تدوير الخردة/ د. مازن أكثم سليمان
يبدو للوهلة الأولى أنه في ضوء الانفتاح غير المحدود لوسائل الاتصالات والتواصل الاجتماعي، والتعدد المُدهش للمواقع الإلكترونية والجرائد والمجلات، أصبح أمام المرء فرص غير مسبوقة لاكتناه الثقافة والمعرفة، ولا سيّما أننا في التعيين التحقيبي السياسي/ الفلسفي للمرحلة الحالية ننتمي إلى عصر ثورة المعلومات، بما هو عصر ما بعد الحداثة، أو ما بعد الحداثة والحقبة الرأسمالية المُسماة بـ (النيو ليبرالية).
بالتأكيد، لا أُنكر الجوانب الإيجابية في هذه السيولة المعرفية، ولا أنكر التسارُع المُذهل في كيفيات حركية المعلومات، لكن السؤالَ الجوهري: إلى أي حد نحنُ أمامَ خيارات ثقافية ومعرفية جادة وبناءة ومُفيدة عمَليًا لا نظَريا؟
مما لا شك فيه أننا، وأمام مئات إن لم نقل آلاف المواقع الإلكترونية العربية، ومن تجربتي الشخصية، نواجه إلى حد بعيد ثورة معلوماتية مأزومة معرفيًا؛ ذلكَ أن الثقافة السائدة في معظم هذه المواقع، وفي معظم المواد التي تُنشَر فيها هيَ ثقافة استهلاكية، تقوم على مجموعة من التوجهات غير البريئة من ناحية أُولى، والمحكومة بشروط (السوق الإلكترونية الافتراضية) من ناحية ثانية.
تنهضُ سياسة معظم المواقع على فكرة الوفاء للراهن والعابر، أكثر من فكرة الوفاء للمعرفي والثقافي الجاد والأصيل، وتتحقق فعليًا مقولات ما بعد حداثية، مثل مقولة ضياع الحدود الفاصلة بين ثقافة النخبة وثقافة العوام الشعبية، وهيَ مقولة جيدة إنْ كان هناك مشروع أصيل لتقديم الثقافة الجادة وجذب العوام إليها، لا لتمييعها، وحجب دور المُثقف والثقافة عن العوام، بغض النظر عن تحليلنا لمُصطلح النخبة ودلالاته الذي ليسَ مكانه في هذا السياق.
من المُؤسف حقًا، أنْ يتحول دور عدد كبير ممن يُدعَون (مثقفين) إلى رجال علاقات عامة في المُستوى الوقائعي، ونقلهم هذه السياسة الانتهازية إلى العالم الافتراضي، بغيةَ قطاف مردودها، عبر ترسيخ الأسماء الزائفة وتعميق الشللية الرخيصة وتوزيع الحصص والمُكتسبات المادية (التمويلية) المأجورة، على حساب كُل شيء معرفي أو ثقافي قيّم!
إن ما يحدث في الحقيقة هو فضيحة ثقافية كبرى، ولا سيما في الفضاء الافتراضي العربي، إذ قلما نقرأ شيئًا جادًا وأصيلًا من الجانب المعرفي، وفضلًا عن جانب العلاقات العامة والشللية التي تتحكم بالأسماء (المُنتجة) في هذا الفضاء، تفتقدُ معظم هذه الأسماء للكفاءات الحقيقية من جهةٍ أُولى، ويتحولُ عملُها إلى منحًى ميكانيكي تقني استهلاكي من ناحية ثانية، حيث تطفو شروط الاستسهال والترويج الفارغ لا المُنتج، عل حساب الثقافة الجادة والعميقة والمهمومة بالتغيير والتجديد والتقدم.
لعل نظرة عامة على مُعظَم ما يُنشَر تؤكد سيادة الأنماط المعرفية الزائفة، والميل في نسبة غير قليلة من المواد إلى الثرثرة والتبسيط المُخل بالمُستوى الثقافي الأصيل، وإذا ضربنا صفحًا عن المُحتوى السطحي الذي يُقدم تحت عنوان (الثقافة)، وأنهُ ليسَ سوى حلقة مُوازية لثقافات الاستهلاك المُرتبطة بأنماط مُعاصرة كالموضة والطبخ وكُرة القدم؛ فلن نستطيع أنْ نتجاهَلَ الأخطاء المعرفية الخطيرة التي تملأ هذه المواد الاستهلاكية، إما عن جهل أو عن سياسات خبيثة جدًا.
من جهتي، لستُ ضد ثقافة التسلية، لكنْ من الضروري أنْ لا يسود نمط واحد على المشهد. هذا من جانبٍ أول، ومن جانبٍ ثانٍ، إذا استعدنا جميع النقاط السابقة؛ وجدنا أن الحامل المُشترَك لسلبيات المشهد الثقافي تكمن في إعادة تدوير الخردة الثقافية، وضخ المُهترئ والمُستهلَك في أوصال الشبكة العنكبوتية.
إن عملية إعادة تدوير الخردة الثقافية السائدة، لا تكتفي بحجب الثقافة الأصيلة، وإحلال الزائف والسطحي والمُبتسَر مكانَها، كما نجد في ما يُدعى إلى حد بعيد (ثقافة العناوين)؛ إنما تتجاهل أو تُمانع -وسط فائض استهلاكي مُريع- أنْ تفتَحَ الفضاء لثقافات التجديد والتغيير والمُجاوَزة، وهيَ الثقافات التي تنهَضُ بها العلوم الإنسانية عبر التاريخ، ولا سيما ما يرتبط بحقول الفلسفة وعلم الاجتماع والأدب، وبثقافة النقد بشكلٍ عام.
يبقى أنْ أُشير إلى أن هذه الصورة ليست سوداوية بالمُطلق، لا لوجود أناس مُثقفين ومُكافحينَ جادين فحسب، وهم كثيرونَ في الحقيقة، لكنْ لأن التاريخ الوقائعي علمَنا أن الزمن غربال أقوى من كُل الضحالة العابرة، وأن الأصيل يطفو ويعلو ويبقى، مهما طال المخاض. ولا أظن من جهتي أن الفضاء الافتراضي -على فوضويته- يخلو من مثل هذه الإمكانية القادرة على الفرز، وتنحية ثقافة تدوير الخردة جانبًا، والاحتفاظ تاريخيًا بالثقافة التنويرية الطموحة والمَهمومة بأفكار التخليق والتجديد، والثورة على كُل ما يشد البشرَ إلى كهوف التخلف والظلام والعبودية.
شاعر وناقد سوري