تركيا و”الخيار المغامر”
محمد نورالدين
أدخل انفجار السيارة أو السيارتين عند معبر “جيلفي غوزي” الحدودي بين تركيا وسوريا، أنقرة من جديد إلى واجهة المشهد السوري، بل الإقليمي .
إنه الانفجار الثالث الكبير نسبياً خلال وقت قصير . اغتيال القياديات الكرديات في حزب العمال الكردستاني في باريس . الانفجار أمام السفارة الأمريكية في أنقرة ومقتل حارس تركي . والآن انفجار سيارة مفخخة تماماً عند نقطة الخروج من نقطة الجمارك التركية في معبر “جيلفي غوزي” المقابل لمعبر “صف الهوا” السوري . لا يمكن الجزم بالجهة المنفذة ولا حتى بطبيعة الانفجار والجهة المستهدفة . حتى وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو قال إنه ليس متأكداً ما إذا كان وفد من المجلس الوطني السوري المعارض كان المستهدف بالانفجار .
العملية يمكن أن تتقاطع مع عدد كبير من الملفات الراهنة في تركيا وسوريا والمنطقة . لكن تصريح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بأن غياب التفتيش على الجانب السوري من المعبر كان وراء تسهيل عملية حصول الانفجار ربما يضع الإصبع على الجرح، بمعنى أنه لا يوجد على الجانب السوري قوات نظامية . المعبر هو بيد المعارضة السورية التي تدعمها تركيا بكل المال والتدريب والسلاح .
الاتهامات جاءت أولاً إلى سوريا ولكنها وضعت أيضاً جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة في عداد الجهات المحتملة التي تحترف هذا النوع من الهجمات . هذا ما ذكره المعلق التركي المعروف جنكيز تشاندار في صحيفة “راديكال” .
خارج كل هذه الاحتمالات والحسابات، فإن المعارضة التركية لم تكن بعيدة عن الصواب عندما اتهمت سياسات الحكومة التركية تجاه سوريا والمنطقة بأنها جرت تركيا إلى دائرة عنف بدأت تطالها منذ وقت مبكر من اندلاع الأحداث السورية، وما يسمى عموماً بالربيع العربي .
لقد بدأت “اللعبة الكبرى” بالنسبة إلى تركيا منذ لحظة وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في نهاية العام 2002 . عمل الحزب أولاً على تمكين نفسه في الداخل وسعى بأولوية إلى كسر نفوذ الجيش في الحياة السياسية، ومن ثم إلى وضع اليد على المؤسسات القضائية وكل مفاصل الدولة . وهو ما يذكر بالخطوات التي لجأ، ولايزال يلجأ إليها الرئيس المصري محمد مرسي في مصر لتمكين حركة الإخوان المسلمين من وضع يدها على كامل مفاصل السلطة بما في ذلك الدستور .
غير أن اللعبة الأكبر بالنسبة لحزب العدالة والتنمية في تركيا كانت خارجية وكان أساسها صفر مشكلات، سياسة التمكين أولاً ثم الانقلاب على الأسس . دخلت أنقرة مع “صفر مشكلات” إلى المنطقة: إلى سوريا ولبنان والعراق وإيران وفلسطين وغيرها . ولكن ما إن لاحت الفرصة للاستئثار بدلاً من الشراكة اختارت الانحياز . وقف أردوغان علناً إلى جانب إسقاط حسني مبارك لأنه يعرف أن الإخوان المسلمين سيأتون إلى السلطة، لأنهم ليسوا فقط الأكثر تنظيماً، بل لأنهم وحدهم الذين كانوا منظمين من بين سائر القوى السياسية المعارضة الأخرى . مطالبة أردوغان مبارك بالتنحي كانت غير مسبوقة في علاقات تركيا بالخارج، وإيذاناً بملامح المرحلة المقبلة من الدور التركي المتدخل في المنطقة .
وبعد تردد، فعل أردوغان الشيء نفسه في ليبيا وفي سوريا وفي اليمن . ولم تكتف تركيا بذلك، بل ساعدت لوجستياً وإعلامياً حركة الإخوان في تونس ومصر على إدارة معاركها الانتخابية والسياسية وتقديم المشورة . وبطبيعة الحال، فإن المشهد العربي كشف عن صورة لتركيا منحازة لطرف دون آخر، فكان من الطبيعي ان تواجه تركيا مشكلات لا حدود لها، لأن تورط تركيا لا ينفصل عن المشروع الكبير في اللعبة الكبرى وهو أن تكون تركيا قائدة للشرق الأوسط وليس في الشرق الأوسط فقط . وهذا يستدعي وجود أنظمة جديدة تنسجم مع خطها الأيديولوجي الذي هو جزء من الحركة العالمية للإخوان المسلمين . وقد رأينا كيف سعى هذا الخط الأيديولوجي إلى التدخل في الشؤون الداخلية لبعض الدول، ومنها خليجية، للعمل ضد أنظمتها السياسية القائمة وزعزعة الاستقرار وتشكيل “خط نار” إخواني من المحيط إلى الخليج ومن بحر عدن إلى ضفاف البحر الأسود .
أدخل حزب العدالة والتنمية تركيا في خيارات لم تكن قائمة قبل العام 2002 . واليوم بسبب هذا الخيار المغامر تحصد تركيا نتائج حتمية له في منطقة تعج بالتنوع الإثني والديني والمذهبي والسياسي، ولا يمكن أن تتحمل خيارات تكسر التوازنات وتزعزع الاستقرار والعيش المشترك . ومقاومة هذا الخيار المغامر أكثر من ضرورة من تونس إلى مصر ومن الخليج إلى الأناضول .
الخليج