“تحرير” الثورة/ عبده وازن
ليس أجمل من التحية التي وجهتها جريدة «ليبراسيون» الفرنسية إلى الثورة السورية في الذكرى الخامسة لاندلاعها. نقلت الجريدة اسمها إلى العربية «تحرير»، ورفعته محل الاسم بالفرنسية، واختارت الأحمر لوناً للصفحة الأولى وعنوانها «يوميات السوريين» وعليها رسمة لقذيفة «بعثية» حوّلها الرسام السوري خوان زيرو أرجوحة للأطفال. وجّهت هذه الجريدة الطليعية تحية إلى الثورة، مصرّة على أنها هي المرجع الذي تنبغي العودة إليه مهما حاول الخصوم أو الأعداء وبعض الثوريين المحبطين واليائسين، تجريد هذه الثورة من معانيها وأبعادها الجوهرية، ونزع الطابع اليوتوبي أو المثالي عنها.
مَن يقرأ هذا العدد الخاص من «ليبراسيون» يستعيد فعلاً مقداراً كبيراً من أمل وحماسة كان عاشهما في اللحظات الأولى للثورة التي أعلنها الشعب من تلقائه وببراءة تامة رفضاً للدكتاتورية والطغيان والقمع… أما المفاجأة التي حملها العدد هذا، فهي المقابلة التي أُجريت مع فتى الثورة معاوية صياصنة، الذي تجرأ وكتب على أحد جدران مدينة درعا جملته الشهيرة «جاييك الدور يا دكتور»، فقبض جهاز الاستخبارات عليه للفور واقتاده في الرابعة فجراً في 24 شباط (فبراير) 2011 إلى السجن مع تسعة أطفال أخضعوهم جميعاً للتعذيب والضرب المبرح ليعلموا مَن وراء حركة احتجاجهم. أصبح هذا الفتى في العشرين من عمره والتحق بصفوف الجيش الحر مقاتلاً ضد النظام وداعش… كان هذا الفتى -كما يقول في المقابلة- يحلم بأن يصبح طياراً، لكنه أصيب بخيبة شديدة عندما شاهد الطائرات البعثية تلقي براميل البارود والنار على الأحياء والمنازل بدلاً من أن ترميها فوق أراضي العدو الإسرائيلي.
العدد الخاص من «ليبراسيون»، أو «تحرير»، تولى كتابة مقالاته كتّاب وصحافيون سوريون من المنفى والداخل، وضم صوراً ورسوماً لفنانين سوريين أيضاً، وعهدت الصحيفة إلى الكاتبة السورية المقيمة في باريس هالة قضماني مهمة الإشراف على العدد بحرية تامة. وفي مقدّم الكتّاب السوريين الباحث فاروق مردم بك، والروائية روزا ياسين حسن، والصحافيون موفق حسن وأحمد مهدي وسميرة مبيض ومصطفى محمد وأحمد مراد… واستعانت قضماني بجمعيات سورية عدة بغية توفير الرسوم والصور وبعض الوثائق، ومنها: «عين المدينة»، «كلنا سوريون»، «سوريانا» و «صدى الشام»… وهذه الجمعيات تمكنت من خلق حركة مقاومة ثقافية وفنية وإعلامية مرافقةً الثورة خطوة خطوة.
مرّت خمسة أعوام على اندلاع الثورة السورية. مَن كان يتوقع أن الثورة سوف تستمر كل هذه الأعوام التي ستزداد، بعدما استحالت حرباً أهلية، بين نظام ديكتاتوري أناني ومتغطرس وثوار يطمحون إلى التخلص من الظلم التاريخي والتسلط والبؤس… ثم استحالت إلى حرب بين حركات إرهابية أصولية، مثل داعش والنصرة وسواهما، والنظام والجيش السوري الحر وأعوانه… ثم فُتحت أبواب هذه الحرب على مصاريعها لتصبح حرباً إقليمية ودولية على أرض سوريا وداخل مدنها وقراها وعلى شواطئها وفوق رؤوس أهلها، أو من تبقى منهم. لا أحد يعلم أين أصبحت الحرب السورية الآن. الثورة وسط هذه الفوضى العسكرية الشاملة ما برحت تحافظ على ما أمكن من «جغرافيتها» ومبادئها، لكنّ داعش مع أتباعه وأعدائه، والنظام مدعوماً من إيران وروسيا وحزب الله، تمكنا من تجاوز الخطوط التي ترسم عادة في الحروب ليمعنا في تدمير بلد لم يعد بلدهما وتشريد شعب ليس شعبهما وفي القتل والتخريب والهدم… حرب تفوق الوصف من شدة عبثيتها وقدريتها المأسوية، حتى بات من المستحيل تحديد جبهاتها وميادينها ومعرفة مَن يقاتل مَن فيها. وليس تسليم النظام نفسه للإرادة الخارجية أو الروسية بعدما سلمها من قبلُ إلى إيران وحزب الله، إلا رضوخاً لانتداب جديد، عسكري وسياسي تبدو عواقبه مجهولة تماماً.
مأساة المآسي. نصف الشعب السوري مهجر بين المنافي الخارجية والمنفى الداخلي الخطر وغير الآمن. مئتان وستون ألف قتيل وفق إحصاءات لم تتم متابعتها منذ سنة وأكثر. الغرقى السوريون، أولئك الذين سعوا إلى الهرب عبر البحار تتقاذف الأمواج جثثهم، هم أطفال وأمهات وعجائز لم يعودوا قادرين على البقاء تحت قذائف النظام وداعش مهدَّدين وجائعين. أما مشاهد البشر، ولا سيما الأطفال، الذين أسقط عليهم النظام هداياه الكيماوية، فهي من أعنف مشاهد الحروب وأشدها فتكاً وضراوة وهمجية وبربرية… وتشير الأرقام إلى أن الأموال التي «بُذّرت» في الحرب السورية تخطت مليارات الدولارات وقد تبلغ لاحقاً إذا ما استمرت الحرب، أرقاماً هائلة وغير متوقعة.
باع النظام ما توافر من سوريا واشترى داعش ما توافر له منها، ثم باع العالم ما تبقى من سوريا ليعاود شراءها وفق ما يريد. أما السوريون - ونحن أيضاً - فلسنا سوى شهود وضحايا في هذه اللعبة التي لا توصف الا بـ «الجهنمية».
الحياة