلام، صقور الشام)، والتي انتهت بإعلان غالبيتها الانضمام إلى حركة أحرار الشام الإسلامية. أما الحملة الرابعة فكانت منتصف يوليو/ تموز 2017 ضد حركة أحرار الشام الإسلامية، وانتهت بالانهيار السريع للحركة، وسيطرة الجولاني على معبر باب الهوى الحدودي، وفرض الهيمنة على إدلب.
كان هجوم جبهة النصرة على الفرقة 13 في معرّة النعمان، مارس/ آذار 2016، تحولاً مهماً في الصراع الثوري الجهادي، حيث ظهرت المقاومة المدنية ضد جبهة النصرة وأثبتت فعاليتها، على الرغم من فشل الفصائل في التصدّي عسكرياً، وأصبحت معرة النعمان، كالأتارب قبلها، أيقونة ثورية في مواجهة المشروع الجهادي، وألهمت هذه التجربة المناطق التي اقتحمتها جبهة النصرة لاحقاً، مثل سراقب وحزانو، ليقاوم السوريون، بمظاهراتهم ضد التطرّف، كما فعلوا من قبل ضد الاستبداد.
وعلى الرغم من تحولات جبهة النصرة الكثيرة في المظهر والخطاب، إلا أنها حافظت على النهج العدواني نفسه تجاه الخصوم والمنافسين على النفوذ، خصوصا مع قدرتها على السيطرة والتفكيك المستمر، ففي 28/7/2016، أعلن الجولاني فك ارتباطه بتنظيم القاعدة، وبدء العمل باسم جبهة فتح الشام، في محاولة للتقرب من المجتمع والفصائل المحلية والاندماج بها، منعاً لتصنيفه إرهابيا، وسعياً إلى الحصول على شرعية سياسية، وهي المحاولة التي لم تنجح، فشنّ حملة جديدة ضد الفصائل وقت مؤتمر أستانة بداية 2017، تتوجت بإعلان “هيئة تحرير الشام”، بالاندماج مع حركة الزنكي وفصائل أصغر. وبدأ استعماله مصطلحات القاموس الثوري المحلي التي كانت محرّمة في الأدبيات الجهادية، وليستكمل خطته بالسيطرة وفرض سلطة أمر واقع لنيل الاعتراف، وهي المحاولة التي لم تنجح بكسب شرعيةٍ ثوريةٍ محليةٍ، ولا سياسية دولية، ولا نجحت بدمج القوى الموجودة ضمن الهيئة، لكنها انتهت أيضاً بالهجوم الكبير على “أحرار الشام” وانهيارها. وتحول الجولاني، بعد ثلاث سنوات من حملة الإمارة، إلى زعيم القوة المهيمنة على إدلب، بعد دحر خصومه في يوليو/ تموز 2017، ما عنى مزيدا من تفكيك قوى الثورة السورية، وتهجير نشطائها ومقاتليها، وهيمنة اللون الأسود على إدلب، وسحب ورقة إدلب من أيدي الثورة وحلفائها، لتصبح ورقة ضغط بيد النظام وروسيا.
(3)
ساهمت في تضخم النموذج الجهادي والمؤدلج على حساب الثورة الشعبية، ومطالب التغيير
“كان هجوم جبهة النصرة على الفرقة 13 في معرّة النعمان، مارس/ آذار 2016، تحولاً مهماً في الصراع الثوري الجهادي” السياسي، عوامل موضوعية، تتمثل بدعم نظام الأسد هذا النموذج، وبتنامي حرب الهويات والطوائف، مع توغل المشروع الإيراني في العراق وسورية، والحاجة إلى السرديات الصلبة، والتوحش القمعي والانتقامي في مذابح النظام وحلفائه، وتراجع الموجة الثورية العربية عامة، بعد انكسارها في مصر، وغياب الإرادة الدولية الحقيقية بدعم التغيير الديمقراطي في المنطقة (…إلخ)، ولكن هذا التوسع الجهادي امتلك عوامل قوة أيضاً من ضعف منافسيه الثوريين المحليين.
كانت الهشاشة التنظيمية والثغرة الفكرية والصراعات البينية وتقويض المرجعيات عوامل ضعف مشروع الثورة السورية ونماذجها التطبيقية، فصائل أو سياسيين أو حتى مثقفين، ولم تستطع “النخب” المختلفة أن تجاري الانفجار الشعبي الكبير، ولا أن تدافع أو تؤسس بنفسها لمشروع التغيير على الأرض، فظهرت الانقسامات وتسارعت في جسد الثورة السورية، ما بين السياسي والعسكري والإسلامي والعلماني والداخل والخارج.. إلخ، وظهرت هذه الهشاشة أكثر مع الوقت، ورحيل النخب وغياب الثوريين الأوائل، وتناقص أعمار المقاتلين في مقابل الصلابة الأيديولوجية والتنظيمية للجهاديين.
وتكرّست ردة الفعل الانهزامية لدى الفصائل المحلية مقابل الجهاديين، خصوصا خلال 2013 و2014، والتي ساعد عليها الموقع المتردّد للسلفية المحلية، مثل حركة أحرار الشام الإسلامية، وبدرجة أقل جيش الإسلام، والتي منحت الشرعية لاتهامات الجهاديين نحو الحركة الثورية الوطنية، ومنعت التوافق على المرجعيات المؤسسية والرمزية للمشروع الثوري. وشكلت هذه الحركات جسر العبور لتنظيم القاعدة وفكره نحو الثورة السورية وشبابها لينتشر المرض من الداخل. وكان هذا التردّد الطويل والهوية القلقة من الأسباب المهمة في تغول جبهة النصرة وقدرتها على تحييد قواعد “أحرار الشام” أنفسهم، حتى انهيار الحركة في يوليو/ تموز 2017.
وساعد تفرّق تشكيلات الجيش السوري الحر، وتحوله إلى مظلة واسعة من دون هيكلية وأيديولوجية صلبة، وظهور التجاوزات، على هشاشة هذه الكيانات الفصائلية وضعف انتماء القواعد إليها، والدفاع عنها لدى التهديد. كما تكرّس الفصل ما بين المؤسسات السياسية والنخب الثقافية من جهة وبين الفصائل المسلحة من جهة أخرى، لكن الأخطر كان تكريسه بين هذه المؤسسات والداخل السوري، نتيجة التخوف من تهديد الجهاديين، أو الفصائل المحلية المتأثرة بهم. وبدلاً من الانخراط في التحدّي والبناء على الحاضنة الشعبية المعارضة للجهاديين، والأقرب إلى النفس الوطني والمعتدل، حاولت شراء الولاءات، أو الاستثمار السياسي الشكلي، بينما تُركت قواعد الفصائل للخطاب والنموذج الجهادي الفاعل على الأرض.
مثلت الثورة السورية، منذ البداية، انتفاضة المجتمعات المحلية بوجه السلطة، وبقيت الحواضن الاجتماعية الأولى للثورة الشعبية هي الحواضن المعارضة للجهاديين في الآن نفسه، وهي المتبنية النموذج الأخضر والوطني الذي تعرّض لحربٍ مشتركة من نظام الأسد والجهاديين. وفي السيطرة الأخيرة لهيئة تحرير الشام على إدلب، على الرغم من هزيمة أكبر الفصائل المحلية التي كان يعوّل عليها في التصدّي لمشروع الجولاني، والمقصود أحرار الشام، إلا أن نماذج المقاومة المدنية والإصرار على رفع أعلام الاستقلال في مناطق ريف إدلب كانت ملهمة ومتفوقة كعادتها على مؤسسات الثورة وفصائلها ونخبها، إن هزيمة الفصائل أمام هيئة تحرير الشام، ومن قبلها جبهة فتح الشام وجبهة النصرة، لا تعكس هزيمة المجتمعات المحلية، ولا تحول المقاتلين المحليين نحو التطرّف، بقدر ما يعكس المشكلات البنيوية المتراكمة لمؤسسات الثورة وفصائلها.
ولم يقتصر تأثير التنظيمات الجهادية على تفكيك قوى الثورة السورية المدنية والمسلحة وإضعافها، وإنما أثر أيضاً على التأييد الشعبي والتضامن العربي والدولي معها، كما ساعد على دعاية السلطوية العربية بأن بديلها هو الفوضى أو الإرهاب، وساعد على ذلك تأخر المفاصلة ما بين قوى الثورة السورية والتنظيمات الجهادية وخطابها، وضعف تمسّك نسبة منهم بمشروع الثورة الشعبية، والإطار الوطني والديمقراطي للتغيير، أمام الدعاية المضادة للجهاديين. وكان هذا مرتبطا بما يمكن دعوته أزمة النخب في الحراك الثوري السوري، وهي الأزمة التي يتحمّل مسؤوليتها الطرفان بشكل مشترك، وأعني قوى الحركة الثورية والنخب.
كان نموذج إدلب، ونموذج الرقة ودير الزور قبله، المفضل لدى نظام الأسد، لإثبات نظرية حرب الإرهاب في سورية مكان الثورة الشعبية ومطالب التغيير السياسي، ومنذ اتفاقية حمص القديمة (مايو/ أيار 2014) شهدت المناطق المحاصرة تباعاً اتفاقيات تهجير نحو إدلب التي تحوّلت إلى ملجأ المهجّرين، ومنطقة ذات أمان نسبي أفضل من البقية، خصوصا بسبب اتفاقيات كفريا والفوعة التي حمت مدينة إدلب والمنطقة المحيطة بها من القصف الجوي للنظام.
بينما كانت الحرب الأعنف التي شنّها نظام الأسد والمليشيات الشيعية والطيران الروسي لاحقاً ضد مناطق سيطرة الجيش السوري الحر والنماذج الثورية المدنية، حيث يقلّ حضور الجهاديين، مثل مدينة حلب ودرعا البلد وداريا والغوطة الشرقية، وإن كان شعار التدخل الروسي نهاية سبتمبر/ أيلول 2015 هو حرب الإرهاب، فقد كان لافتا أن روسيا بدأت بقصف تجمعات الجيش السوري الحر ومقرّاته، واستمرت بالاستهداف المركّز على مناطق وفصائل “خضراء”.
كما شهدت مناطق سيطرة داعش الشاسعة، والجبهات الممتدة بين التنظيم والنظام من حلب
“كانت الهشاشة التنظيمية والثغرة الفكرية والصراعات البينية وتقويض المرجعيات عوامل ضعف مشروع الثورة السورية ونماذجها التطبيقية” وعبر البادية إلى السويداء، هدوءاً لافتاً على مدى سنوات، فيما عدا بؤر معارك متقطعة، قبل التوجه الإيراني أخيرا نحو المنطقة الشرقية، بينما انتفض النظام للهجوم على هذه المناطق نفسها، وقصفها فور سيطرة الجيش الحر عليها، وتحريرها من تنظيم داعش، كما يحصل في البادية السورية منذ بداية العام.
استكمل النظام في معركته الميدانية والجغرافية ذات الاستراتيجية التي استعملها بداية الثورة السلمية، باعتقال الشباب الثوريين والمثقفين، والإفراج عن الجهاديين السلفيين، وتسهيل عمل الشبكات الجهادية بين العراق وسورية، حيث حارب ودمّر بوحشية النماذج الثورية المدنية، ومناطق سيطرة الجيش السوري الحر، بينما ترك للجهاديين مهمة ابتلاع قوى الثورة من الداخل، وإثبات نموذج الإرهاب مع الأمان النسبي في مناطقهم، والتمويل الجيد الذي يساعد بنفسه عليه.
(4)
خلاصة القول إن الجهادية السلفية مثلت ظاهرة “الغزو من الداخل”، وأداة الثورة المضادة التي أسهمت بفعالية في إضعاف قوى الثورة السورية، وخسارة مناطقها وكوادرها وجمهورها، وأن الأزمات التنظيمية والفكرية لهذه القوى الثورية كانت العامل الأهم في تغوّل التنظيمات الجهادية، كما أن نظام الأسد وحلفاءه عملوا على تشجيع نماذج التطرّف في مقابل تدمير النماذج المدنية والوطنية، سواء على مستوى النشطاء أو فصائل الجيش الحر، أو المدن التي هيمن عليها اللون الأخضر، باعتبارها تمثل منافسه الشرعي والشعبي الحقيقي، وأن عدم تحقّق مطالب الربيع العربي بالحريات والديمقراطية والحقوق السياسية والكرامة الإنسانية سيبقى الحاضنة الأهم للتطرّف والعنف وقلق المشرق العربي، بينما يستمر الشعب السوري في دفع ثمن التطرّف والاستبداد والفوضى، وغياب الإرادة الدولية بالتغيير، وتستمر المجتمعات المحلية بتقديم نماذج ملهمة وأيقونية في مقاومة التطرّف والاستبداد والحلم بالحرية، وسط كل هذا الدمار.
العربي الجديد