بكر صدقيصفحات الثقافة

حلب يا حلب..


بكر صدقي

نحن في حلب في ثاني أيام شهر آب 2012. صباحٌ رائق وهادئ بخلاف الأيام الماضية. لا أصوات قصف يتخلع لها القلب. لا طائرات هليكوبتر تحمل الموت والدمار إلى الأحياء المحررة.

….

ما حدث لزينو بري وبعض أعوانه أول أمس على يد لواء التوحيد، هو نذير شؤم مؤكد في مسار الثورة. لا يتعلق الأمر بأي أسف على رجلٍ عمل طوال سنة ونصف هي عمر الثورة، على إدارة عصابات الشبيحة الحلبية التي فتكت بالمتظاهرين السلميين ضرباً وقتلاً واعتقالاً، واحتل أتباعه الساحات العامة وروّعوا السكان وضربوا بسيف السلطة. هناك أسباب مبدأية وأخرى سياسية تدفعنا لإدانة ما حدث لهؤلاء الشبيحة، على رغم أن إعدامهم جاء بعدما نصبوا كميناً لمقاتلي الجيش الحر قتلوا فيه خمسة عشر منهم.

الأسباب السياسية “البراغماتية” إن شئتم، ليست بحاجة إلى كثير من إجهاد الفكر. “العالم” الذي يبدو أننا خاطبناه ونخاطبه بكثير من الاهتمام، مهما ادعينا خلاف ذلك، على ما يوحي شعارنا الشهير “مالنا غيرك يا الله”، لن يتفهم أبداً الأعمال ذات الطابع الثأري الصادرة عن الثوار. هذا العالم الذي يعني في وقت واحد القيم والمعايير الحضارية الكونية ومصالح الدول معاً، يفتح عشرة أعين على الثوار مقابل عين واحدة على فظاعات النظام. العالم لا يعنيه دم الشبيح زينو بري ولا دم الشهيد حمزة الخطيب سواء بسواء. لكنه يمسك بالخرائط والمساطر بحماسة، ويتطلع إلى الفوضى المتوقعة بعد سقوط النظام على أنها جنة فرص. ينظر العالم إلى وطننا وثورتنا من منظار جيو – استراتيجي أكثر مما ينظر إليهما من منظار شعب يريد تقرير مصيره أو من منظار أخلاقي إنساني. أقرب من ذلك وأوضح: إعدام زينو بري وأعوانه بتلك الطريقة البشعة، قد يمنح النظام المجرم ذريعة شن هجوم على مدينة حلب بتغطية دولية. هل هذا ما نسعى إليه؟

غير أن اهتمامي سينصب هنا على الأسباب المبدئية.

يظهر زينو بري في مقطع فيديو مصور وهو يتعرض للتنكيل بجسمه العاري إلا من الشورت، وعليه بقع دم. أنا لا أعرف الرجل شخصياً، ولا سبق ورأيته في صورة ثابتة أو مشهد فيديو. فبدا لي محض رجل يتعرض للإذلال والتعذيب. بل محض إنسان وقع بين أيد لا روادع تردعها. حاولتُ جاهداً أن أستعرض مقابح الرجل وإجرامه الذي يمتد بعيداً قبل الثورة، وبخاصةً بعدها. حاولتُ ذلك لأجد المبررات لما يتعرض له في هذا المشهد القاسي، لكني فشلتُ. تذكرتُ بدلاً من ذلك نفسي في موقف مشابه قبل ردح من الزمن.

في تلك الليلة الرهيبة من شهر آذار 1983 حين تم اعتقالي واقتيادي إلى فرع الأمن السياسي في حي السليمانية في مدينة حلب، عرَّاني الجلادون من كل ثيابي باستثناء السروال الداخلي، وأحكموا ربطي بآلة التعذيب الشهيرة باسم “بساط الريح” وأخذوا يضربونني على باطن قدميّ طوال ساعات، تتخللها فواصل يفكون فيها وثاقي ويرغمونني على الركض على قدميّ الداميتين في ممر طويل، وهم يضربون جسمي العاري بأعواد الخيزران كلما مررت قربهم معصوب العينين.

أما في سجن تدمر الرهيب الذي نُقِلتُ إليه مع رفاق آخرين في السنوات الأخيرة من سجني، فقد حشروني في الدولاب عارياً حتى من السروال الداخلي، وأخذوا يجلدون باطن قدميّ بكابل مقتطع من إطار سيارة، مصنوع من الكاوتشوك المقوى بأسلاك معدنية. حين تلقيتُ الضربة الأولى وجسدي مطوياً أكاد أختنق بسبب ذلك، أدركتُ أنني لن أخرج من الدولاب إلا ميتاً.

لم أمت.

كان هذا الدولاب هو مجرد استقبال يخضع لأحكامه كل نزيل جديد في سجن تدمر. طوال سنتين ونصف أمضيتهما في هذا السجن، تعرضت لجولات تعذيب أخرى، كان حظي منها أقل من حظ آخرين من رفاقي، بمحض الصدفة والحظ. ربما بدا لي دولاب الاستقبال شديد الوطأة بسبب طول المدة الفاصلة بينه وبين التعذيب الذي تعرضت له في فترة التحقيق لدى فرع الأمن السياسي. فقد انقضت ثلاث عشرة سنة بين الحدثين في نوع من الاسترخاء والاستسلام للحياة اليومية لسجن تمضي فيه الحياة برتابة تبدو أقرب إلى رتابة الحياة العادية بسبب قدرة السجين على التكيّف. بيد أن التكيف ورتابة حياة السجن لا يوقفان مفاعيل الزمن. فقد تلقيتُ تعذيب فترة التحقيق وأنا في الرابعة والعشرين من عمري، في حين أنني كنتُ بلغتُ السابعة والثلاثين حين حشروني في إطار السيارة في حفلة استقبال سجن تدمر.

أكثر ما أثر بي في مشهد التنكيل بزينو بري هو عيناه المملوءتان بالدهشة. ليس الرعب، بل الدهشة. كان يرى جلاديه بتيقظ كامل. لم يبك أو يتوسل إليهم. بدا لي أن في عينيه أمل في البقاء على قيد الحياة لم يزل. أنا لم أر جلاديّ. كانت عيناي معصوبتين طوال فترة التحقيق. وكذا في سجن تدمر. هذا أرحم. وأحفظ لروحك من العطب. صحيح أن العماء مرعب، فأنت لا تتوقع متى تأتيك الضربة ومن أين وممن. لكنك لن تعرف أبداً من جلدوك. زينو بري رآهم، وانطبعت صور وجوههم في تلافيف دماغه إلى الأبد.

في سيرة الرجل من الجرائم والقبائح ما يستحق عليها أشد العقوبات. لكن كلمة العقوبة تحيل بذاتها إلى ما قطعه الإنسان في سلم ارتقائه من بدائية حياة الغابة إلى المدنية الحديثة بشرائعها السماوية والوضعية. تعني المدنية في أحد وجوهها تقسيماً للعمل، وفصلاً بين الضحية والجلاد. يطالب الضحية بحقه في الثأر، فتقوم مؤسسات مختصة بالقصاص بالأخذ بثأر الضحية من جلاده باسم المجتمع والحق. في درجة أعلى ينتفي من العقاب مضمونه الثأري، ليتحول إلى غايات أخرى: إصلاح المجرم أو حماية المجتمع منه أو حفظ أمن المجتمع.

نحن في سوريا اليوم بصدد التأسيس لتاريخ جديد، من المفترض أن يكون منفتحاً على العصر والعالم وطبعاً على المدنية وقيمها، ناهيكم عن اختلافه المأمول عن تاريخ النظام الأسدي المتهالك. بعدما نجح هذا في تحويل ثورتنا السلمية إلى ثورة مسلحة بوجهها الغالب، علينا ألا نتهاون مع سلوكيات المكون العسكري لها، أي تلك المجموعات المسلحة من عسكريين منشقين ومدنيين متطوعين من نشطاء الثورة المنضوين تحت العنوان الغامض “الجيش الحر”. فإذا تحول الثائر المسلح إلى جلاد قبيح، علينا أن نرى في ذلك ارتداداً إلى الغابة البدائية والبراري الموحشة حيث عواء الذئب المتوحد يملأ الفضاء.

هناك سؤال متواتر يطرحه كل من تعرض لتعذيب: كيف لهذا الجلاد الذي يقوم بتعذيبي بكل هذا الحماسة، مع أنني لم افعل له شيئاً أستحق عليه كل هذا الحقد، أن يعود إلى بيته بعد انتهاء عمله اليومي، فيلاطف أطفاله أو يحتضن امرأته أو يسترخي أمام التلفزيون إلى أن يغلبه النعاس فينام بلا قلق؟ وإذا كان الجلادون في الأجهزة الأمنية قد حلوا هذه المشكلة بأن ما يقومون به هو “عمل”، فكيف يمكن لآلاف المجندين ممن أمضوا خدمتهم العسكرية الإلزامية في سجن تدمر، فمارسوا أشد ألوان التعذيب بحق معتقلين سياسيين معصوبي العيون دوماً، أن ينعموا فيما تبقى لهم من عمر براحة الضمير؟

هذا السؤال اليوم هو برسم مسلحي الجيش الحر ممن مارسوا التعذيب والقتل بحق أسراهم من قوات النظام وشبيحته.

في الحرب تحدث تجاوزات. الإقرار بهذا الواقع لا يعني تبريره بحال من الأحوال. اقتل عدوك في المعركة، ولكن إياك أن تقتله بعد أسره. وإياك أكثر أن تقوم بإذلاله وتعذيبه. هو سيموت ويرتاح. أما أنت، فسوف تستعيد الذئب الذي في داخلك، بعدما ظننتَ أن الحضارة طوَّعَته. أي إرث أو مجد ستتركه لأولادك؟ أي ثورة ستصنع بيديك الآثمتين وأي وطن ستبني؟

….

في حلب الآن، الاتصالات الخليوية مقطوعة، وكذا الانترنت. المخابز ومحطات الوقود مغلقة. نزوح كبير من الأحياء التي تعرضت للقصف منذ بداية شهر رمضان، إلى الأحياء الآمنة أو إلى خارج المدينة. نصف حلب متطوع لإغاثة نصفها الآخر.

تصبحون على خير.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى