صفحات الحوار

حوار – يحيى جابر متحدثاً عن مسرحيته “بيروت… الطريق الجديدة”: النمائم تسأل ما معنى أن يقدّم مخرج شيعي عملاً عن أهل السنّة!

روجيه عوطة

في 18 تموز المقبل، يبدأ الشاعر والفنان المسرحي يحيى جابر بعرض مسرحيته “بيروت… الطريق الجديدة” في “مترو المدينة”، ويؤدي الصحافي زياد عيتاني تجربته التمثيلية الأولى ودور البطولة فيها. تتمحور حبكة العمل الجديد حول تاريخ المنطقة البيروتية، وجوانب اجتماعها اليومي. وكان الأمن العام استدعى جابر، وطلب منه توضيحات معينة حيال بعض الأفكار والعبارات الحاضرة في النص، بحجة “الخوف عليه”، قبل أن يفرج عن المسرحية الذي ستُقدم كل خميس وجمعة ابتداء من يوم عرضها الأول.

 لماذا اخترت الطريق الجديدة موضوعاً لعملك المسرحي الجديد؟

– هذه المنطقة البيروتية خاضعة للأبلسة والأحكام المسبقة. أخذت على عاتقي إعادة كتابة تاريخها مسرحياً، مقدّماً شخصية أبا العبد في إطار غير نمطي. كما اخترت الطريق الجديدة لأنها شهدت الكثير من الأحداث والتبدلات الإجتماعية والسياسية، إذ أنتجت ميولا سياسية عدة من الناصرية حتى الحريرية ، بالاضافة إلى ولادة فريقي “الأنصار” و”النجمة” داخلها، وهما كان قد لعبا أدواراً مهمة في شحن الشارع ومذهبته. لا يمكن نسيان دور زياد عيتاني، الذي التقيته مصادفةً، وروى لي بعض حكايات المنطقة، فاخترته كي يكون الممثل الوحيد على الخشبة، وأعتقد أنه سيكون مفاجأة فنية.

 أين تقع مسرحيتك بالنسبة إلى موضوع الصراع السني- الشيعي؟

– لا أخفي عليك أن النمائم بدأت تدور حول المسرحية، وفي إطار الصراع الذي أشرت إليه. وهي نمائم تكشف الأمراض المنتشرة في المجتمع اللبناني. إذ يتساءل البعض عن معنى أن يقدّم مخرج شيعي عملاً مسرحياً عن أهل السنّة، وعن معنى أن يتكلم إبن جابر عن إبن العيتاني، وكيف يحكي شخص جنوبي عن منطقة بيروتية إلخ.

أرد على هذه الأسئلة باستفهامات عدة: ما الذي دفع روجيه عساف إلى تأليف مسرحية عن الخيام؟ ولماذا ممنوع على المخرج أن يتوجه فنياً إلى الطريق الجديدة، التي يعتقد سكانها أنها عاصمة بيروت. لست حمامة سلام بين السنّة والشيعة، ولستُ صقراً أيضاً، لكن عملي الجديد يحاول تعريف الجمهور إلى منطقة مهملة، منسية، ومنمّطة طائفياً. فأنا أرغب في رجوع الناس إلى المسرح، إلى شبّاك التذاكر الإختياري، والتفاعل مع الفن الشعبي، لا الشعبوي.

 ما المشترك بين شعرك ومسرحك؟ وهل تسعى إلى شعرنة الطريق الجديدة؟

– لا يمكن أن تكتب المسرح بدون أن تكون شاعرا. المهم في هذا الفن تظهير مأساة الفرد بالحوار والمونولوغ وكل الأنواع الأسلوبية الأخرى. لا بد من نص مسرحي يحاول الإحاطة بالموضوعات المهملة، والمنبوذة، التي وحدها تصنع شعريته. حاولت أن أشعرن الطريق الجديدة سردياً وسينوغرافياً. فبالتفاصيل هناك بنيت نصي، وبالأشياء المتروكة بلا عناية أنتجت الديكور والموسيقى. غاية الشعرنة هذه تحويل اللغة اليومية المستخدمة إلى نص فني، يلامس الناس إذا قرأوه أو شاهدوه، فلا يشعرون أنهم غرباء عنه.

 هل الحكاية الشعرية مضادة للسرد الطائفي؟

– من المؤكد أن سرد حياة الشخصيات المهملة سيكون مختلفاً عن السرد الطائفي، ومضاداً له. سعيت إلى استنتاج المنسي من النمطي، بدون أن أقدم المنطقة كأنها مكان ملائكي، لا حضور للطائفية فيه، أو لأي نوع من أنواع العصبية الأهلية. انحزت إلى ما هو منسي في المنطقة، وأتحت له أن يعترف، لا بأخطائه فحسب، بل بأخطائنا أيضاً. الخشبة حجرة اعتراف، وعلى كل واحد منا الدخول إليها. مع العلم أن الحكايات الشخصية أبقى من الأحداث السياسية. السرد الذاتي لا يزول مثل الرواية العامة، المؤدلجة، بل يستمر على قيد الحياة، لا سيما عندما يكون فنياً.

 كيف تصنف مسرحك إذاً؟

– ليس استعلائيا ولا استعراضيا. البطولة فيه للنص غير الوعظي، بحيث لا ينجرف نحو الابتذال الشعبوي، ولا نحو النخبوية السينوغرافية. هذا لا يعني أنني ضد التجريب، بالعكس، أنا مع تعدد الفنون في العمل المسرحي، شرط ألا يصبح التنوع حالة إقصائية لمفهومَي المسرح والشعر، ولغايتهما، أي تظهير مأساة الفرد وصراعه الداخلي. صعوبة تصنيف مسرحي تعود إلى أنه يشبهني، فأنا مثل شخصيات مسرحياتي، أدور حول نفسي، أتخطى أفكاري الثابتة، كما أجد نفسي دائماً على الضفاف. لذا، أختار القفز في النهر الذي يدفعني إلى التجدد. فعندما يجد المرء نفسه بين ضفتين، ما عليه سوى أن يرمي نفسه في الماء الجاري كي لا يقتله القحط في الضفتين.

ألا تخشى أن يكون عملك المسرحي الجديد جزءا من تقلباتك السياسية والثقافية؟

– فليكن… رغم أنها شائعات ولن أنشغل بتوضيحها. المهم أن لا أصدق تلك الشائعات. أفتخر بتقلباتي إلى الأمام، في وقت يتشقلب الآخرون إلى الوراء. أرى نفسي ثابتاً في صيرورتي، أي أنني ثابت في فكرة الإحتمال، إذ انتقد تجاربي السابقة كي أكمل مساري. أعتقد أن كل تبدلاتي كانت جزءاً من مسرحية حياتي، ومن حقي أن أمثل دائماً، وبالطريقة التي أختارها. من هواياتي أن أجرّب كل شيء في مجال الفن، وفي العمل السياسي. مع العلم أن تقلباتي السياسية اقتصرت على دخولي إلى الحزب الشيوعي اللبناني نتيجة مقتل كمال جنبلاط، ومن ثم مغادرتي إياه. وانتمائي إلى حركة 14 آذار بسبب اغتيال رفيق الحريري، قبل أن أغادرها أيضاً. ففي لحظة اغتيال الحريري، اكتشفت هويتي اللبنانية، ضمن الهويات الكثيرة التي خبرتها والهويات المقبلة التي تنتظرني.

 هذا جزء من مأساتك الفنية ربما: أن تكتشف هويتك في لحظة موت لا في لحظة ولادة.

– صحيح، لم أكتب سوى عن ناس أحببتهم رغم خلافي أو تناقضي معهم. رثيت شخصيات تركت آثاراً في حياتي ، مثل حسن حمدان وسمير قصير ورفيق الحريري. لا أتنكر لأي شيء كتبته عن هؤلاء، لا سيما كتابي عن الحريري، الذي أفتخر به كنص أدبي سياسي. ثم أنني أمين للحظتي الانفعالية العاطفية، وأمتلك إرادة الاعتراف والمراجعة والنقد الذاتي، وهي إرادة سمحت لي بأن أكتب ما أشاء وبأن أقول ما أريد، خصوصاً أنني لا أتعدى على أحد. يحق لي أن أغيّر مواقفي السياسية، فأنا أمضيت حياتي أدافع عن نفسي لأنني أنتمي إلى ثقافة الرصيف النقدية، لا إلى ثقافة الشرفة أو الشارع. وإذا كان ثمة محاسبة على المواقف والآراء والتقلبات، فلتُرفَع السرية الثقافية السياسية عن الجميع، ولتبدأ جــــولات الاعتراف والإعتذار أيضاً.

 من هم أعداؤك في الوسط الثقافي؟

– لا عدو لي سوى يحيى جابر المتردد المنفصم الحائر بين عشرات شخصياته المتصارعة.

نتابعك كتابياً على الـ”فايسبوك”، وسنشاهد عملك المسرحي الجديد، لكنك غائب عن الكتابة الصحافية، ما السبب؟

– لا أعرف. أسأل نفسي سؤالا آخر، ولكن في السياق نفسه: لماذا لا يستكتبني أحد في مجلة أو جريدة؟ لا أجد إجابة. لا يعتريني شعور بالاضطهاد، ولا يتملكني جنون العظمة. وها أنا قد رجعت إلى المسرح، إلى فن الفقر، بدون أن أدعي أنني مهمش. لا، لست هامشيا، أنا من المتن، وأحب المغامرة فيه، بلا خوف من الخسارات أو الخيبات. لا أملك شيئا أخسره، لا ثروة ولا مركزا. أصدقائي يعرفون أنني أخترع أعمالي كي أحصّل بعض المال لإعالة إبني، واستكمال الحياة بالمكابدة وتحمل المشقات. كما أنني سأظل صامداً في بيروت، ولن أستسلم للضغوط. لم أغادر المدينة بعد السابع من أيار 2008 مثلاً، بل بقيت فيها، لا بل زرت شارع الحمراء في الأيام القليلة التي تلت الأحداث العسكرية.

 إلى أين تتوجه بتجربتك، من “بحيرة المصل” إلى مسرحيتك عن الطريق الجديدة، ما الذي تغير فيك؟

– خائف من الموت سرطانياً خلال السنوات المقبلة، تماماً مثلما ماتت أمي في أحد الأيام. أشعر أحياناً أنني كبرت، وما عدت ذلك الطفل أو الشاب المغامر. أقصد أنني أهجس في مداهمة الوقت، وتأخري عن نشر ما كدسته من أوراق في الجوارير، وعن تحقيق ما أفكر فيه من أعمال ومواضيع فنية. تغيرت كثيراً، وهذا ممتاز للغاية، لأنه يشعرني بالتجدد. لكن، ثمة إحساس وحشي يخيفني أيضاً، وهو موت الأصدقاء، وتعطل القدرة على البوح في بيروت، التي أجدها اليوم تركض بسرعة إلى صخرة الروشة. فالمدينة التي أطلقت تجربتي صارت خالية من الصداقة، وأخاف أن يتوقف الإبداع فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى