تحرير الإسلام من أيدي جلاّديه/ عقل العويط
ماذا يجري في بلدان المشرق العربي؟ يقول قائلٌ متشائم إن العقل كاذب، ولو صدق؛ داعماً حجته بأن كلّ ما تمّ تشييده في التاريخَين العربي والإسلامي من مآثر فكرية، فلسفية، جدالية، إبداعية، وفنية، وما تمّ تطريزه من نجوم في سماء الروح والفكر والخلق، لم يكن في الواقع سوى قصور رملية وغيوم صيف عابرة. فها هي ذي القصور تنهدم، وها هي ذي الغيوم تنهزم أمام تلبّدات الجنون وجحافل العماء. ثمة في بلاد الشام والعراق ما يُغني عن كلّ تأويل مضاد.
لم يعد خافياً على أحد، أن ما يُصطلَح على تسميته، راهناً، وهنا، في مشرق العالمَين العربي والإسلامي، بالقرن الحادي والعشرين، إن هو سوى دعابة تراجيدية سمجة، تُقصَد بها الإحالة على زمن معاوية وعليّ، ثمّ على القرن التاسع من زمن الخلافة العباسية، حين استعر الخلاف بين الأمين والمأمون، ولدَي هارون الرشيد، بما كان قد ورثه ذلك الزمن من فجائع ومحن إسلامية سابقة، وبما استجرّه من وقائع تاريخية وسياسية ودينية، ذات طابع مأسوي بحت، لا تزال تجد مَن يتبنّاها ويأخذ بها، ويرفعها على رؤوس الأشهاد، ليجعلها بيّنةً على أحوال العرب والمسلمين في بلاد العراق والشام، وما قرُب منهما، وبعُد عنهما، في أصقاع الدنيا المفجوعة بمصائر العقل وأحوال الحكمة.
أتباع هؤلاء ينادون: نحن شيعة علي والحسن والحسين، أئمّتنا الخميني والخامنئي والسيستاني ومقتدى و… نوري، ولواؤنا أبو الفضل العبّاس.
أما أتباع أولئك فيقولون: نحن سنّة عثمان وعمر ومعاوية ويزيد، أئمّتنا ملوك الخليج وأمراؤه وأهل داعش والنصرة.
هؤلاء وأولئك لا يتورّعون عن إعلان مأثرتهم الكبرى: قد وجدنا أن الأنسب لنا وللأمّة، لا التيمّن بأزمنة التنوير والحضارة والحداثة والتنوع العقلي والفكري، بل استعادة أزمنة الدم، ومصادرة العقل، والإيغال في القتل حتى النهاية.
نحن جنود العماء العقلي، من الخليجَين الميمونَين، لن نقبل بأقلّ من أنهار الأسى والدم تجري جرياناً جنائزياً مهيباً، من بلاد فارس حتى بلاد العرب، ومن مضيق هرمز إلى مضيق العقل، وما يتفرّع من هذين المضيقَين، ويتسرّب من دموعهما ودمائهما وضفافهما المباشرة وغير المباشرة؛ قد قرّرنا، ولا رجوع، جعل بلاد الرافدين وربوع الشام، أرضاً للعويل والغربان. لا يثنينا عمّا نحن فيه، وعمّا نصبو إليه، إلاّ الربح الواحد الأحد. لن يتحقق ذلك، ولن تستتبّ له حال، إلاّ باستئصال ما نراه ورماً مشيناً يشغل الأمة عن مبتغاها.
نحن أهل الدين الحنيف، نحن أهل الحقّ السليب، رسوخ الولاية الدينية هو شغلنا الشاغل. لا ينفع التأويل، ولا تعدد الرأي، ولا الاحتكام إلى بصيرة. فما نراه، هو ما يجب أن يُرى، ويُعمَل بموجبه.
لا مكان لأهل السنّة، يقول أولئك.
لا مكان لشيعة علي، يقول هؤلاء.
كل ما عدا ذلك، هراء بهراء.
في القرن الحادي والعشرين هذا، يحكمنا القتال بين معاوية وعليّ؛ بين ملوك الخليج العربي وملوك الخليج الفارسي. هؤلاء آلهتنا، يقول قائل. يردّ قائلٌ آخر: لا، فأولئك هم آلهتنا. ويستطرد هؤلاء وأولئك استطراداً واحداً مشتركاً: ما دمنا مختلفين، فليحكم بيننا الدم.
ها هو هذا الدم يهبّ منسالاً متفجراً مشرقاً من الأوردة والشرايين، عابراً الأرياف والقرى، واصلاً إلى المدن والعواصم، طالباً إليها أن تنضمّ إلى هنا أو إلى هناك، من أجل أن تكون مسيرته شاملة، وحافلةً بأمجاد الغلبة، ومؤزّرة بالنصر.
ولا غالب إلاّ الله. صدق الله العظيم.
* * *
أما بعد، فها هي شروطنا وها هي معاييرنا، تقول “الدولة الإسلامية في العراق والشام”: ممنوعٌ التدخين. كلّ مَن يُقبَض عليه متلبساً بالجرم المشهود تُقطَع سبّابته والوسطى، ويعاقَب المخالف بثمانين جلدة. وممنوعةٌ حلاقة الذقن، وقصّ تسريحات الشعر الغربية. وممنوعةٌ صالونات التجميل، وممنوعٌ خروج المرأة من دارها، من كل المذاهب والملل والأديان، من دون نقاب وجلباب وثوب أسود أو محرم. وممنوعٌ تبرّجها والسفور. وممنوعٌ ارتداء الجينز أو الكنزة. وممنوعٌ فتح محال الحلاقة الرجالية. وممنوعٌ تقصير الشعر للرجال. وممنوعةٌ الإعلانات التي توضع لمحال تزيين الشعر النسائية. وممنوعٌ عرض الملابس النسائية على واجهات المحال ويجب أن تكون البائعة أنثى. وممنوعٌ جلوس النساء على الكراسي. والويل لمن يتلفظ بعبارة “داعش”، فإنما عقابه ثمانون جلدة عدّاً ونقداً.
* * *
آخر الأزمنة: حرق الكتب المدرسية في الموصل العراقية.
اللهم، إني قد شهدتُ، وبلّغتُ.
* * *
آخر الأزمنة: رئيس الحكومة العراقي نوري المالكي، نسي أنه رئيس حكومة جميع العراقيين، وأنه يتولى على بلاد الرافدين التي أنجبت أعظم الحضارات وأنبلها. فها هو يطلب من مواطنيه حمل السلاح لمحاربة الإرهاب، ويجيّش الشيعة في الجنوب لمحاربة قبائل السنّة في الشمال. ويقال إن المرجعية الشيعية في العراق تنادي بالمثل، كما يقال إنها تراجعت عن المناداة. والله أعلم!
* * *
ماذا بعد؟
نظام الملالي وولاية الفقيه، الإسلام الوهّابي، الإسلام التركي، حكومة المالكي المقيتة في العراق، نظام الأسد البغيض في سوريا، “حزب الله” في لبنان؛ وفي المقابل أنظمة الخليج العربي، داعشاً ونصرةً وملوكاً وأمراء.
هل من خيار؟
الزمن قيامي، ولا خلاص. يحكمنا الدين والاستبداد. وما دام الحكم لرجال الدين، أو للاستبداد السياسي، أو الحزبي، أو الأمني، أو العائلي، أو لهذه كلّها معاً، وفي آن واحد، فلا رجاء، ولا خلاص.
في خليج إيران، كما في خليج العالم العربي، مروراً بسوريا والعراق وتركيا ومصر والمغرب العربي الكبير؛ سرطانٌ واحد – برأسَين – ينشب أنيابه في حياتنا. إنه سرطان الاستبداد والتخلف الديني.
هذه هي حقيقة ما نواجهه. كلّ ما يقال عكس ذلك، أو يخفف وطأته، إنما هو تعميةٌ فاجرة، تجري من تحتها أنهار الدسائس والمؤامرات التي تُحاك حول مصائر وجودنا في الشرق.
العماء الديني، السنّي – الشيعي، في كلّ مكان، من المحيط إلى الخليج، وهو يجلد الإسلام، ويصادره، ويضعه في الأسر، وائداً كلّ نسمة ضوء في روح دعوته.
لم يعد ثمة مكانٌ البتة لله، للمواطن، للإنسان، للفرد، ولا للكرامة الإلهية، ولا أيضاً للكرامة البشرية.
لا مكان للذات. ولا للآخر. فإلى أين تذهبون ببلاد الشام وبلاد الرافدين وأرض المشرق، أيها الجلاّدون؟
* * *
نربأ بأنفسنا أن نوضع أمام هذه المعادلة الماجنة والكافرة.
مسؤوليتنا أن نرفض هذا الواقع. وأن نشهّر به. وأن ندعو إلى الثورة عليه.
مسؤوليتنا أن ننادي العقل العربي لينهض إلى المواجهة العقلانية المدنية المتنورة.
كلّ تخاذلٍ عن القيام بهذه المسؤولية يساهم في تأبيد هذه الكارثة العربية، التي لن تكون أقلّ من كارثة الوجود الصهيوني في فلسطين، ولا أقل من تغيير المصائر الوطنية، أو محوها من الوجود.
فلنحرّر الإسلام من أيدي جلاّديه.
… وإلاّ ليس علينا سوى أن نكون شهود زور أو ضحايا!
النهار