تداعيات عن حمص وحلب وعن الوحدة التي «ما يغلبها غلاب»
مروان صوّاف
العاشر من تموز (يوليو) 2013. ما أراه وأسمعه – عن بلدي وفيها – يفوق الخيال. مدينة حلب تحت الحصار، والحديث يدور عن حلبين: غربية وشرقية. إحساسك بالمرارة والألم لا يمكن وصفه، وأنت في مكان قصيّ تنتظر مدفع الإفطار غروب يوم الخميس ثاني أيام شهر رمضان، تفصلك عن موعد الجراحة المرتقبة التي ستجرى لصدرك لعلاج واحدة من مضاعفات جراحتي القلب المفتوح اللتين خضعت لهما سابقاً، تفصلك خمسة أيام فقط. إحساسك بالألم وقد امتزج بشعورك بالخجل والتواري يتعاظم، وأنت لا تبرح تسائل ذاتك: أين أنا من كل ما يجري؟.
ما أحسست يوماً بالعجز وبالقهر والحزن على أبناء بلدي وهم يتلقفون لقمة الذل في المنافي ومخيمات اللجوء – داخل وخارج أسوار الوطن – كما أحسّ الآن. وما أحسست بالألم الذي تتمنى لو يتفجر بكاء دمعاً ودماً، كما أشعر الآن وأنا أشاهد الخراب الذي يعلن مدينة حمص أثراً بعد عين.
قبل هذا التاريخ، بما يقارب الأسابيع الثلاثة (الرابع والعشرون من حزيران/يونيو 2013) أبلغك الإعلام العربي في بلد عُرف بلقب «أم الدنيا» واقعة سحل أشقاء بعد قتلهم عقاباً على المذهب والتبعية. وأياً كان القاتل والمقتول، أو مذهب الساحل والمسحول، يصدمك – والى حدّ الذهول – أن ما جرى مكانه المحروسة. وبتزامن ملفت ومثير تداهمك تفاصيل موثّقة عما يلقاه أبناء بلدك الذاهبون – ملاذاً – إلى أمهم مصر، وتكاد تصرخ وأنت تقرأ شهادات سيدات وأبناء بلدك من مواطني الإقليم الشمالي عما أصابهم في عدد من مدن الإقليم الجنوبي، وقد هتفت إحداهن بلوعة: أهذا ما بقي من الوحدة الـ «ما يغلبها غلاّب»؟، والمفارقة أن تكون السيدة الملتاعة من حلب التي دفعت ثمناً باهظاً دفاعاً عن الوحدة بين الإقليمين ذات يوم. والمصيبة الأكثر فداحة تجتاحك وأنت تقرأ وترى ذاك السيل من الشتائم ورسائل التخوين التي باتت تميز الحوار بين أبناء وطنك على صفحات كتاب افتراضي – في عالم افتراضي- لجأت إليه عزاء وهروباً من آلامك. ماذا تفعل إذن؟
تذكرت في هذه اللحظة اسماً لطالما طالعني في أكثر من مكان ومناسبة، اسم مدون لم ينعم في زمانه بما ننعم به الآن ونحن ندوّن ما نراه رقمياً، لم يعش عصرنا بكل ما ننعم به من ثورة في عالم التدوين والاتصال. ومع ذلك بدا قادراً على تدوين شهاداته – بدقة ما أمكن «أحوال دمشق في 22 عاماً أواسط القرن الثامن عشر». إنه البديري الحلاق، الذي قارب – وصفاً وتدويناً – حوادث دمشق اليومية – وعايش بدقة ملفتة قياساً لعصره – أحوال البلاد والعباد، واقع الغذاء والطوابير بحثاً عن لقمة وكسرة خبز، وواقع الثروة وسوق المال والجشع والتحكم بقوت وأرزاق الناس، وواقع الاحتكار وندرة الكساء والدواء في مكان عرف بالوفرة والنعمة وبإمكانياته المدهشة بإمداد الغير- وبخاصة دول الجوار- بالماء والغذاء، وربما بالكهرباء لو كان هذا الأمر متاحاً في حينه.
هل نزيده من الشعر بيتاً لو وصفنا له أجساد أبناء بلده وهم يتمرغون في وحل المخيمات، وفي العراء، وفي استضافة إجبارية مهينة؟ البديري الحلاق لم يكن كاتباً أو إعلامياً أو صاحب نفوذ. البديري كان – أو هكذا بدا لنا – من العامة «أو كما يحلو للفنان الراحل منصور رحباني أن يصف الفئات الشعبية في مسرحية صيف 840 بالعامية» لكن شهادته ترقى إلى مستوى الباحثين بما يجعله أهلاً لنيل صفة رئيس تحرير صحيفة شعبية جداً، واقعية جداً، إخبارية جداً، تترك لك مهمة تحليل الخبر والأحداث اليومية كما تشاء كقارئ ودارس.
أسمح لذاتي بافتراض وجود شخصية كهذه في أيامنا هذه: أتراه سيغدو خبيراً في سوق المال وهو يرى تحكم عملة أجنبية بمـــقدرات الغذاء والقوت والدواء والكهرباء والطـــاقة فـــي بلده، وقد نافست رواد الفضاء فــــي صعودها إلى الكواكب قياساً لعملته المحلية؟ أم تراه سيغادر دكان الحلاقة الــــذي شغله يوم آثر أن يسجل مشاهداته والــتي ما تصوّر يوماً أن تغدو مرجعاً يقتدى به، إلى دكان أرحب هو دكان الدنيا، وأن يلوذ بمهنة أخرى هذه المرة… مهنة المصور الفوتوغرافي، أو لنقل مهنة مخرج الأفلام الوثائقية فأمامه مادة ثرة موغلة في الواقعية – الغرائبية – إن صح القول.
المدون الذي أدهشك ذات يوم بإخبارك عن إقدام السكان في مدينته على ذبح القطط، وقد ندرت لحوم الضان والأبقار والأسماك في خضم مجاعة طاحنة عاشها الناس في قرن مضى، لا أعرف كم سيدهش وهو يرصد مشهد شق إنسان لصدر أخيه وانتزاع أحشائه ومضغ قلبه، وتسجيل هذا كله أمام عدسات وكاميرات المصورين.
أم تراه في مهنته الجديدة موظفاً في مفوضية حقوق الإنسان يدون يوميات المعتقلين راصداً واقع الحريات أينما ذهب وتنقّل، مواكباً سجين الرأي أو المخطوف وهو يُنتزع حياً وفي صحة جيدة من بين أطفاله وأهله ليعاد في ما بعد – إن عاد وعثر عليه – جثة هامدة؟
أم لعله عاشق من عشاق أبي الفنون المسرح آملاً أن يرصد الواقع في أمته بيوميات من نوع آخر تقارب مدونات وأثار كتّاب المسرح الكبار فيقدم حفلة سمر أخرى تضاهي العمل الشهير للراحل سعدالله ونوس «حفلة سمر من أجل خمسة حزيران» ولكن عن الثلاثين من يونيو، هذه المرة، كحدث فارق مغاير؟
معذرة يا أخي أحمد بديري الحلاق، فقد تعدى هذا يومياتك بكل جرأتها وقسوتها نسبة وتناسباً. هذه مجرد تداعيات أملاها تصور افتراضي لمدون لن يحتاج لو شاء مهناً جديدة لرقيب يستخدم مقصه الرقابي – هكذا يفترض – فبطبيعة الحال سيغدو البديري – بمهامه الجديدة – متأثراً بدور مقصه الفطري والأساسي. أليس اسمه أحمد بديري الحلاق؟
الحياة