تعددت السيناريوهات والوهم واحد/ سلام الكواكبي
منذ اليوم الأول للثورة السورية التي تحوّلت، بقدرة “شيطان” كامن في تفاصيل المنظومة السياسية القائمة، إلى نزاع مسلّح تكاتفت على تأجيجه قوى ظلامية ونصف ظلامية، وعروبية ونصف عروبية، وليبرالية ونصف ليبرالية، وعدمية ونصف عدمية، وذات هوية محددة وبلا أية هوية، لم تتوقف المراكز البحثية ومخابر الأفكار ومختلف أنواع وسائل الإعلام عن استنباط السيناريوهات المتعلقة بمرحلة الخروج من عنق الزجاجة المليئة بالدماء. أضف إلى هذه المصادر “الجدية”، و”المُخوّلة” نظرياً، بإجراء مثل هذا النوع من “التمارين” البهلوانية، تفتّحت شهية مواقع التواصل الاجتماعي و”تفتّقت” بطرح السيناريوهات التي “نُميت” لها من مصادر موثوقة، أو أنها استلهمتها من علاقات “رفيعة”، أو أنها، وبكل بساطة وتواضع، من بنات وأبناء وأحفاد أفكار كاتبها أو طارحها أو ناشرها.
وهذا التمرين، وأعني به كتابة السيناريوهات المحتملة، ممارسة معروفة وليست جديدة، وهي حتماً ليست من اختراعات المقتلة السورية تحديداً. وهي نوع من التمرين الذهني الذي يعتمد على معطيات “الحدث”، ومصادر معلومات “موثّقة” وقدرة تحليلية لا تعتمد على الذكاء و”الملعنة” فحسب، بل هي تستند، أساساً وأولاً، إلى دراسة علمية لعدة مباحث متطورة، كُتبت فيها المجلدات، وعقدت حولها الندوات، وصرفت في سبيلها الثروات.
ومن أفضل السيناريوهات إنجازاً، وليس تحققاً، هي التي تعتمد على مجهودات مشتركة لمجموعة من الباحثين ومحللي السياسات، فالمختص بالعلاقات الدولية يمسح المواقف الدولية والإقليمية المحيطة بالموضوع، محاولاً مثلاً تحليل جمودها أو تغيرها، سلباً أم إيجاباً. والباحث في التاريخ يُحاول أن يستقرئ الحدث ويضع توقعات مآلاته من خلال مراجعة أحداث مشابهة، أو قريبة المُماثلة في التاريخ القريب للدولة أو القضية أو المسألة المدروسة. ويستطيع العامل في حقل العلوم السياسية، من خلال التحليل الشامل، أن يضع كل ما سبق في إطار منطقي إلى حد ما، معتمداً على ما اكتسبه من معرفة نظرية وممارسة عملية في مجالات البحث ودراسة الاحتمالات. أما الصحافي المتمرّس فهو قادر، أيضاً، على مقاطعة المعلومات ومصالبة الأفكار وتحليل بعض المُبهم من التصريحات، ليصل إلى وضع تصوره الكامل نظرياً للموضوعة المدروسة.
“من أفضل السيناريوهات إنجازاً، وليس تحققاً، هي التي تعتمد على مجهودات مشتركة لمجموعة من الباحثين ومحللي السياسات”
وأهم ما يمكن إنجازه من سيناريوهات بطريقة مهنية وعلمية، يعتمد أساساً على فرضية واضحة ومطروحة في المقدمة، كما في الخاتمة، وهي تتمحور حول مسألة الاحتمال والتشكيك والنسبية وافتراض الخطأ الكامل، والقبول بانعكاس تام، ليس النادر حتماً، لكل ما ورد من توقعات وتصورات وإسقاطات.
وبما أن بعض الجماعات البشرية أو المكونات الإنسانية تُهمل دور العلم والتقصّي والاستطلاع والتحليل والمراقبة الهادئة للظواهر والاحتمالات، ليس لسببٍ جينيٍ بحت، بل بسبب تراكمات “ثقافية” وممارسات سياسية واجتماعية تُعلي دور “الفهلوي” على دور العالم، فمسألة السيناريوهات أضحت عمل من لا عمل له. وأصبح المقهى الطبيعي أو الافتراضي الساحة الأساسية لتطويرها وتوزيعها وترويجها. وصارت الصحافة استسهالاً وتخلياً عن دورها السياسي في التقصي وفي الإعلام، تدلو بدلوها في هذا الحقل، مروّجة هذا السيناريو أو ذاك أو واضعة سيناريوهات “أصلية” معتمدة على قراءات فيسبوكية وتويترية مع قهوة الصباح أمام شاشة الحاسوب، وكان الله يُحب المحسنين.
فقراءة عنوان في جريدة تركية عن تحرّك بعض ناقلات الجند أو المدرعات باتجاه الجنوب، سيدفع فوراً إلى كتابة سيناريو التدخل العسكري التركي “المرتقب”، وربما تحديد ساعة الصفر. وقراءة تعليق فيسبوكي عن مجريات معارك الجبهة الجنوبية سيدفع إلى طرح سيناريوهات تطور مسار المعارك باتجاه العاصمة دمشق. وهذا الدبلوماسي السابق سيطرح سيناريوهات تطوّر الموقف الروسي أو الإيراني أو الفيليبيني من المسألة السورية. وذاك الضابط السابق سيضع سيناريوهات معارك، لا علم له بها إلا من خلال الافتراض الفيسبوكي. والصحفي/ المواطن سيضع سيناريوهات قائمة على الدردشات مع قائد هذا الفصيل أو ذاك… إلخ.
كل من ورد ذكره فاعلٌ ومهم في وضع السيناريوهات، بناء على أسس ومعايير علمية، واستناداً إلى عملٍ جماعي منظم. أما أن نعيش في زحمة السيناريوهات الوهمية، لا بل وأن نصرّ على تحققها، محددين أحياناً تواريخ بعينها، ونجزم بمآلاتها، فهي الطامة الكبرى.
إن التسلي بوضع سيناريوهات لمباراة كرة قدم وتوقع مجرياتها، ربما كان “تمريناً” أجدى بالتصدي له لمن يُحب عملية وضع السيناريوهات. أما الاجتهاد في “تعشيم” الناس أو تخويفهم أو ترهيبهم بوضع سيناريوهات “مسلوقة” لمقتلة قائمة منذ سنوات، فهو استهزاء بالحياة البشرية. أن يقوم بهذا التمرين “خبير” أجنبي، وقلّما حصل ذلك، فهذا مقبول على الرغم من الانتقاد الشديد المستحق. أما أن ننصرف نحن، سوريات وسوريين، عن العلم إلى التبصير لجذب الانتباه وجلب الاعتراف بالمقدرة الخارقة، ولفت الأنظار إلى وجودنا في المشهد العام، فثمن ذلك مرتفع: فقدان المصداقية وفقدان الأرواح.
بدأت براعم مراكز بحثية بالنشوء في محيط المشهد السوري الدامي، وبدأ بعض الجادين بالاعتماد على معايير واضحة ومُختبرة في تحليل المعلومات ومقاطعتها، للتمكن من وضع تصورات تحمل الكثير من التواضع المُشرّف لأصحابه. الشَرطية في التوقع هي الأساس، وليس الحسم والجزم الجالبان للوهم.
العربي الجديد