صفحات الرأي

تشكّل العراق الحديث: الوقائع والأساطير


عصام الخفاجي

مقدّمة: في قوّة المحاكمة الإيديولوجيّة

لعقود عدّة، وبصورة متواصلة، رسمت المناهج المدرسيّة والتواريخ الرسميّة والإعلام في الشرق الأوسط، لا سيّما في البلدان التي حكمتها أنظمة قوميّة عربيّة، صورةً عن أمّة عربيّة ضحيّةٍ سبق أن كانت وحدة سياسيّة طبيعيّة تمتدّ من العراق إلى المغرب، الأمر الذي استمرّ حتّى الحقبة الاستعماريّة حين احتلّ البريطانيّون والفرنسيّون أجزاء من هذه الأمّة. وهي عمليّة وجدت تتويجها في اتّفاقيّة سايكس بيكو، العام 1916، التي جزّأت المشرق منطقتي نفوذ لهاتين القوّتين. وبحسب هذه السرديّة، فإنّ الهدف من هذا التقسيم هو خلق كيانات سياسيّة ضعيفة و«مصطنعة» غير قادرة أن تقف بذاتها وتستقلّ، من ثمّ، عن حماية القوى الاستعماريّة.

ومع صعود الحركة القوميّة الكرديّة في العراق وأمكنة أخرى من الشرق الأوسط، وُجدت مرآة عاكسة لهذه السرديّة تبنّاها إيديولوجيّو تلك الحركة أيضاً. وبموجب هذا التأويل فإنّ القوى الاستعماريّة، فضلاً عن الحكّام المحليّين في بلدان الشرق الأوسط التي يقيم فيها أكراد، منعوا الأخيرين من بلوغ حقّهم في إقامة كردستان موحّدة.

هذا الخطّ في الحسبة الفكريّة إنّما جرى استخدامه (أو إساءة استخدامه، وذلك تبعاً للمنظور المعتَمَد) من قبل الأنظمة والحركات القوميّة بهدف إسباغ الشرعيّة على دعواتهم للوحدة العربيّة كأداة للتغلّب على الضعف والتبعيّة والتخلّف. ومن الواضح أنّ أهمّ ما تنطوي عليه الحسبة الفكريّة هذه كون الأرض الكبرى والبشر الكثيرين أساسيّين لإنجاز الأهداف المرغوبة.

على أيّة حال، كان ما يدعو للسخرية أنّ سرديّة جديدة ومضادّة حول «الاصطناعيّة» بدأت بالظهور مع نهاية حرب الخليج الأولى في 1991، حين غطس العراق في أزمة سياسيّة عميقة بعد عقود من الطغيان والحروب والعقوبات. وتماماً كما أُخذ الخطاب القوميّ العربيّ السابق كمعطى، حظي هذا الخطاب الجديد فوراً بتداول واسع بوصفه التفسير، بألف ولام التعريف، لأزمة الحاكميّة في العراق، وربّما في ما يتعدّاه من المشرق.

وتبعاً لهذا الخطّ الجديد، نحت البريطانيّون ثلاث ولايات عثمانيّة سابقة، هي بغداد والبصرة والموصل، لكلّ منها سكّان يتميّزون عن سكّان الأخرى: سنّة عرب وشيعة عرب وأكراد بالتوالي، وذلك كي يشكّلوا دولة «مصطنعة»، وبالتعريف «غير قابلة للحياة»، تخدم كقاعدة لدائرة النفوذ البريطانيّ في الشرق الأوسط.

هكذا تبدأ مقالة سايمون عن العراق بالتالي:

«وكمثل واضح على دولة ولدت مصطنعة، ظهر العراق في نهاية الحرب العالميّة الأولى بإرادة بريطانيّة. وكان لا بدّ من خلق حدود جديدة في الشرق الأوسط بعد انحلال الامبراطوريّة العثمانيّة. وبوصفهم المنتصرين، خطّط البريطانيّون التقسيم الترابيّ بما يلائم اهتماماتهم الاستراتيجيّة التي باتت تتطلّب تغييراً في السياسة… لقد رسموا الخطوط الجديدة في مؤتمر في القاهرة في 1921 والذي خلق العراق البلد انطلاقاً من المقاطعات العثمانيّة السابقة لبغداد والبصرة والموصل». (سايمون 1997: 87، الحروف المائلة مضافة).

وبالروحيّة نفسها يكتب أديد داويشا: «لقد خُلق العراق في 1921 كجزء من إعادة تنظيم المصالح البريطانيّة في الشرق الأوسط. فقد لمّ ونستون تشرشل ومستشاروه الدولة الجديدة من ثلاث مقاطعات في الامبراطوريّة العثمانيّة الميّتة… محرومة من أيّ أساس منطقيّ وطنيّ أو إثنيّ أو دينيّ، فكان العراق المفتقر إلى المقوّمات الأساسيّة للوطن». (داويشا 1997: 7).

تتقدّم هذه الورقة لتسائل المقدّمات المشتركة التي ينهض عليها التفسيران المتعلّقان بتشكّل العراق والمشرق الأعرض، وتحديداً منح السياسة والإرادة السياسيّة دوراً فائقاً وحاسماً في تشكيل المجتمعات واختراع الفضاءات الوطنيّة (أو المختلّة في وظيفتها الوطنيّة).

ولسوف أجادل بأنّ القوى الكبرى، وفيما كانت مسوقة بمحاولات تعظيم مكاسبها السياسيّة والاقتصاديّة الناجمة عن الاستعمار، لم يكن يسعها نبذ العمليّات طويلة الأمد التي قضت بتجميع بعض الجماعات أو بتفريقها. فقد كان في مقدور القوى الاستعماريّة، وهو ما فعلته، أن تتلاعب بشرائح من السكّان المحليّين في الأراضي التي استتبعتها. غير أنّ هذا التلاعب ما كان لينجح لولا توافقه مع مصالح محلّيّة قويّة.

هكذا فإنّ ما يقال عن «اصطناعيّة» العراق وأجزاء أخرى من المشرق يخلط وصف بعض معالم العمليّات المتّصلة بتشكّل الدولة بتأويل هذه العمليّات والاتّجاهات المتحكّمة بها التي قادت إلى الحصائل الراهنة. وعلى أيّة حال، فما ينبغي التشديد عليه هو أنّ تقديم ما أظنّ أنّه عمليّات طويلة الأمد، يجب أن يحاذر الوقوع في: 1- تعيين هذه العمليّات بوصفها مقرّرة حتميّاً أو ذات خطّ أحاديّ، و2- استنتاج أنّ بعض الحصائل السياسيّة ليست مرغوبة أو ممكنة، أكان ذلك إبّان تشكّل هذه الدول أو بعد ذلك.

صناعة الفضاء «الوطنيّ» العراقيّ

بخلاف الأوراق المشبَعة سياسيّاً، فإنّ المقالات والتعليقات التي أُنتجت خلال أزمنة الأزمات السياسيّة، كمثل العقدين الأخيرين، والأدبيّات السكولائيّة التي توسّعت حول العراق، لم تُثر إلاّ نادراً مسألة اصطناعيّة الحدود الراهنة أو التجاوُر بين ولايات كانت منفصلة سابقاً.

صحيحٌ أنّ عمل حنّا بطاطو النُصبيّ يكرّس قسماً تمهيديّاً لـ «تنوّع العراقيّين، وعدم تجانس مجتمعهم، وسيرتهم إبّان الحقبة المَلكيّة باتّجاه بنية سياسيّة متراصّة» (بطاطو 1978: 13-37). لكنّ هذا التنوّع ينسبه المؤلّف أساساً إلى الانقسام الحادّ المدينيّ/الريفيّ وإلى العصبيّات المحلّيّة في البلدات والمدن نفسها. وحتّى عندما يتعامل مع الانشطار بين الشيعة والسنّة، يذكّر المؤلّف قرّاءه بأنّ «وجود هذا العامل يقترح أنّ نفورهما المتبادل، وإن عُبّر عنه دينيّاً، فإنّ جذوره تكمن، أقلّه جزئيّاً، في أسباب اقتصاديّة واجتماعيّة» (المرجع السابق: 18، الحروف المائلة مضافة).

وإذ يستخدم توبي دودج لعمله عنوان «اختراع العراق»، الجذّاب وما بعد الحداثيّ، فإنّه، في الواقع، يحلّل اختراع نظام الحاكميّة الحديث في البلاد أكثر ممّا يحلّل اختراع البلاد نفسها. فالمؤلّف يستشهد بخطاب لويد جورج في 1918 «الذي يدعو إلى الإقرار بأنّ ما بين النهرين إلى جانب مناطق أخرى غير تركيّة من الامبراطوريّة العثمانيّة (…) تملك شروطها الوطنيّة المنفصلة» (دودج 2003: 11). ولدى التعامل مع الرؤى البريطانيّة في ما خصّ التقسيمات داخل العراق، يُرفع الانشطار المدينيّ/الريفيّ، مرّة أخرى، إلى مصاف العَرَض الأساسيّ. (المرجع السابق: 44).

ويبدأ م.س. حسن عمله الكبير عن التجارة الخارجيّة والتنمية الاقتصاديّة في العراق بتقرير ما يلي: «لقد بدأت العمليّة التدريجيّة لتوحيد العراق مع الاحتلال التركيّ الثالث لبغداد في 1831، وبدأت تملك زخمها مع ستينات القرن الماضي». (حسن 1965: 27).

ما الذي ميّز تلك الحقبة؟ وفي أيّ معنى يمكننا التحدّث عن «توحيد» بلد فيما هو لا يزال جزءاً من امبراطوريّة أكبر من ضمن سياق القرن التاسع عشر؟

منذ القرن الثامن عشر، شرعت بغداد، ببطء ولكنْ على نحو مؤكّد، تغدو المركز الإداريّ والاقتصاديّ لما سيصبح العراق الراهن. ففي وقت مبكر من القرن الثامن عشر، شنّ حسن باشا، والي بغداد، حملة ضدّ العشائر المتمرّدة في البصرة والتي كانت لا تزال ولاية مستقلّة عن بغداد. وفي 1715 شُنّت حملة ضدّ عشائر بلباس، شرقيّ أربيل، فضلاً عن أخرى ضدّ البابانيّين في كردستان. وفي 1708 أُرسل الجيش من بغداد إلى الحلّة، ومن ثمّ إلى البصرة، كي يُخضع تمرّدات عشائر المغامس والمنتفق، وتكلّلت الحملات بالنجاح. فقد أُطيح المغامس وعُيّن ناصر رسميّاً ككبير شيوخ المنتفق. وفي 1718 انطلقت حملة ضدّ عشائر بني لام الأقوياء على امتداد ضفاف دجلة الجنوبيّة انتهت بإلقاء القبض على شيخها وأسره. وقبل ذلك بثلاث سنوات، «كان لحملة أن استأصلت مجموعة من السرّاق اليزيديّين من سنجار». (لونغريغ 1925: 126).

من الواضح إذاً أنّ ولاة بغداد كانوا بالتدريج يتبوّأون المسؤوليّات التي تغطّي جميع أراضي العراق الحاليّ، وأنّ السلاطين العثمانيّين نووا تكليفهم بهذا الدور ما داموا يؤدّونه بكفاءة، وما دام أنّ أداء هذا الدور لن يعزّز مطامح أولئك الولاة ولن يستثير الدعوات إلى الاستقلال عن الامبراطوريّة. وتدعّم الدور التوكيديّ لبغداد وولاتها بتطوّرات اقتصاديّة كان الرئيسيّ بينها تلك المحاولات الناجحة لاستخدام نهر دجلة للملاحة وتسوية النزاعات الحدوديّة مع فارس.

لقد كان النظام السياسيّ العثمانيّ مدينيّاً أساساً، ولهذا نظر الرسميّون العثمانيّون، عموماً، بحذر إلى العشائر التي درجت على تحدّي السلطة من دون انقطاع. لكنّ هذه القوى العشائريّة كانت ممّا لا يُستغنى عنه، ذاك أنّ عشيرة تتحالف مع فارس، مثلاً، تستطيع أن تخلّ بتوازن القوى في مناطق النزاع الحدوديّة لمصلحة الأخيرة. لهذا بدا كسب السكّان، لا سيّما في المناطق الحدوديّة، ذا أهميّة قصوى للدولة. لكنّ هذا انطوى، في تلك الغضون، على تقديم تنازلات لم تكن ممكنة دائماً بسبب الهدف الطموح في انتزاع أكبر فائض ممكن من السكّان المحليّين.

لقد كان أوّل أوامر اليوم بالنسبة إلى الإدارة المملوكيّة في بغداد مركزة إدارة التجارة الداخليّة والعوائد الزراعيّة من خلال تحصيل أكثر كفاءة لضرائب المقاطعات. وهذا ما عنى، في بعض الحالات، التخلّص من بعض الفرائض غير العادلة، وإقامة عمليّات أنظم في تسجيل عائدات الأراضي. كذلك حصّن المماليك الأوائل طرق العبور ما بين المقاطعات العراقيّة وبنوا جسوراً وقنوات لتجديد المواصلات. (فتّاح 1997: 35).

إنّ الإقليم الذي تتعرّض الآن علاقته العضويّة بالعراق للاختبار هو كردستان، وهذا بسبب التركيب الإثنيّ المميّز لسكّانه ذوي الأكثريّة الكرديّة. ولقد قام كلوديوس جايمس ريتش، ممثّل شركة الهند الشرقيّة في بغداد في مطالع القرن التاسع عشر، برحلة إلى المنطقة قرابة الـ 1820 ووصف «تجارة السليمانيّة»، وهو ما سأستشهد به على نحو مطوّل إلى حدّ ما. فالسليمانيّة، المركز الثقافيّ لكردستان العراق حاليّاً، كانت يومذاك مدينة حديثة الإنشاء، وبالتالي فإنّ تجارتها لم تكن موسّعة، و… قد قامت أساساً، من خلال القوافل، مع المناطق التالية:

• تبريز في إيران اليوم: القافلة تذهب، على العموم، مرّة شهريّاً من دون أن يكون ذلك منتظماً. إنّها تأتي معها بالحرير الخام وما يُملأ به الحرير ومشتقّات ذلك. والحرير الخام غالباً ما يُصدّر إلى بغداد. أمّا موادّ الحشو فللاستخدام في كردستان. وما تعود به القافلة من السليمانيّة يتألّف أساساً من تمور وقهوة وموادّ أخرى من بغداد.

• أرضروم في تركيا اليوم: على الأقلّ تتّجه القافلة مرّة في السنة من السليمانيّة إلى أرضروم، حاملة التمور والقهوة ومشتقّاتهما، كما تحمل معها في عودتها الحديد والنحاس والبغال (لاحظ أنّ صادرات السليمانيّة تعود مصادرها إلى بغداد أساساً، وكذلك لاحظ الطابع غير المتواتر لهذه الصلة ع. خ).

• همدان وسنّا في إيران اليوم: مرّة في الشهر…

• كركوك في العراق اليوم: مع هذا المكان هناك تواصل مستمرّ… وكركوك، في الحقيقة، صالة بيع كافّة منتجات كردستان.

• الموصل في العراق اليوم: التواصل مع الموصل هو أيضاً كثيف.

• بغداد: التواصل بين السليمانيّة وهذا المكان دائم. الواردات من بغداد تمور وقهوة وموادّ للحشو هنديّة وأوروبيّة وملابس. الصادرات هي حبوب الكتّان وتبغ وأجبان وسَمنة وسمّاق وصمغ عربيّ وشحم حيوانيّ وصابون للاستعمال. (ريتش 1836: 305-306)

من الواضح أنّ السليمانيّة كانت في خضمّ عمليّة التحوّل إلى مدينة كرديّة كبرى، مع صلات بما سوف يصبح، بعد قرن، العراق، تفوق أيّة صلة بأيّ جزء داخل الامبراطوريّة العثمانيّة أو خارجها، بما في ذلك الأقسام التركيّة والإيرانيّة من كردستان. وكثرة القوافل التي كانت تتّجه إلى كلّ واحدة من تلك المدن، وطبيعة السلع التي كانت تُستورد وتُصدّر منها، وتركيبة أولئك الذين يسيطرون على تجارتها، كلّ ذلك شاهد على تلك العمليّة. والحقيقة أنّ التجارة مع تركيا وإيران كانت مسوقة أساساً بتزويد بغداد بالسلع وتزويد المستوردين بسلع البصرة وبغداد.

أمّا التجارة مع الجزء الشرقيّ ممّا هو اليوم كردستان العراق فكانت تتمّ، على ما رأينا، عبر كركوك التي يصفها ريتش بـ «صالة البيع التي تُحمل إليها كافّة منتجات هذا القسم من كردستان». إلاّ أنّ أولئك الذين كانوا يتولّون المتاجرة لم يكونوا «الأكراد أنفسهم، بل… السكّان المحليّون لكركوك، الذين يأتون إلى هنا (أي السليمانية) لهذا الغرض، ويقدّمون دفعاتهم الماليّة الأولى لمزارعي الأرزّ والعسل» (ريتش 1836: 142). وطالما أنّ كركوك كانت محكومة عهدذاك بالتركمان، وهم عٍرق تركيّ شكّل، إبّان الحقبة العثمانيّة، ما هو كردستان العراق اليوم، فإنّ ريتش ربّما كان يحيل إلى التركمان بوصفهم السكّان المحليّين غير الأكراد في كركوك. لكنْ أين كانت وجهة تلك المنتجات التي ينتجها مزارعون أكراد وتتلقى تقديمات في المال؟ «لقد كانت تُصدّر إلى كركوك ومن ثمّ إلى الموصل». (ريتش: 142).

ويبدو أنّ تجّاراً آخرين من مناطق بعيدة، كمثل بغداد، كانوا هناك أيضاً. فهناك كان «مضارب بغداديّ يعمل في قصّ خشب الأشجار في جبال كردستان»، وأهميّة مثل هذا الخشب لحياة بغداد هي ما يمكن تبيّنه من خلال المعطى التالي:

كان الخشب يُقصّ ويُنظّف ويُترك حتّى ينشف. وبعد عام أو عامين، وفي أثناء ارتفاع المياه، يُحمل إلى أقرب محطّة حيث يُدفع به إلى نهر ديالى… فحين يصل إلى ديالى، يُترك لمصيره بحيث يطفو جسراً بين بغداد وطوق كسرى (15 كيلومتراً جنوب بغداد الراهنة)… وبالطبع فبهذه الطريقة يتبدّد جزء كبير منه. إلاّ أنّ الخشب يبقى بالتأكيد عزيزاً جدّاً على بغداد، بحيث من المؤكّد أن يُجنى منه ربح وفير. (ريتش: 104-105).

ولتبيان أوجه أخرى من عمليّة الدمج هذه والتي عزّزتها الجغرافيا، والأهمّ في ذلك الملاحة البحريّة، فإنّ «شجر الحور، أو الكواك، كان يؤتى به من الجزيرة والعمادية، كما يؤتى بالصفصاف، أو السخويت، من الفرات فوق عانة» (ريتش: 105). وفي الحقيقة كان التمايز بين الجبال التي يعيش فيها الأكراد في الجزء العراقيّ من كردستان، والسهول التي يعيش فيها الأكراد في سنّا (هي اليوم في إيران) واضحاً جدّاً حتّى في تلك الفترة المبكرة، بحيث أنّ الأوّلين درجوا على اعتبار الأخيرين عِرقاً مختلفاً وأدنى. فقد شكّلت جبال طوروس وزغروس «الحدود بين أراضي السليمانيّة وأراضي سنّا، وهو مقاطعة من كردستان خاضع لحكومة فارس (ريتش: هـ61). ولم يكن اختلاف الحكومات التي عاشت في ظلّها أجزاء مختلفة من الشعب الكرديّ سبب التمايز الوحيد داخل هذا الشعب، بل كانت هناك أيضاً الطبيعة الاجتماعيّة – الاقتصاديّة للنشاطات التي استدعاها العيش في السهول، والهشاشة حيال عديد السلطات المركزيّة، وهي ما حمل إخوانهم الذين يعيشون في المناطق الجبليّة على إطلاق تسمية «كوران» عليهم. و«هذا الاسم الأخير، الذي يعيّن الطائفة الحقيقيّة لسنّا، إنّما استخدمه أهل القبائل كمصطلح مهين» (ريتش: 152-153). مع هذا فاندماج كردستان الإداريّ والسياسيّ ببغداد، وهو الذي قوّته تلك العوامل الاقتصاديّة، مكّنته الحظوظ المتغيّرة للموصل كمدينة وكعاصمة ولاية.

الموصل: دولة – مدينة صناعيّة مجهَضة

بكثير من المعاني المهمّة، جاء تطوّر الموصل يذكّر بتطوّر الدول – المدن الإيطاليّة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. فالموصل كانت تحوّل ريفها المجاور سوقاً محلّيّة لها. وكان إنتاج عمقها الداخليّ، المؤلّف من بلدات داخليّة وقرى زراعيّة ومربّي حيوانات هم أنصاف بدو، يلبّي حاجات نظامها الماركنتيليّ. وكان النظام السائد هذا يتشكّل من تجّار أكراد، ومسيحيّين تحوّلوا إلى الإسلام خدمةً منهم للعثمانيّين (عائلة الجليلي)، وعائلات مسلمة عربيّة وتقليديّة كآل العمري.

وبحسب لونغريغ، تاجرت الموصل في القرن السابع عشر في «المنتوج الكرديّ المتّجه إلى ديار بكر وحلب، في الحنطة وخشب الأشجار المتّجه عبر دجلة نزولاً إلى بغداد، وفي إطعام أبناء القبائل العربيّة وجزئيّاً إلباسهم» (لونغريغ: 96). وكان لعديد الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة أن قادت إلى تدهور موقع الموصل، وذلك قبل وقت طويل على ظهور النتائج المترتّبة على المتاجرة الأوروبيّة مع العراق على الحِرَف المحلّيّة. فخلال حكم حسن باشا في بغداد، «خطت مقاطعة شهرزور… خطوة مهمّة في التقدّم من باشا بغداد بطلب أن يرسل لها حاكماً. وقد فُرز متسلّم – وكانت المرّة الأولى التي تعترف فيها كركوك أو الموصل بسلطة بغداد كشيء أكثر من مجرّد جار متساو» (لونغريغ: 94، الحروف المائلة مضافة).

لقد تطلّبت المسافة التي تفصل الموصل عن الساحل أكلافاً تسبّبت بإحباط التجارة مع أوروبا على نطاق كبير، وهو ما استمرّ حتّى بناء الطرق وسكك الحديد. فالطرقات للناقلات المدولبة ما بين الموصل والساحل لم توجد في القرن التاسع عشر، كما لم تصل سكّة الحديد إلى المدينة إلاّ بعد الحرب العالميّة الأولى. أمّا التجارة المحمولة مائيّاً عبر نهر الفرات فكانت مكلفة بسبب وعورة هذا النهر، وبعد إنجاز قناة السويس في 1867، كان الكثير من المتاجرة مع أوروبا يُرسَل من الموصل إلى الخليج لكي يعاد شحنه. لقد كانت المواصلات ما بين الخليج أو بغداد وبين الموصل أصعب وأعلى كلفة طالما أنّ الملاحة البخاريّة عبر دجلة لم تبلغ الموصل إلاّ مع نهاية القرن. (شيلدز 1991: 31).

وخلال القرن التاسع عشر، وفّر الانتاج الزراعيّ للموصل الغذاء والموادّ الخام للسكّان الريفيّين، كما عادت فوائضه على بغداد والبصرة وديار بكر. وقد سهّل استخدام نهر دجلة تصدير منتجات الموصل التي كانت تُشحن عبر النهر باستخدام العوّامة التقليديّة، أو الكلك. وقادت المفاعيل الثوريّة لافتتاح قناة السويس إلى إعادة تحويل لمعظم طرق التجارة العراقيّة من المتوسّط إلى الخليج مروراً ببغداد. وفي 1897، مُني تجّار الموصل الذين استوردوا حاجيّاتهم من أوروبا، عبر حلب أو اسطنبول، بخسائر تُقدّر بـ 3% من رأسمالهم المستَثمَر لأنّهم دفعوا أسعاراً أعلى للشحن والمواصلات والتأمين (حسن: 264). ويوجز تقرير قنصليّ بريطانيّ في 1907 الوضع المتغيّر بما يلي: لقد اعتادت الموصل أن تستورد جميع حاجات الإقليم الشماليّ من أوروبا، إمّا مباشرة أو عبر طريق حلب. لكنْ بعد 1869، وجد تجّار الموصل أنّ من الأربح لهم أن يستوردوا موادّهم النادرة نسبيّاً عبر القاهرة أساساً، وبدرجة أقلّ عبر حلب. ومع العقد الأوّل من القرن العشرين، درج تجّار الموصل الأغنى والأنشط على عبور طريق يستغرق ثمانية أيّام إلى بغداد ومنها، مرّةً في السنة على الأقلّ، للحصول على مؤنهم من هاتين المدينتين». (الاستشهاد من حسن: هـ 262).

لم تكن مفاعيل الدمج المترتّبة على تغيّر طرق التجارة شروطاً كافية بذاتها لكي تخسر الموصل استقلاليّتها. ففي ظلّ ظروف مختلفة كان يمكن لمثل هذا أن يفضي إمّا إلى تعزيز موقع الولاية الأشدّ تصنيعاً قياساً ببغداد والبصرة، أو إلى تحوّل الموصل مركزاً للفضاء الوطنيّ الناشىء حديثاً. والحقّ أنّ نهاية الوضعيّة المستقلّة للموصل جاءت مترافقة مع تطوّرات لاحقة في بغداد ذاتها. فسلطات مماليك بغداد كانت قد وصلت إلى ذروتها مع داوود باشا، الذي حاول أن يبني لنفسه قاعدة موحّدة ومنفصلة في العراق. وقد حاول العثمانيّون عزله وإعادة إنشاء حكم تركيّ مباشر في العراق، وهو ما بدا حاجة بالغة الإلحاح ما دام أنّ جيوش المماليك المصريّين بلغت دمشق وهدّدت السلطة العثمانيّة. أمّا الموصل، بروابطها القويّة مع حلب وقابليّتها الجغرافيّة للعطب حيال التهديدات العسكريّة، فجعلها الوضع العسكريّ تخسر استقلاليّتها (نظمي 1983: 96). وفي 1831 شُنّت حملة بقيادة التركيّ علي رضا باشا انتهت بإطاحة الحكم المملوكيّ في بغداد دمويّاً وبتسمية التركيّ محمّد إنجا بيرقدار باشا على الموصل.

كذلك ففي القرن التاسع عشر خسرت الموصل ما كان يميّزها عن باقي العراق، وتحديداً أنّها كانت محكومة بعائلات موصليّة وليس بأتراك أو غير موصليّين مرسلين من اسطنبول، على ما كانته حال بغداد والبصرة. ففي عشرينات ذاك القرن تمرّد الموصليّون ضدّ واليهم يحيى باشا الجليلي لأنّ احتكاره تجارة الحبوب تسبّب بارتفاع أسعارها. وكان أولئك الذين قادوا التمرّد من عائلة العمري المنافسة. أمّا أهميّة تلك الحادثة ففي أنّ يحيى باشا اضطرّ إلى الفرار إلى بغداد بحثاً عن دعم واليها داوود باشا الذي أعانه فأعيد إلى منصبه. وعلى أيّة حال فبعد وقت قصير أطاح الموصليّون يحيى ثانيةً وعيّن الباب العالي قاسم العمري والياً على الموصل. (نوّار 1968: 82).

وفي دراستها حول اندماج الموصل، تستخلص د. خوري أنّه: ضمن السياق العراقيّ فإنّ استثنائيّة وضع الموصل هي ما يمكن موازنته مع فهم واضح للتحوّلات الإقليميّة لتلك المرحلة. فقد شهد القرن التاسع عشر تتويجاً لإعادة التحالفات الإقليميّة في مراتبيّة المراكز التجاريّة والإداريّة في العراق والتي بدأت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. فالصعود التجاريّ والإداريّ لبغداد إنّما سهّله عدد من العوامل. ذاك أنّ توسّع التجارة مع بريطانيا أتاح لحكّام بغداد المماليك أن يبنوا أُسَرهم العسكريّة على احتكارهم الفواتير التجاريّة. لقد أصبحت الجماعة الماركنتيليّة الموصليّة متزايدة الاندراج في المتاجرة مع الجنوب، وبات لها عملاؤها في البصرة وبغداد. كذلك تعزّزت الروابط الاقتصاديّة ببغداد بسبب تورّط بغداد في سياسات الموصل في النصف الثاني من القرن، وهي وجهة كثيراً ما سهّلها الانقسام بين بيتي الجليلي. وقد وجدت المخطّطات الجشعة لبغداد تتويجها في العقود الأولى من القرن التاسع عشر في خلع حاكم من آل الجليلي على أيدي أتباع حاكم بغداد. أبعد من هذا، مع النصف الثاني من القرن الثامن عشر، حبّذت التقسيمات الإداريّة للعراق بغداد التي مُنحت السلطة على مناطق تمتدّ شمالاً حتّى ماردين. وهكذا لم ينجم الموقع المسيطر لبغداد عن إصلاحات التنظيمات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل إنّ الإجراءات الإداريّة لتلك الإصلاحات بنيت على إعادة اصطفاف مناطقيّة بدأت في القرن الثامن عشر. (خوري 1997: 215، الحروف المائلة والمنفَّرة مضافة).

لقد تجلّى بوضوح ميل الولايات العراقيّة الثلاث لأن تتجمّع معاً حينما كانت قوّات علي رضا باشا تُحكم الحصار على بغداد لفرض الاستسلام على داوود باشا ونائبه صالح:

«… (في) الرسائل التي غادرت المدينة (بغداد) إلى اسطنبول: في مقابل الإنعام بعراق موحّد على صالح أو داوود، عرض أعيان بغداد أن يزيدوا بكثير، وأن يدفعوا بإخلاص، الجزية السنويّة، فضلاً عن تعويض جميع أكلاف جيش علي باشا». (لونغريغ: 270، الحروف المنفَّرة مضافة). وعرضهم دفع كلّ هذه الكمّيّات الضخمة من المال يُظهر بوضوح المنافع التي أحرزها الأعيان من التوحيد الافتراضيّ للعراق في ظلّ المماليك، وهذا فضلاً عن صعود حسّ بالانتماء، أقلّه بين أعيان بغداد، لبلد يُسمّى عراق.

ويبدو أنّ اسم العراق كان واسع الاستخدام في عهد داوود باشا، وهو الآن تمّ مدّہ ليغطّي لا العراق العربيّ فحسب، بل كردستان أيضاً. فقد كتب الشيخ عثمان بن سند في أواخر القرن التاسع عشر ملاحظاً أنّه «في السنوات الأخيرة من عهد داوود باشا، كلّ أرض العراق أطاعته: بأهل مدنها وبدوها، بكردها وعجمها». (المدني، هـ مـ: 97، الحروف المنفَّرة والمائلة مضافة).

ومع أنّ السلطان رفض الموافقة على عريضة الأعيان، فالتطوّرات اللاحقة لم تفض إلى صعود اتّجاهات معارضة. ففي ظلّ حكم بيرقدار، لعبت الموصل أدواراً مهمّة في اجتثاث الإمارات الكرديّة شبه المستقلّة لسوران وبهدينان وبوتان. وما إنّ تمّ إنجاز تلك المهامّ، حتّى باتت سلطة والي الموصل تقتصر على مدينة الموصل نفسها ومنطقة صغيرة تحيط بها (نوّار: 9)، أو، على ما وصف لونغريغ الوضع: … المناطق المحيطة بجوانب الموصل بدت أقلّ تأثّراً بها ممّا ببغداد، أكان عقاباً أم امتيازاً. البعض قد يتعامل بقلّة اكتراث مع الاثنتين، لكنّ الكلّ، ومنهم الجليلي نفسه، كان عليهم أن يروا في بغداد مصدر تحكيمهم الأخير. (لونغريغ: 209-210).

في 1850 حُوّلت الموصل من ولاية مستقلّة شكليّاً إلى سنجق موصول ببغداد. وفي 1862 أصبحت البصرة، بدورها، متصرفيّة تتبع بغداد، مع أنّها استعادت لاحقاً موقعها السابق كولاية لفترة قصيرة. والحقيقة أنّ المكانة الإداريّة للبصرة اعتمدت على إنجازاتها في حقل التجارة البحريّة، وكذلك على التهديدات العسكريّة الداخليّة والخارجيّة التي كانت تواجهها بين الحين والآخر. لقد استمرّت الموصل سنجقاً يتبع بغداد حتّى 1879 حين أعيد تشكيلها كولاية مستقلّة تتبع الباب العالي مباشرة، وهكذا بقيت حتّى سقوط الامبراطوريّة العثمانيّة بعد 39 سنة. ومجدّداً أصبحت البصرة ولاية مستقلّة خلال حقبة 1875–1880، ثمّ سنجقاً تابعاً لبغداد إبّان حقبة 1880–1884، وأخيراً عادت ولاية من 1884 إلى نهاية العثمانيّين. وهذه التغييرات لم يكن لها، على ما يبدو، سوى آثار طفيفة على الدور السياسيّ والإداريّ لبغداد. وعلى أيّة حال فحظوظ الأخيرة تأرجحت بحدّة تبعاً لأسباب اجتماعيّة واقتصاديّة أخرى. فخلال حملة علي رضا باشا لإزاحة داوود باشا وبعدها، أدّى فيضان دجلة الهائل، ثمّ الطاعون، إلى انخفاض حادّ في عدد سكّان بغداد، من نحو 150 ألفاً إلى 50 ألفاً فحسب. ولم يتسنّ لبغداد أن تستعيد عددها السكّانيّ السابق إلاّ مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان لافتتاح خطّ بحريّ للملاحة عبر دجلة إلى البصرة، في أربعينات القرن التاسع عشر، أن قلّص دور بغداد كمركز لقوافل الصحراء فيما شرع كبار التجّار يغادرونها إلى البصرة التي أصبحت، بعد افتتاح قناة السويس، الميناء البحريّ الكبير الأوحد على الخليج الفارسيّ، حتّى إنّ فارس نفسها اعتمدت عليه لجزء مهمّ من تجارتها.

على أيّة حال فإنّ الموقع الإداريّ لبغداد لم يتأثّر بهذه التغيّرات الكبرى. وهذا ما يمكننا أن نراه في اختيارها مركزاً للجيش السادس في الامبراطوريّة العثمانيّة الذي تمّ تشكيله في 1848. فقد امتدّت سلطة هذا الجيش على مدى الأراضي العراقيّة كلّها بما فيها ولاية الموصل التي كانت حينئذ مستقلّة عن بغداد. أمّا سلطة الجيش الخامس فاقتصرت على سوريّا الراهنة، أي ولايتي دمشق وحلب. (النجّار 1991: 81).

وفي ما خصّ ولاية شهرزور، ومركزها كركوك، فاختفت قبل فترة طويلة على تلك التطوّرات، أي مع نهاية القرن الثامن عشر. ففي هذه الحقبة:

على بعد أسابيع عدّة سيراً من شطّ العرب، تقع البلاد الجبليّة للبابانيّين الذين فكّروا في الانضمام إلى حاكم البصرة في رابطة تمرّد. ما من حالة من حالات العلاقات الوثيقة تحدث بين شهرزور وبين الميناء (البصرة)، لكنْ مع بغداد هناك الآن أوثق الروابط. فالنبلاء الأكراد الشبّان عاشوا اعتياديّاً في بغداد، ووجدوا مادّيّاتهم تعمّق وتوسّع أحقادهم. فغِناهم وما في حوزتهم جعلاهم مُراقَبين من الوالي ووزرائه، وفي المكائد بينهم، أمل كلّ منهم أن يضاعف أهدافه أو أهداف رجال عشيرته. لكنْ ينبغي أن يكون هناك نجل ذو حظوة رفيعة في بغداد أو كرمنشاه حتّى يشعر الحاكم البابانيّ بالأمان. وبالنسبة إلى حاكم العراق، فإنّ عدم الثقة بإنكشاريّيه والمضيّ في تدريب جنوده الجورجيّين الجدد جعلا من جنود شهرزور خدمة كبرى له. فبأعدادهم التي تبلغ الآلاف، كانوا يستجيبون لدعوته كي يُخمدوا تمرّداً أو يُخضعوا خارجاً عن القانون. (لونغريغ: 206-207).

وقد اتّخذت صناعة الحدود الشماليّة للعراق الحديث شكلها الأخير حينما فُصلت ماردين عن ولاية بغداد لتُضمّ، في 1835، إلى ولاية ديار بكر.

نهاية الحكم الذاتيّ الشيعي

استُكملت عمليّة دمج العراق الحاليّ مع إخضاع الإقليمين المميّزين الآخرين، أي من جهة، المدينتين الشيعيّتين المقدّستين النجف وكربلاء، ومن جهة أخرى، مقاطعة الدليم الغربيّة التي تحاذي سوريّا الراهنة. فكربلاء والنجف احتلّتا، ولا تزالان، موقعاً خاصّاً في صناعة العراق الحديث. فكونهما المدينتين الأكثر قداسة للمسلمين الشيعة (بعد مكّة والمدينة والقدس التي يعتبرها المسلمون كافّة، وبمعزل عن مذاهبهم، مدناً مقدّسة)، فإنّ حظوظهما، في معظم الأحيان، ذهبت يداً بيد مع تلك الشيعيّة في ظلّ الامبراطوريّة العثمانيّة السنّيّة، ومع علاقات تلك الأخيرة مع جوارها في فارس التي تحوّلت سلالتها الحاكمة إلى الشيعيّة إبّان القرن السادس عشر.

فمنذ عشرينات القرن التاسع عشر، بدأت كربلاء تعمل، بحسب التقارير البريطانيّة، كـ «جمهوريّة شبه غريبة تحكم ذاتها بذاتها» (نوّار: 88، ونقّاش 1994: 22). ولم تنجم خصوصيّة كربلاء والنجف عن طابعهما الشيعيّ المميّز فحسب، بل أيضاً بسبب موقعهما على حواشي الصحراء، ما مكّنهما من العمل كسوقين محلّيّتين كبريين للقبائل البدويّة. وفي مطالع القرن التاسع عشر:

ظهرت النجف وكربلاء… كبلدات – أسواق رئيسة في الصحراء، فتقلّدت النجف دور المركز الضخم لتجارة الصحراء منذ القرن التاسع عشر… ومع القرن العشرين كانت النجف قد طغت على كربلاء في أهميّتها كبلدة – سوق صحراويّة. وفضلاً عن موقعها هذا لبيع الحبوب والأرزّ والتمور والثياب، كانت النجف مركزاً لتجميع الصوف وجلود الأغنام والجِمال. وهي اجتذبت قبائل الجزيرة العربيّة، وأيضاً تلك التي من الصحراء السوريّة كتلك الهائمة من عَنزة… فكربلاء اهتمّت أساساً بتأمين حاجات الهائمين من شمّر والعمارة، ومربّي المواشي من بني حسن. وأدّى التفاعل الاقتصاديّ المتنامي بين النجف وكربلاء والقبائل، لا سيّما خلال القرن التاسع عشر، إلى تمكين الدعاة الآتين من هاتين المدينتين من نشر الإسلام الشيعيّ بين رجال القبائل بفعاليّة أكبر كثيراً ممّا في حقب أبكر.(نقّاش: 30).

ومع تعرّض السلطة المملوكيّة للضعف في حوالى عشرينات القرن التاسع عشر، تخلّت كربلاء حتّى عن الذكر الشكليّ لاسم السلطان في صلوات الجمعة، وهو تقليد اعتُبر علامة على الخضوع للسلطة المركزيّة العثمانيّة. والحقّ أنّ الرابط الوحيد الذي ربط كربلاء إلى الدولة كان دفع الضريبة السنويّة. لكنْ حتّى هذا لم يكن يُدفع من دون ضغوط حكوميّة. (نوّار: 88).

وحتّى 1861 ظلّ الحكم الفعليّ للنجف في أيدي حرّاس ضريح الإمام عليّ. أمّا البلدات الأخرى في منطقة الفرات الأوسط فحكمها أيضاً المشايخ والأعيان المحليّون. فالديوانيّة حكمها الشيخ خزعل، فيما كانت الحلّة تحت حكم شبيب آغا. ولم يمض أكثر من 12 سنة على اجتثاث سلطة المماليك حتّى طلب والي بغداد، نجيب باشا، إذناً خاصّاً من الباب العالي كي يحاصر كربلاء لشهر ويقصفها بالمدفعيّة. هكذا استسلمت البلدة في النهاية وتلتها النجف التي لاقت مصيراً أقلّ وحشيّة. وتقدّم نجيب باشا بعد ذاك ليعيد تنظيم إدارة البلدتين ويعيّن إماماً وقاضياً لكلّ منهما، فضلاً عن إحاطة كربلاء بقوّة عسكريّة. (النجّار: 40).

ترويض الغرب البرّيّ

كانت الدليم إحدى أغنى القبائل في عراق القرن التاسع عشر. لكنْ إبّان عمليّة توطينها عانت عديد الانشقاقات والانقسامات. فالأراضي التي سيطرت عليها الدليم امتدّت إلى دير الزور غرباً، وبهذا كانت بعيدة عن قبضة الولاة في بغداد والموصل أو حلب. فلم يستطع والي حلب جمع الضرائب من تلك القبيلة دون إرساله حملات عسكريّة لتحقيق مطالبه. على أيّة حال فمعظم علاقات الدليم كانت مع والي بغداد (نوّار: 158)، وحينما بدأ الدليميّون يستقرّون، خلال الثلث الثالث من القرن التاسع عشر، امتدّت أراضيهم من عانة إلى الفلّوجة (والاثنتان في العراق اليوم)، بينما قبيلة جبور المجاورة، والتي عدّت 5370 خيمة و 10810 أفراد، بمن فيهم 1525 مقاتلاً، كانت جيّدة الصلة ببغداد. ذاك أنّ عائلات الجبوري، التي استقرّت في تكريت ودير الزور، لعبت دوراً مهمّاً في تزويد العاصمة بالفحم. ومن وجهة نظر إداريّة، ضمّت ولاية بغداد قضاء عانة في الغرب مع الحدود الشمال الغربيّة التي تعبر الفرات وتمرّ فوق بلدة القائم قليلاً.

لقد ضمّت ولاية حلب قضاء الرقّة شرقاً والذي كان أيضاً آخر بلداتها إلى الجنوب. وممتدّاً بين القائم والرقّة، دون أن ينتمي لأيّ منهما، كان سنجق دير الزور الذي كان مبعثر السكّان على بلدات وقرى صغرى وبضع قبائل بدويّة، وقد أعطته السلطات العثمانيّة وضعيّة مستقلّة. (تاوبر 1991: 324-325).

على أيّة حال فالوضعيّة الإداريّة والذاتيّة لدير الزور لم تكن واضحة تماماً. ذاك أنّ الحدود الغربيّة لولاية بغداد شملت قضاء عانة بينما شملت حدودها الشماليّة الغربيّة مساحة تعبر الفرات شمال القائم. أمّا بالنسبة إلى ولاية حلب، فامتدّت حدودها الشرقيّة إلى الرقّة، وبين الرقّة والقائم يقع سنجق دير الزور الذي اعتبره العثمانيّون مستقلاًّ عن كلّ من حلب وبغداد (تاوبر: 36). أمّا الفرات الذي يفصل البوكمال على الضفّة الغربيّة عن عانة على ضفّته الشرقيّة، فاعتمده الرحّالة، أواخر القرن التاسع عشر، كخطّ حدوديّ بين سوريّا والعراق (بلنت 1878: 110). وأمّا الوضعيّة النهائيّة لدير الزور فقُرّرت إبّان السنوات الأربع التي تلت نهاية الحرب العالميّة الأولى. ذاك أنّ الصراعات المحلّيّة كان لها دور في تقرير مصير دير الزور يفوق دور القوى الاستعماريّة لذاك الزمن.

فعندما حكمت سوريّا، لفترة قصيرة جدّاً، حكومة «الثورة العربيّة» في ظلّ الملك فيصل الأوّل، أنشأت إدارتها في حلب. وقد قدّم سكّان دير الزور عريضة للشريف ناصر يعبّرون فيها عن رغبتهم في أن يُعتبروا جزءاً من سوريّا. هكذا أُرسلت إلى هناك قوّة عسكريّة بقيادة علي رضا العسكريّ كي تحكم دير الزور بالنيابة عن حكومة الملك فيصل. وبعد أشهر قليلة أدّت النزاعات بين الحكومة المحلّيّة والسكّان إلى توجيه مشايخ دير الزور رسالة سرّيّة، في تشرين الثاني 1918، إلى السلطات البريطانيّة طالبة منها أن تُلحق منطقتها بالعراق الذي كان تحت الانتداب البريطانيّ آنذاك، وأن تعيّن حاكماً بريطانيّاً لدير الزور. أمّا أولئك الذين وقّعوا الرسالة فشملوا رجالاً من البوكمال، البلدة الواقعة على الجانب السوريّ من الحدود الراهنة للعراق، علماً بأنّ هذه البلدة كانت أصلاً قد اشتُملت بالأراضي العراقيّة حينذاك.

في تلك الغضون عبّر اليزيديّون الذين عاشوا في مناطق سنجار، شمال شرق دير الزور، وجزء من ولاية الموصل السابقة، عن مخاوفهم من الحكومة العربيّة في حلب. وفي 14 كانون الثاني 1919، دخلت القوّات البريطانيّة دير الزور فاستقبلها السكّان المحلّيّون بحماسة بينما انسحبت قوّات الحكومة العربيّة من حلب. إلاّ أنّ من لم يرحّب بضمّ دير الزور إلى العراق فكان حاكم العراق البريطانيّ أرنولد ويلسون، وذلك بسبب بُعدها وصعوبة السيطرة عليها من بغداد. وأثناء التفاوض الفرنسيّ – البريطانيّ في أيّار 1919 لتقرير أوضاع المناطق المعنيّة التي تقبع في ظلّ كلّ من الدولتين، كان رأي ويلسون تجنّب تقسيم القبائل على بلدين، لأنّ هذا يخلق سلسلة مشاكل. وتبعاً لذلك، إذا كانت دير الزور ستُشمَل بالعراق فهذا ما ينبغي أن يطال المنطقة برمّتها وصولاً إلى الرقّة. فإن لم يكن ذلك، صار على الفرنسيّين أن يشملوا دير الزور بسوريّا بحيث يغدو آخر موقع بريطانيّ في البوكمال. وجاءت الاتّفاقيّة التي تمّ التوصّل إليها متجاوبة مع الاقتراح الأخير، بحيث بات على الخطّ الحدوديّ أن يمرّ عبر نهر الخابور. وتكمن السخرية في أنّ الحكومة العربيّة، في ظلّ نفوذ جمعيّة «العهد» القوميّة، من قاد الحملة لإبقاء دير الزور والبوكمال خارج العراق. ففي أواسط 1919، صاغ مندوبو الجمعيّة الذين التقوا لجنة كينغ كراين مطالبهم على أنّها أولاً «استقلال مطلق للعراق الذي يضم ولايات ديار بكر والموصل وبغداد والبصرة ودير الزور» (تاوبر: 379). بيد أنّ الجمعيّة ما إن حظيت بموقع قياديّ في حكومة سوريّا حتّى تغيّرت مطالبها تغيّراً كبيراً، فصارت تقضي بعدم تجزئة القبائل العربيّة على جانبي الحدود. هكذا لم يعد الشعار الجديد أن تكون دير الزور والبوكمال فحسب جزءاً من سوريّا، بل أن يُضمّ لها ايضاً وادي حوران في الجنوب الشرقيّ من عانة، وعانة نفسها. لكنّ القوميّين العرب الذين كانوا آنذاك يحكمون سوريّا، لم يتخيّلوا أنّ الفرنسيّين سيطيحونهم في أقلّ من عامين، وأنّهم سينتقلون ليحكموا العراق في ظلّ حماية بريطانيّة.

وتكمن سخرية ثانية في حقيقة أنّ مشايخ القبائل التي على الجانب العراقيّ من الحدود، والذين تعوّدوا على تلقّي دفوعات ماليّة منتظمة من السلطات البريطانيّة، كانوا معادين لإلحاق دير الزور بالعراق: ذاك أنّ التنافس بين الدليميّين في ظلّ مشيخة علي السليمان وعنِزة في ظلّ فهد بن هذّال مع القبائل السوريّة جعل الأوّلين يقاومون جهود مولود مخلص، حاكم دير الزور، لإدراجها ضمن أراضي العراق. على هذا النحو تمّت الموافقة على ترسيم خطّ الحدود بين سوريّا والعراق في أيّار 1920 بحيث مرّ بين البوكمال والقائم. وجاء هذا الخطّ الذي هو خطّ الحدود الحاليّة بين الدولتين «مماثلاً تقريباً لحدود سنجق دير الزور الشرقيّة قبل الحرب». (تاوبر: 378).

البصرة: الخنق الحمائيّ

كانت ولايتا بغداد والبصرة تتقاربان تحت تأثير التجارة الخارجيّة، لا سيّما بعد تحويل الطرق الثوريّ لمعظم التجارة، بعد افتتاح قناة السويس في 1869. وإذ كانت البصرة تتحوّل ميناء كبيراً يفضي إلى ممرّ شطّ العرب المائيّ، ومن هناك إلى الخليج الفارسيّ، صار من الهموم الملحّة لولاة بغداد الدفاع عن أمنها وعن سلامة خطّ النقل البحريّ ما بينها وبين بغداد عبر دجلة. أمّا نجاح ولاة بغداد في إنجاز هذه المهمّة فيمكن استشفافه من المادّة التالية لستيفن لونغريغ:

قدّم كبار زعماء القبائل الكبرى في العراق الأوسط خضوعهم الشخصيّ (لبلاط سليمان الكبير، والي بغداد) في خريف 1780. بعضهم وُضعوا في وظائف مشرّفة… بين قبائل الفرات الأعلى وديالى ودجلة الأوسط، القليل مسجّل في تلك السنوات. فلحقبة طويلة لم يكن ضروريّاً توجيه حملات ضدّهم، وكان تجّار البصرة (كما ذكر العميل) سعداء بأن يحتملوا تعاظم الأكلاف والتأخير المترتّب عن طريق دجلة لتوفيره أمناً أكبر. (لونغريغ: 201-202).

على أيّة حال، أفضى هذا النموّ في موقع البصرة إلى رسم خطّ أمرٍ واقع يكون الحدود الجنوبيّة الشرقيّة للعراق مع فارس، بحيث أنّ إقليماً عربيّاً (عربستان، الذي يُسمّى اليوم خوزستان) أصبح جزءاً من إيران الراهنة. وكان لحروب عدّة أن دفعت العثمانيّين إلى التخلّي النهائيّ عن عربستان لفارس في أوائل القرن التاسع عشر. بيد أنّ عرباً كثيرين احتفظوا بشعور بالمرارة حيال ما رأوه مؤامرة هدفها إضاعة منطقتهم. فحينما رصد الحيدري، وهو مؤرّخ عراقيّ في القرن التاسع عشر، حدود العراق، كان لديه التالي يقوله عن البلدات الكبرى لعربستان:

المحمّرة ظلّت من أملاك الدولة العليّة حتّى أيّام داوود باشا، لأنّها من ضمن سواد العراق الذي هو ملك الدولة العليّة. وسواد العراق (يمتدّ) من عبدان إلى حديثة الموصل… عبدان هي الحدّ، لكنّها كانت تنتمي للدولة العليّة. (الحيدري 1872: 118)[1].

ولانفصال عربستان وما سوف يصبح إمارات الخليج علاقة قويّة بالسياسات العثمانيّة في فرضها ضرائب ورسوماً باهظة على التجارة. فهذا ما شكّل مصدراً لكساد الميناء العثمانيّ الرئيس المفضي إلى الخليج: البصرة، فيما شجّع صعود ظاهرة «الموانئ الحرّة» حيث لم تستطع السلطات العثمانيّة فرض إرادتها.

لقد حكمت عربستان قبيلة كعب القويّة التي ظلّ شيوخها يدفعون الرسوم للدولتين العثمانيّة والفارسيّة معاً، على امتداد القرن التاسع عشر، بسبب الطبيعة المختلطة للمنطقة الحدوديّة ولاسترضاء الدولتين (فتّاح: 199-200). ومع القرن الثامن عشر، كان الأسطول العثمانيّ المتمركز في البصرة بالكاد يستطيع الدفاع عن نفسه حيال القبائل ذات النشاط البحريّ في الخليج وبحر العرب، والتي احتفظ بعضها (كمثل كعب) بالسيادة، على مدى القرن، على مياه الخليج. كذلك لم يتأدّ عن الحملات البرّيّة العثمانيّة أيّ أثر ملحوظ على التجمّعات القَبَليّة القويّة كالمنتفق في العراق الأسفل. (فتّاح: 32).

وفي 1812 حاولت قبيلة كعب أن تحسّن وضعيّة بلدتها التي يقيم فيها الميناء، وهي المحمّرة (اليوم خورمشهر) الواقعة على الضفّة الشرقيّة لممرّ شطّ العرب المائيّ بجعلها ميناءً ينافس البصرة. وهذا ما قاد ولاة بغداد إلى الاعتماد على الشيوخ الأقوياء لتجمّع المنتفق بهدف إضعاف كعب. لكنْ بما أنّ سلطات بغداد احتفظت دائماً بشكوكها حيال شيوخ المنتفق، ظهرت الحاجة إلى إيجاد وجه أشدّ تعاوناً مع والي بغداد كي يقود التجمّع القبليّ. وقد أقدم داوود باشا، والي بغداد القويّ، على خطوة غير مسبوقة هي عزل حمود الثامر من المشيخة وإعطائها لعقيل السعدون. هكذا نشأ ائتلاف ثلاثيّ بين حمود الثامر وقبيلة كعب وسلطان مسقط (نوّار: 25).

لم تتوقّف محاولات كعب انتهازَ كلّ فرصة لإضعاف البصرة، كما لم تتوقّف السياسة العثمانيّة في العقوبات الهادفة إلى خنق المحمّرة التي نُظر إليها كأكثر منافسي البصرة في الخليج خطورة. ويلقي المقتطف التالي للحيدريّ الضوء على العلاقة الملتوية مع هذه المنطقة النافرة. ذاك أنّه يُظهر أنّه رغم الفقرة الواردة أعلاه حيث يعامل الكاتب عربستان كجزء من العراق، فإنّ محاولاتها غزو البصرة إنّما أُوردت كعمل يقوم به طرف «غريب». فوق هذا، تُظهر سرديّة الحيدري كلّها كيف أصبح أمن البصرة، أقلّه منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر، معتمداً على بغداد:

فكعب هاجم من أجل أن ينهب البصرة بعد خلع داوود باشا عن بغداد. وقد قاتلتهم ودمّرتهم عشائر الزهير والنجادة مانعة إيّاهم من الاستيلاء على البصرة. وهذا يكشف عن حماسة كبرى للدولة العليّة ويمدّها بخدمة شريفة. (الحيدري: 165).

ومع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تبنّت الدولة العثمانيّة التي أُضعفت استراتيجيّة جديدة لخنق حكم المحمّرة الذاتيّ والأسواق الإقليميّة المستقلّة التي طوّرتها القبائل على قاعدة خلق بلدات – حكومات. (فتّاح: هـ201).

الإمارات الممتَحَنة

لم يكن بناء الفضاءات الوطنيّة في المشرق مرهوناً بوجود أراض غير عثمانيّة ينبغي ترسيم الحدود معها. والحقّ أنّ حالة الحدود الشرقيّة للعراق على امتداد الامبراطوريّة الفارسيّة كانت الاستثناء أكثر منها القاعدة. وفيما لعب موضوع الحدود مع فارس دوراً مهمّاً في تشكيل العراق الحديث، فإنّ مناطق أخرى في المشرق لم تجاورها أراضٍ غير عثمانيّة[2].

ولم يفض التلاحم النسبيّ بين الأسواق الإقليميّة إلى انحلال الجماعات المستقلّة حول المشرق، بل على العكس، صار السؤال: من سيسيطر على هذه الأسواق؟ وهنا تتبدّى على أوضح وجه خرافة وجود إمبراطوريّة عثمانيّة كلّيّة القوّة والحضور. ففي حوالى الوقت ذاك، شهدت أجزاء من الامبراطوريّة لا تقلّ عدداً ازدهار حركات استقلال تامّ أو استقلال أمر واقع. وإلى انفصال اليمن المبكر عن الامبراطوريّة، عدّد رافق (1985: مقدّمة) ما لا يقلّ عن 12 حركة استقلال أو حكم ذاتيّ ظهرت بين نهاية القرن الثامن عشر وأواسط التاسع عشر. أمّا في حالة سوريّا، فلم يكتف عدم وجود أنهار كبرى تجري على امتداد الأراضي السوريّة بالمساهمة في إضاعة سوريا التاريخيّة الكبرى، بل ساهم أيضاً في صعود مركزين متنافسين في داخل سوريّا الحاليّة: حلب ودمشق. أمّا في حالة العراق، فكان للاعتماد على دجلة والفرات للمواصلات أن شبك المنطقة معاً. وحتّى هنا، تبقى فوارق مميّزة بين المناطق الفرعيّة: ذاك أنّه، وعلى عكس دجلة، برهن الفرات أنّه صعب جدّاً على الملاحة. وهذا ما أدّى، في آخر المطاف، إلى تسهيل إخضاع القبائل التي تعيش على ضفاف النهر الأوّل.

هذه الشروط البيئيّة، مصحوبة بسياسات العثمانيّين المكسّدة، إنّما المحتّمة، لعبت دوراً حاسماً في تشكيل إمارات الخليج، في معزل عن حقيقة أنّ الكويت كانت رسميّاً جزءاً من ولاية البصرة فيما كانت باقي إمارات اليوم جزءاً من ولاية الأحساء المتغيّرة الشكل. والكويت لم تكن فقط ذاك «الجزء» من البصرة الذي لا يقع على الأحواض النهريّة للعراق، بل استفادت أيضاً من السياسة العثمانيّة في خنق الموانئ التي تمكّنت من السيطرة عليها، خصوصاً البصرة. وقد لاحظنا أعلاه كيف قادت هذه السياسة إلى انفصال عبدان، وفي النهاية انضمامها إلى فارس.

لقد فرض العثمانيّون ضرائب مثبّطة على التصدير والاستيراد بهدف تسمين عائداتهم. وتلك الضرائب لم تُفرض فحسب على التجارة الأجنبيّة، بل جُبيت أيضاً على التجارة داخل الولاية الواحدة. وهذا قد يبدو أمراً سخيفاً من وجهة نظر معاصرة، لكنْ ما دامت كلّ ولاية كان تغطّي أكلافها، وفوق هذا أن تدفع للباب العالي مبالغ سنويّة ما، فالضرائب على التجارة داخل الولاية بدت وسيلة مربحة في تأمين تلك الأهداف. لقد كانت هناك ضريبة موحّدة من 5% مفروضة على السلع المستوردة كافّة، وأخرى من 12% على كلّ السلع المصدّرة. وهكذا لم يكن ممكناً عبر البحر نقل بضائع منتجة محلّيّاً، زراعيّة أو صناعيّة، من بلدة إلى أخرى، حتّى داخل الولاية نفسها، دون دفع ضريبة الـ 12% للشحن و1% لدى بيع البضاعة. فالضريبة كانت 15% (حسن: 338-342)، بحيث يستخلص هذا المرجع الأخير أنّ تأثير ذلك تجلّى في إخضاع التبغ المستورد إلى بغداد من شهرزور لضريبة 15%، فيما ذاك المستورد من إيران يستدعي ضريبة 7%. وهذا وحده يفسّر لماذا تأخّرت زراعة التبغ في وقت كانت بغداد بمفردها تستورد منه ما قيمته 28 ألف دينار في 1869–1870. (حسن: 340).

لاحقاً خفّضتْ اتفاقيّة إنكليزيّة – تركيّة النسبة إلى 8% على السلع المحمولة برّاً وبحراً داخل الامبراطوريّة. وهذا بدوره ألغي في 1874 في ما خصّ البضائع المحمولة برّاً. أمّا المنتجات المحلّـيّة المحمولة نهريّاً، أكانت ضمن الولاية الواحدة أم إلى ولايات أخرى، فظلّت، على مدى القرن التاسع عشر، تدفع هذا الرسم… ولمّا كانت الأنهار القنوات الأساسيّة للمواصلات في العراق، فقد أعيقت التجارة الداخليّة بسبب هذا الرسم إلى حدّ ربّما تجاوز مثيله في أيّ جزء آخر من الامبراطوريّة العثمانيّة. (حيدر 1941: 479).

هكذا تمّت بحماسة حماية البصرة، الميناء العثمانيّ الرئيس على الخليج، لأنّه نُظر إليها كمصدر أساسيّ للعوائد. وكنّا رأينا للتوّ كيف أنّ المحمّرة، الميناء الآخر في عربستان، قد أُخضعت للعقوبات كي لا تنافس البصرة. كذلك أنشأ العثمانيّون سلطة ساحليّة لحكم البصرة، ما قاد، على نحو مثير للسخرية، إلى ازدهار المرافىء الحرّة المنشقّة بدل ازدهار البصرة. وإذ تعرّضت أجزاء من الاتّحادات القَبَليّة الكبرى في شبه الجزيرة العربيّة لانقسامات متقطّعة ولارتحال عن مواطنها الأصليّة تبعاً لمصاعب بيئيّة واقتصاديّة، فإنّ موانئ «حرّة» جديدة راحت تتكاثر في قطر والبحرين والكويت. وفي 1750… تلقّت التجارة الإقليميّة في الجزيرة العربيّة والخليج ما عزّزها بإقامة رجال قبائل العتبي في قطر والكويت والبحرين. وفي غضون جيل أكمل هؤلاء الناس، الأغنياء في مصادرهم والمحبّون للمشاريع، الانتقال من كونهم راكبي جِمال لأن يصيروا ناشطين في البحر وصيّادي أسماك، بانين أسطولاً من القوارب التجاريّة لا معادل له في الخليج. (فتّاح: 26). وعلى عكس ميناء البصرة العثمانيّ الذي ضمّ وحدة منتظمة للرسوم الجمركيّة… فالموانئ الحرّة للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ممثّلة في الكويت وقطر والبحرين، لم تطالب التجّار الإقليميّين بأكثر من دفع مبالغ صغرى للشيوخ المحليّين. (المرجع السابق).

ومع أنّ الكويت بقيت، حتّى نهاية الحرب العالميّة الأولى، جزءاً شكليّاً من ولاية البصرة، فالتاريخ الديبلوماسيّ يُخبرنا قصّة أخرى. ذاك أنّ التطوّرات المذكورة أعلاه كيّفت الكويت في سياق اجتماعيّ – اقتصاديّ مختلف. فالبريطانيّون المتشوّقون لإيجاد مواقع راسخة في المنطقة، استفادوا من الطموحات الاستقلاليّة للشيخ الكويتيّ، ومن ضعف الامبراطوريّة العثمانيّة، موقّعين مع الأوّل معاهدة سرّيّة للحماية[3].

وبدورهم، لم يعترف العثمانيّون بالمعاهدة السرّيّة، لكنّ التطوّر الذاتيّ للكويت بات أمراً واقعاً حتّى من وجهة نظر المؤرّخ العراقيّ – العثمانيّ المتحمّس، الحيدري: الكويت واحد من ملاحق البصرة. إنّها تقع منها على مبعدة 26 ساعةً سيراً. واليوم تمتلىء بالتجّار النجديّين الذين يسافرون إلى الهند وقد أصبحوا مرتكزاً للتجارة الأمينة. فيها كثير من الناس وعديد السفن البحريّة. شعبها لا يزال يزور البصرة ولدى بعضه أملاك فيها… شعبها غنيّ جدّاً… شيخه ذو عمل سنويّ لمصلحة الدولة العليّة… ومع أنّهم ينتمون إلى الدولة العليّة وملحقون بالبصرة، فهم ليسوا خاضعين لأحكام السياسة، ولا فائدة لبلدهم إلاّ للتجارة. (الحيدري: 163-164).

خلاصة: السلطة والديناميّات السياسيّة

ينبغي أوّلاً ألاّ يُنظر إلى صعود الأمم والقوميّة كمعطى متحقّق، أي اعتبار أنّ كلّ واحدة من الجماعات المتنوّعة لديها لغة وثقافة مشتركتان بفعل الطبيعة، أو منذ الأزل. ذاك أنّ هذه العوامل منتجات تاريخيّة ينبغي شرحها بدل تحويلها هي نفسها إلى عناصر شارحة. ثانياً، أنّ صعود القوميّات أصبح ممكن التنفيذ على مدى حقبة زمنيّة حديثة نسبيّاً، وذلك بسبب الحدود الصارمة التي تمنع المواصلات بين أطراف الشعب، حتّى لو أقام هذا الشعب في ظلّ سلطة سياسيّة واحدة. صحيح أنّ الأوروبيّين الغربيّين جمعتهم شراكة العالم المسيحيّ، وأنّ ميراث الامبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة، أو تركة شارلمان، ليست مجرّد ذكريات بعيدة. لكنّ الصحيح بالقدر نفسه أنّ المسلمين أحسّوا بالانتماء إلى حضارة مشتركة ما، إلاّ أنّ هذا ظلّ بعيداً عن أن يشكّل أساساً لثقافة مشتركة أو لمعايير حياة. ثالثاً، إذا كانت المجانسة بين شعب ما قد غدت ممكنة في وقت معيّن، غير أنّها لا تزال تحتاج إلى البرهنة على أنّها «مرغوبة» من وجهة نظر قسم كبير ومؤثّر من السكّان على الأقلّ.

لقد حاولت الامبراطوريّة العثمانيّة أن تعطي الانطباع بأنّها لا تقبل الاختراق، وأنّها شاملة وضامّة، تملي الولاء على سائر رعاياها، وذلك كونهم يتشاركون في الدين نفسه (خصوصاً بعد خسارة الأراضي في المناطق ذات الأكثريّة المسيحيّة الكاسحة في هنغاريا وبلغاريا، ثمّ اليونان). بيد أنّ ما قدح نوازع الاستقلال لم يكن الدين، بل البعد عن مركز السلطة المركزيّة. وبالطبع لعب إسباغ الشرعيّة الدينيّة دوراً مهمّاً في إبطاء أو تسريع حافز الاستقلال، لكنْ ما إن نضجت الشروط الماديّة حتّى حضر إسباغ الشرعيّة الإيديولوجيّة: فأبعد البقاع جنوباً، أي اليمن، انقسم بين مذهبين في الإسلام، الزيديّة الشيعيّة والشافعيّة السنّيّة. وفي العربيّة السعوديّة انتشرت الوهابيّة انتشار النار، كما أوضحت فتّاح بشكل جليّ. ويقدّم نقّاش برهاناً كافياً عن انتشار الشيعيّة كحركة شعبيّة بين القبائل العراقيّة إبّان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بعدما كانت مرّة طائفة منعزلة محصورة في ضرائح معزولة في ما أصبح العراق.

إنّ واحدة من الموضوعات الكبرى والمتكرّرة في أغلب أدبيّات العالم العربيّ تخصّ تشكّل دوله المعاصرة. ودائماً تقريباً يُذكّر القارىء بأنّه بعد سقوط الامبراطوريّة العثمانيّة في الحرب العالميّة الأولى، قرّرت الدولتان الاستعماريّتان الكبريان آنذاك، بريطانيا العظمى وفرنسا، تضييع الأمّة العربيّة وتقسيمها مناطق نفوذ بينهما. وتبعاً لذلك، فالدول العربيّة التي تزيد عن العشرين، والتي رأت النور في مراحل مختلفة مذّاك، هي نتاج هذه المؤامرة الاستعماريّة.

ويجد الكتّاب الذين في هذا الوارد أنّ الأسباب وراء تلك الخطّة هي: إضعاف البلدان العربيّة بخلق كيانات صغرى غير قابلة للحياة، أو كيانات لا تملك ما يكفي من حجم لكي تقلع على طريق التصنيع، وهي لهذا محكومة بالتبعيّة لحاميها الاستعماريّ. والحقّ أنّ قادة كلّ انقلاب أو ثورة قوميّين ممّن زعموا علاج الشأن العامّ ورسم طريق إلى الوحدة العربيّة، استحضروا هذه الموضوعة من غير انقطاع. لقد حاولت هذه الورقة أن تُظهر أنّ العمليّات والعلاقات التي تُحشى بها مصطلحات عامّة كالاستعمار والامبرياليّة (والعولمة اليوم) لا تستطيع بذاتها أن تفسّر تطوّر البنى الاجتماعيّة الاقتصاديّة، إذ يلزمنا أن نعرف كيف تمّ التمفصل بين تلك البنى على اختلافها وبين تأثيرات الاستعمار والإمبرياليّة أو العولمة. وهذا، بالطبع، ليس لإنكار الدور المركزيّ والحاسم الذي لعبه الاتّفاق البريطانيّ – الفرنسيّ المعروف باتّفاقيّة سايكس بيكو لوضع المشرق العربيّ تحت انتداب الدولتين بعد تعريف مناطق نفوذ كلّ منهما. فقد تُرك لفرنسا وضع اليد على سوريّا ولبنان، فيما تسيطر بريطانيا على العراق وشرق الأردن وفلسطين، فضلاً عن علاقاتها القائمة أصلاً مع المحميّات الجيوب في منطقة الخليج: الكويت والبحرين وقطر. لكنّ حصيلة هذه الاتّفاقيّة لم تكن البتّة نتيجة مباشرة لها. فإذا عُيّنت علاقة سببيّة بين الاثنين (وهو ما لا ينبغي أن يحصل)، تبيّن أنّ البنى المتشكّلة أصلاً في المنطقة هي ما ساعد القوّتين الاستعماريّتين على رسم خطوطهما، وليس العكس. وهذا ليس للقول إنّ الحدود كانت مرسومة ومقرّرة سلفاً، أو أنّه كان يستحيل رسمها على نحو آخر. لكنْ يصحّ هنا ما يصحّ في أيّ مكان آخر: من إنشاء بلجيكا والدول الأميركيّة اللاتينية مطالع القرن التاسع عشر، وصنع إيطاليا وألمانيا في النصف الثاني من القرن نفسه، إلى استقلال النروج وفنلندا مطالع القرن العشرين، وتشكّل الكثير من بلدان أوروبا الشرقيّة بعد الحرب العالميّة الأولى، أو تشكّل الهند وباكستان بعد الحرب العالميّة الثانية. هذا إذا اقتصرنا على ذكر بعض الحالات فحسب.

فإنشاء دول الشرق الأوسط المستقلّة والحديثة هو حالة تتمفصل فيها البنى الاجتماعيّة المحلّيّة والقوى والعوامل الإقليميّة والدوليّة القائمة. وحقيقة أنّ بلداناً أخرى في المنطقة، أو في مناطق أخرى، تحوّلت إلى مستعمرات فيما لم تتحوّل غيرها، أو حقيقة أنّ الخطط الأصليّة للقوى الاستعماريّة لم تر النور، إنّما هي شهادة على أولويّة الديناميّات الداخليّة التي تُجبر القوى الدوليّة (الاستعماريّة هنا) على التكيّف معها.

لقد قاد التعقّل السياسيّ لدى كثيرين من العرب من أنّ وحدة كافّة البلدان العربيّة في دولة واحدة هدف مرغوب، إلى التلاعب بالتاريخ على نحو انبنت عليه أساطير جديدة. وفي هذه الغضون، فإنّ المادّة التبسيطيّة (بل الساذجة) عن العلاقة بين حجم بلد ما وحظوظه في إطلاق برنامج للتصنيع/التحديث خدمت كحجر زاوية في هذا الصرح عن الدور الاستعماريّ في تقسيم العرب. فتقريباً في كلّ كتاب مدرسيّ متوسّط عن التاريخ الحديث موضوع بالعربيّة، تلوح تلك الحجج بوصفها حقائق.

فأوّلاً، ما من مرّة واحدة في التاريخ كان العرب موحّدين في دولة عربيّة تحت حاكم واحد. خلال أيّام الامبراطوريّات الاسلاميّة الكبرى ما قبل العثمانيّة (650–1250م) حكم العرب شعوباً من أعراق متعدّدة: عرباً وفرساً وتركاً وكرداً وهنوداً ونوبيّين الخ. وكما في كلّ بنية ما قبل رأسماليّة، كانت هذه الامبراطوريّات مقسّمة ولاياتٍ شبه مستقلّة. وبسبب ضخامة المساحة التي تشغلها العرب، أو السكّان المعرّبون، فإنّها كانت مقسّمة، مثلها مثل المساحات المأهولة بغير العرب، ولايات عدّة.

ثانياً، إنّ فكرة أنّ القوى الاستعماريّة فضّلت الكيانات الصغيرة الحجم هي، ببساطة، بلا أساس تجريبيّ، لأنّ الدول العربيّة الثلاث الأكبر تشكّلت في ظلّ الحماية البريطانيّة: مملكة ليبيا المتّحدة التي جاءت دمجاً لولايات ثلاث، والمملكة السعوديّة الناجمة عن خمس إمارات قبل توحيدها في 1932، والوحدة المصريّة – السودانيّة التي لم تتفرّع إلى بلدي مصر والسودان حتّى 1956. أمّا بالنسبة إلى الفرنسيّين، فإنّ مجرّد النظر إلى أحجام بلدان كالجزائر والمغرب، التي استعمرتها فرنسا لأكثر من قرن، يشهد لحقيقة أنّ تجزئة البلدان ليس مجرّد مؤامرة سياسيّة.

صحيح أنّ البريطانيّين والفرنسيّين فضّلوا خلق كيانات صغرى كالإمارات المنتجة للنفط في الخليج الفارسيّ، وتجزئة اليمن الجنوبيّ إلى سلطنات «كونفيدراليّة» عدّة، وخلق لبنان المتفرّع عن سوريّا الكبرى، لكنّ هذا، شأنه شأن الأمثلة الكثيرة في الاتّجاه المعاكس، ينبغي ألاّ يُرى كسياسة مبدئيّة في تفضيل خلق الكيانات الصغرى (أو الكبرى).

والاعتراض الثالث على تلك المجادلة «القوميّة» أعلاه هو تناقضها الذاتيّ. فلئن تداخلت المجادلات التي تؤسّس لتلك الاستخلاصات، إلاّ أنّ في الوسع تبيّن ثلاث: 1- أنّ ما خلق الدولة قوّةٌ أجنبيّة، 2- أنّ الدولة لم يكن لها وجود سابق ككيان مميّز، 3- أنّ تكوينها الإثنيّ والدينيّ يفتقر إلى الشروط الضروريّة لقيام الأمّة.

لكنّ الأطروحة حول اصطناعيّة الدولة العراقيّة (أو المشرقيّة) ترتكز إلى مجادلات أقلّ إقناعاً حتّى من تلك التي طرحها الفكر القوميّ العربيّ، وذلك للأسباب التالية:

أوّلاً، تاريخيّاً، ما من دولة ظهرت عفويّاً، أو عبر إجماع وديع على مكوّناتها «الداخليّة» وحدها. فالحروب الداخليّة والخارجيّة كانت، وتظلّ للأسف، جزءاً لا يتجزّأ ممّا نسمّيه تشكّل الدولة والأمّة. وإذا كان قليلون جدّاً من الأساتذة المختصّين مَن يشكّكون بهذه الحقيقة، إلاّ أنّ مناصري أطروحة «الاصطناع» سيعترضون على هذه المجادلة على أساس أنّنا لا نتحدّث عن حرب بين طرفين متكافئين إلى هذا الحدّ أو ذاك، بل عن مصالح قوى استعماريّة. لكنْ هنا أيضاً، كيف قُيّض لمملكة بلجيكا ولسويسرا ومعظم دول شرق أوروبا ووسطها أن ترى النور؟ فهذه كلّها ظهرت بعد حروب خارجيّة حيث فرض المنتصرون شروطهم وكرّسوها بمعاهدات. وما من مراقب جدّيّ يصنّف هذه البلدان، بما فيها تلك التي تواجه اليوم مشاكل حقيقيّة، بلداناً مصطنعة.

ثانياً، باستثناء دول قليلة جدّاً حافظت على بُناها على مدى حقب زمنيّة طويلة نسبيّأً (مصر، الصين، المغرب، فرنسا)، فإنّ الأغلبيّة الساحقة من دول يومنا المعاصرة كائنات حديثة العهد، ومثال أميركا اللاتينيّة بليغ في هذا المجال. فبعد المرحلة الرومنطيقيّة للقوميّة الأميركيّة اللاتينيّة، والشبيهة بما شهده العالم العربيّ بعد الحرب العالميّة الثانية، جاءت فترة الحروب الحدوديّة. هكذا، مثلاً، دخلت القوميّة الإكوادوريّة في منافسة حدوديّة مع القوميّة البيروفيّة، وهكذا دواليك. واليوم ليس ثمّة من يدحض «أصالة» هذه الدول التي لم توجَد قطّ قبل حروب الاستقلال في 1820. فمثلها مثل الولايات العربيّة حيال الامبراطوريّة العثمانيّة، ظلّت تلك الدول مقاطعات تابعة لإسبانيا حتّى هزيمة الأخيرة في الحروب النابوليونيّة. وإلى هذا الحدّ أو ذاك تتعادل الحدود الحاليّة لدول أميركا اللاتينيّة مع حدود المقاطعات الإسبانيّة للقرن الثامن عشر[4].

ثالثاً، ماذا عن التنوّع الإثنيّ/الدينيّ؟ حسناً، ليس العراق وسوريّا أقلّ تنافراً من بلدان كالهند وإيران وسويسرا، دع جانباً الولايات المتّحدة. مع هذا فالدول الأخيرة تُعتبر عموماً قابلة للحياة. وفي حالة الولايات المتّحدة، بل أيضاً سويسرا المثلّثة اللغات، فهما أيضاً تُعتبران أمّتين. أمّا الدولة الهنديّة فلم يسبق أن وجدت قبل الاحتلال البريطانيّ، وفي ظلّ الاستعمار تشكّل ممّا ينوف عن 600 دويلة وآلاف اللغات وعشرات الأديان، أمّة هنديّة لا تُدحض «أصالتها».

رابعاً، تماماً كما أنّ التنوّع الطائفيّ و/أو الإثنيّ ليس بذاته عقبة أمام تشكّل الأمّة، فإنّ التجانس الطائفيّ و/أو الإثنيّ ليس ضمانة لمرور ناجح إلى تشكّل الأمّة. فمن وجهة نظر إثنيّة ودينيّة، تندرج الصومال بين أكثر مجتمعات الأرض تجانساً، مع هذا فتجانسها لم يمنع تفتّتها.

بمعنى مشابه، فالظهور الحديث للعراق وسوريّا ولبنان، فضلاً عن إمارات الخليج، كان نتاج عمليّات اقتصاديّة واجتماعيّة مديدة كانت تفعل داخل سياق اندماج المنطقة في السوق العالميّة. أمّا القوى الاستعماريّة فحاولت إخضاع هذه الأقاليم لكنّها، وبغضّ النظر عن نواياها، اضطرّت للتكيّف مع الحقائق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة لكلّ من تلك المجتمعات.

هكذا فما يراه العقل الحداثيّ تجزيئاً للولاء ونقصاً في الكفاءة الإداريّة، ناجمين عن تعدّد مستويات السلطة، قابلان أن يتعايشا بشكل كامل مع البنية ما قبل الحديثة[5]. فالولاء للملك الفرنسيّ أو للسلطان العثمانيّ ليس بذاته هويّة. ولهذا يبدو سخيفاً أن نتحدّث عن هويّة عثمانيّة أو فرنسيّة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر مثلاً. فهذا، وهو ما يستحقّ التكرار، لا صلة تجمعه بأيّة بنية مصمّمة قبْليّاً وقصديّاً. ذاك أنّه، وكما يعمل مدى تطوّر وسائل المواصلات على الحدّ من الانتاجيّة، ومن ثمّ خفض الحجم الأمثل لجماعة اجتماعيّة قابلة لإعادة الإنتاج، فهو أيضاً يحدّ من درجة السيطرة التي يمارسها الملوك على رعاياهم وأراضيهم، مجبراً إيّاهم على التكيّف مع نوع ما من الحكم غير المباشر.

فالأشكال الخاصّة للتحدّيات الخارجيّة التي تنوي جماعة ما أن تدافع عن نفسها حيالها، فضلاً عن نطاق الأنشطة التي تستطيع تلك الجماعة استدخالها في ما تعتبره حدودها، هذه وتلك تعرّفان شرائح السلطة داخل المجال السياسيّ برمّته، ومدى السلطة الذي يتمتّع به كلّ من المستويات. وتاريخيّاً، مثّلت صلاحيّات النفوذ التي تتمتّع بها كلّ شريحة من شرائح السلطة ساحة لبعض أشرس الصراعات وأشدّها دمويّة بين النبلاء والملوك في معظم أوروبا، كما بين الشيوخ والأعيان المدينيّين والولاة والسلاطين في الشرق الأوسط. أمّا الخطوط المحدّدة فلم تكن مرّةً، ولا يمكنها أن تكون، ثابتة. ذاك أنّها بطبيعتها تتحوّل تحوّلاً دائماً استناداً إلى القوّة النسبيّة لكلّ من أقسامها.

1                    ترى فتّاح أن الحيدري «واحد من أوائل المؤرخين الذين حاولوا استخدام عملهم لبناء هويّة عراقيّة». وتقتطف من مراجع «نافذ البصيرة لعمله» قولاً بأن الأخير «أطلق العنان لنوازعه البغداديّة»، ممّا قاده أحياناً إلى إعادة التأكيد على سيادة خرافيّة على مقاطعات كانت، في أحسن الأحوال، غير عائدة إلى أحد، مثل المحمّرة والقرى المحيطة بها. وبهذه الطريقة تتبّع نشوء هويّة عراقيّة مضفى عليها طابع مثاليّ يحتضنها سياق عثمانيّ وتلحمها أطر سنّيّة. وعليه فهو، في بعض الأحيان، يهمل تماماً سيادة مقاطعات ملاصقة للبصرة، مفضّلاً تسميتها جميعاً مقاطعات عثمانيّة، حتّى لو كانت تلك المقاطعات ذاتها قد باتت تخضع لقوى أخرى. لكنّه في الوقت نفسه يستخدم، في مواضع عدّة، تعبير «العراق» ليشمل تلك المناطق نفسها التي مُنحت لإيران بموجب معاهدات دوليّة (فتّاح: 24).

2                    في 1635 كانت اليمن في ظلّ الأئمة الزيديّين الولاية العربيّة الأولى التي نالت الاستقلال.

3                    اغتال مبارك الصباح شقيقيه، وأحدهما كان من عيّنه العثمانيّون قائمقاماً للكويت. وقد جهد مبارك للحصول على اعتراف الباب العالي به كقائمقام جديد ومخلص، لكنّه لم يوفّق في ذلك. وأخيراً وقّع معاهدة سرّيّة مع البريطانيّين تقضي بجعل الكويت محميّة لهم. من أجل تفاصيل شيّقة، أنظر أمسكومب (1979: 113-142).

4                    لأسباب إداريّة، قسّمت إسبانيا القارّة الضخمة إلى توابع مختلفة، وتجسّدت التقسيمات السياسيّة الأساسيّة لتلك المستعمرات إلى مقاطعات تابعة للتاج وأودينسيّات، فكانت هذه الأجسام الإداريّة وحدودها قاعدة استلهام الدول الأميركيّة اللاتينيّة: المكسيك تبعاً لمقاطعة إسبانيا الجديدة، والبيرو لمقاطعة البيرو، وكولومبيا لمقاطعة سانتا في دو بوغوتا، والأرجنتين لمقاطعة ريّو دو لا بلاتا، والإكوادور لأودينسيّة دو كويتّو، وبوليفيا لأودينسيّة دو خاركاس، وتشيلي وفنزويلاّ كلتاهما جاءتا من كابيتانياس دو بويرتو.

5                    وربّما كان هذا الإطار الذهنيّ الحداثيّ ما أرسى أساس التقليد الذي يلخّص «الشرق» في استبداد شرقيّ (فولتير ومونتسكيو)، أو في نمط آسيويّ للانتاج (ماركس)، فضلاً عن محاولات حديثة نسبيّاً شجبت وجهة النظر هذه بذهابها إلى نقيضها المباشر وتوكيدها، مثلاً، على وجود «مجتمع مدنيّ» في الأقاليم العثمانيّة.

البيبليوغرافيا

Fredrick F. Amscombe (1997) The Ottoman Gulf: The Creation of Kuwait, Saudi Arabia, and Qatar, University of Columbia Press, New York.

Hanna Batatu (1978) The Old Social Classes and the Revolutionary Movements of Iraq: A Study of Iraq›s Old Landed and Commercial Classes and of its Communists, Ba›thists and Free Officers, Princeton University Press, Princeton, New Jersey.

Lady Anne Blunt (1879) Bedouin Tribes of the Euphrates, edited with a preface and some account of the Arabs and their Horses by W.S. Blunt, 2 vols. In 1, London, Murray.

Adeed Dawisha (1997) “Iraqi Politics: The Past and Present as Context for the Future”, in John Calbrese (ed.), The Future of Iraq, The Middle East Institute, Washington DC: 7-16.

Toby Dodge (2003) Inventing Iraq: The Failure of Nation Building and a History Denied” Columbia University Press, New York.

Hala Fattah (1997) The Politics of Regional Trade in Iraq, Arabia, and the Gulf 1745–1900, New York, State University of New York Press.

Hala Fattah (1999) “Culture and Identity in the Work of an Historian of Ottoman Basra”, ISIM (International Institute for the Study of Islam in the Modern World) Newsletter, no.3 (July).

G. Gilbar (1992) “Changing Patterns of Economic Ties: The Syrian and Iraqi Provinces in the 18th and 19th Centuries”, in Thomas Philipp (ed.1992) The Syrian Land in the 18th and 19th Century: The Common and the Specific in the Historical Experience, Franz Steiner Verlag, Stuttgart.

Mohammed Salman Hassan (1965) Al Tatawwur al Iqtisadi fil Iraq: Al Tijara al Kharijiyya wal Tatawwur al Iqtisadi 1864–1958 (The Economic Development of Iraq: External Trade and Economic Development 1864–1958), Al-Maktaba Al-Asriyya, Saida and Beirut .

Salih Haider (1941) Land Problems in Iraq, Doctoral Dissertation, The London School of Economics, London.

Ibrahim Fasih al Haydari (1998, originally published in 1872) Unwan al-Majd fi Bayan Ahwal Baghdad wal Basra wa Najd (The Glory Title in Explaining the Conditions of Baghdad, Basra and Najd), Dar al Hikma, London.

Hamid Mahmoud Issa (1992) Al Mushkila al Kurdiyya fil Sharq al Awsat (The Kurdish Problem in the Middle East), Madbouli Library, Cairo.

Nicolai Ivanov (1988) Al Fathul ‘Uthmani lil aqtar al ‘Arabiyya 1516–1574 (The Ottoman Conquest of the Arab Countries 1516–1574), (translated from Russian), Al Farabi Publishers, Beirut.

Jaleel Jaleeli (1987) Min Tarikh al Imarat fil Imbiratoriyyal ‘Uthmaniyya fil Nusfil Awwal minal Qarnil Tasi’ ‘Ashar (On the History of Principalities under the Ottoman Empire in the First Half of the Nineteenth Century), Al Ahali Publishing House, Damascus

Sayyar al Jameel (1999) Zu’ama’ wa Afandiyya, al Pashawat al ‘Uthmaniyuon wal Nahdhawioyoun al ‘Arab (Leaders and Effendis: The Ottoman Pashas and the Arab Renaissance Men), al Ahliyya Publishing House, Amman.

Isam al Khafaji (2004) Tormented Births: Passages to Modernity in Europe and the Middle East, I.B. Tauris, London.

Dina Rizk Khoury (1997) State and Provincial Society in the Ottoman Empire: Mosul, 1540–1834, Cambridge University Press, Cambridge.

Stephen H. Longrigg (1925) Four Centuries of Modern Iraq, Clarendon Press, Oxford (Beirut Reprint 1968).

Shaikh Amin bin Hassan al Halwani al Madani (n.d.) Khamsa wa Khamsoun ‘Aman min Tarikh al ‘Iraq 1188H–1242H (Fifty-Five Years of Iraq’s History 1188H–1242H), An Abridgement of Shaikh ‘Uthman bin Sanad’s Book “ Matali’ al Su’oud Biteeb Akhbar al Wali Dawood”, no Publisher, Baghdad.

David McDowall (1996) A Modern History of the Kurds, I.B. Tauris, London.

Wamidh Jamal Umar Nadhmi (1984) Al Judhour al Siyasiyya wal Fikriyya wal Ijtima’yya Lilharaka al Qawmiyya al ‘Arabiyya (al Istiqlaliyya) fil ‘Iraq (The Political, Intellectual and Social Roots of the Arab Nationalist ( Independence) Movement in Iraq, Markaz Dirasat al Wihda al ‘Arabiyya, Beirut.

Jamil Musa al Najjar (1991) Al Idara al ‹Uthmaniyya fi Wilayat Baghdad (The Ottoman Adminstration in the Wilaya of Baghdad), Maktabat Madbouli, Cairo.

Yitzhak Nakash (1994) The Shi›is of Iraq, Princeton University Press, Princeton, New Jersey.

‹Abdul ‹Aziz Sulaiman Nawwar (1968) Tarikh al ‹Iraq al Hadith min Nihayat Hukm Dawood Pasha ila Nihayat Hukm Madhat Pasha (The History of Modern Iraq from the End of Dawood Pasha’s Rule to the End of Madhat Pasha›s Rule), Dar al-Katib ‘Arabi, Cairo.

‘Abdul Karim Rafiq (1985) Buhouth fil Tarikh al-Iqtisadi wal Ijtima’i Libilad al Sham fil ‘Asr il Hadith (Researches on the Social and Economic History of Grand Syria in the Modern Era), (no publisher), Damascus.

Claudius James Rich (1836) Narrative of a Residence in Koordistan and of the Site of Ancient Nineveh; with Journal of a Voyage Down the Tigris to Bagdad and an Account of a Visit to Shirauz and Persepolis, 2 vols., James Duncan, London.

Reeva S. Simon (1997) “The Imposition of Nationalism on a Non-Nation State: The Case of Iraq during the Interwar Period 1921–1941”, in Jankowski and Gershoni (eds.) Rethinking Nationalism in the Arab Middle East, Columbia University Press, New York: 87–105.

Eleizer Tauber (1991) “The Struggle for Dayr al-Zur: The Determination of Borders between Syria and Iraq”, International Journal of Middle East Studies , vol. 23 , no. 3, Aug.

Charles Tripp (2000) A History Of Iraq, Cambridge University Press, Cambridge.

كلمن عدد 7، صيف 2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى