صفحات الرأي

التعليم هو الحل…/بيار لوي ريمون

 

 

 

يعتبر التعليم في العالم العربي من القطاعات الحيوية التي باتت الشغل الشاغل للدول العربية منذ حوالي ثلاثين عاما، بحيث حقق هذا القطاع خلال سنوات 1990 تقدّما مذهلا في هذه الدول لم يسبق له مثيل في بقية مناطق العالم.

لكن، وإن سجل التعليم تطورا يتركز خاصة في ارتفاع نسب التمدرس والتوازن بين الأولاد والبنات وفي صرامة التقييم، ثمة الكثير لا يزال بعيد المنال، ومنه تحديدا، حجر العثرة الأهم المتمثل في الجودة.

تعج الصحافة العربية بمقالات تشيد بالتطور الذي يعرفه التعليم في الدول العربية، مبرزة أن هذا الأخير يقع في مقدمة القطاعات محل الإنفاق من إجمالي الناتج المحلي بنسبة تعدّ «من أعلى مستويات الإنفاق على التعليم في العالم». نقرأ هذه السطور مثلا في تقرير من تقارير البنك الدولي صدر عام 2011 بقلم مراد الزين يقدم لمحة عن الإنجازات المحققة في مجال التعليم العربي، اقتصاديا واجتماعيا وربما الأهم، على مقياس عالمي.

لكن هذا التقرير، وإن ثمّن نقاطا عديدة هي جديرة بالتثمين فعلا، لم يتناول كل جوانب المسألة على درجة كافية من الاستغراق. فحينما نقرأ مثلا أن «متوسط مستوى التعليم لمن تزيد أعمارهم عن خمسة عشر عاما ازداد بمقدار أربعة أضعاف منذ عام 1960، لم يتحدث صاحب التقرير عمن هم دون هذه الفئة العمرية، مما يدفعنا للتساؤل عن مدى تغطية حاجيات التعليم في العالم العربي في السلك الابتدائي وما يستدعيه التصدي للمشكلة من تدابير متعلقة أساسا بمحاربة الأمية بواسطة الموارد المخصصة ـ بشريا وماديا- ولكن أيضا بإقامة البنى التحتية المنتظرة من مدارس ومواصلات وتجهيزات طرقية…

لكن إلى جانب قضية البنى التحتية والتجهيزات، التي تعد نقطة أساسية في الموضوع، ثمة إشكالية جودة التعليم. تطرق مقرّر البنك الدولي لهذه النقطة انطلاقا من مثال الدول الغنية في المنطقة، وأبرز كيف تقبع «ثلاثة من أغنى البلدان المنتجة للنفط في قاع مؤشر اختبار دراسة الاتجاهات الدولية في الرياضيات والعلوم لعام 2007 «، لكن لا بد من تقديم بعض العلل المفسرة للظاهرة: أهمها توجهات اقتصادات هذه البلدان، فهي تعد ريعية أساسا، أحادية التوجه، غير مهتمة أصلا بتطوير «اقتصاد المعرفة» لتجنّد التكنولوجيا الرقمية مثلا في سبيل تطوير طرق التدريس وإنتاج مناهج تعليمية تفاعلية.

هذا يقودنا إلى ربط مسألة جودة التعليم بأسبابها الأساسية: صحيح أن تدني الأجور وتوجه المعلمين لامتهان «مهن أخرى جانبية» ظاهرة قائمة ومنتشرة، لكن الانعكاسات لا تمنع من الرجوع إلى المسببات الهيكلية التي تنخر كيان التعليم. فحسب تقرير «التربية للجميع « الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) عام 2012، فإن الوزارات العربية تعتمد على مركزية قوية إيجابية جدا، سواء تعلق الأمر باتخاذ القرارات أو تطوير المناهج، لكن البيروقراطية المفرطة وغياب أو قلة البعد التحليلي والنظري للتوجهات تنعكس على نوعية التعليم، فيظل هذا الأخير حبيس طريقة إلقاء لا تعتمد على التفاعل، بما لا يترك للتلاميذ مجالا لتنمية روحهم النقدية، بل استخدامه أصلا.

لكن تبعات التقصير بجودة التعليم الذي يؤدي إلى التفريط بنوعيته لا يقتصر على أداء التلاميذ والطلاب فحسب، أو بالأحرى، يؤثر هذا وذاك على التطور الاقتصادي للبلدان المعنية: فكما أكد تقرير اليونسكو، لا يوجد اقتصاد مستدام، من دون التصدي لحالات انعدام توافر التلاميذ على المقدرات الأساسية من قراءة وكتابة وحساب، كما لا يوجد اقتصاد مستدام إن لم يعتمد على البنى الكفيلة بتلقين مكتسبات سوق العمل الأساسية، التي لا يمكن التفريط فيها، وهي الحس النقدي والإحساس بالمسؤولية، والقدرة على حل المشاكل.

التعليم العربي يعاني من المعضلة التي تعاني منها الكثير من المنظومات التعليمية العالمية، وكفانا هنا ذكر حالة المنظومة التعليمية في دول الاتحاد الأوروبي، فمحنة هؤلاء وأولئك مشتركة «انغماس» غير كاف في «تربة» متطلبات قطاعات الوطن الحيوية، فلا ولن يكفي مجرد إقامة دورات تدريبية وجيزة في هذه الشركة أو تلك يكتشف فيه الطلاب «عالما جديدا» ثم «يعودون من حيث أتوا»، كما لا ولن يكفي تزويد الطلاب بالحصص المسماة بـ»لعبة توزيع الأدوار» فيتقمص الطالب «أ» دور مدير الشركة والطالب «ب» دور العميل وربما الطالب «ج» دور ممثل رابطة اتحاد العمّال الغاصب…

لا، كلا، هذا لا يكفي ولن يكفي، لا ولن يكفي إعطاء الشباب الأمل بأنهم يستطيعون تقلد هذا المنصب أو ذاك، وإن كان هذا مهما، بل مهما جدا، لكن لا بد أولا من تقديمهم الوسائل التي تمنح لهم القدرة على الإيمان باحتمالية تحقيق هذا الأمل.

…»وتطلبهم من بعد يكونوا فضلاء …». كما قالت زوليخة، الشخصية الرئيسية لرواية ريح الجنوب للمرحوم عبدالحميد بن هدوقة..

 

٭ باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى