صفحات العالم

تغيّر الموقف الأميركي من الثورة السورية

 

هشام منوّر

 من سوء حظ الشعب السوري وحراكه الذي بدأ سلمياً قبل أن تتغير مساراته بحكم الظروف الموضوعية التي اكتنفته، أن تعيش دول العالم الغربي وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية مرحلة دقيقة في ريادتها للعالم تتميز بالانكفاء الدولي ومشاريع الانسحاب التي دشنها الرئيس الحالي باراك أوباما وضمنت له التجديد في ولاية رئاسية ثانية تنشغل فيها أميركا بمشاكلها الداخلية وتنسحب رويداً رويداً من قيادة العالم لتعتمد مبدأ “القيادة من الخلف” كما فعلت في العراق وأفغانستان بسحب قواتها من الأولى وبدء سحبها من الثانية العام المقبل، وكما فعلت في ثورات الربيع العربي، وبالذات في ليبيا عندما سلّمت مقاليد الأمور إلى كل من فرنسا وبريطانيا.

راهنت الولايات المتحدة بداية على الإبقاء على النظام السوري والضغط عليه من قبل حلفائه للقيام بإصلاحات لم يتنكّر لها النظام نفسه، فالتغيير في بلد مجاور للكيان الإسرائيلي ليس بالأمر السهل في ظل عدم توافر البديل الذي أثبت حتى الآن عدم جهوزيته، والمتمثل في تيارات المعارضة السورية المنهمكة في انقساماتها وتشظياتها. لكن موقف الحراك الداخلي كان يتصاعد مع اشتداد المواجهة بين قوات الأمن والشعب السوري، وحدث ما كان الجميع يتخوفون منه ويتوقعونه، وهو فشل الترهيب باستعمال ممارسات الأمن وتخويف الشعب السوري في ثنيه عن مواصلة حراكه، وحضر المثل العربي الشهير “الدم.. أدعى للدم” فاستدعى الدم المسفوك في المظاهرات التي ظل الإعلام الرسمي في سوريا يقلّل منها ومن شأنها دماً انتقامياً. كما استحثّت ممارسات الشبيحة الاستعلائية ردة فعل متوقعة من شعب لن يكون بطبيعة الحال ملائكياً إزاء انتهاك الأعراض وحرمات البيوت. واكتفت دول العالم بفرض عقوبات هامشية على اقتصاد سوري لا يعتمد أساساً على المعونات الخارجية او الغربية، والإعتماد على رصيد الجار التركي في محاولة التوصل إلى حلّ يرضي جميع الأطراف، بما أن ما يجري في سوريا لا يعني الغرب بقدر تأثيره على الحدود السورية مع فلسطين المحتلة.

عدة عوامل ساهمت في التخوّف لا التحفظ الأمريكي والغربي عموماً في التعامل مع الملف السوري، وشكلت أعذاراً أمام الرأي العام الداخلي والدولي، أكثر من كونها حقائق على الأرض، وفي مقدمتها تخوّف الولايات المتحدة من التوجهات السياسية والأيديولوجية لجزء صغير من المجموعات المسلحة المعارضة للنظام السوري؛ إذ لا ترغب إدارة أوباما بدعم هذه المجموعات بالسلاح بما يؤدي إلى حسم المعركة لصالحها، وحضر التركيز على جبهة النصرة وبدا الإعلام السوري متحالفاً مع الغرب وأوباما في تضخيم مخاوفه منها.

لا يمكن إنكار تخوف الولايات المتحدة من واقع الثورة السوريّة ومسارها المسلّح، وما قد يخلّفه الحسم العسكريّ لمسلحي المعارضة من نتائج محتملة، أبرزها فوضى السلاح، وغياب سلطة مركزيّة قويّة، والتداعيات السلبية لكل ذلك على أمن المنطقة وخاصة على “إسرائيل”، وهو ما جعل التحرك الأميركي يقترب من الملف السوري ويبتعد عنه كلما اقتربت الاشتباكات من الحدود مع الجولان المحتل.

تشظّي المعارضة السوريّة، وخاصة العسكريّة منها، وغياب بديل ذي توجهات معقولة بالنسبة إلى الأميركيين ليحلّ محل النظام الحالي، دفع واشنطن إلى الاعتماد على الخصم اللدود (روسيا) أكثر والاقتراب من الموقف الروسي لإيجاد حل سياسي يضمن الحفاظ على النظام وفق بنيته الحالية ومؤسساته، ولا سيما الأمن والجيش. وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الأميركي الجديد جون كيري في شهادة أمام الكونغرس مطلع العام الحالي، إذ قال إنّ “التنسيق مع روسيا في الأزمة السوريّة هو أقل الشرور”.

مع ذلك، يشكّل موقف جون كيري الأخير في روما تقدماً بالمقارنة مع سياسة الانكفاء والقيادة من الخلف التي تنتهجها بلاده، حيث من المتوقع أن تحاول أميركا منح حرية أكبر إلى حليفيها فرنسا وبريطانيا في تسليح المعارضة السورية، ولكن من تحت الطاولة، كما يقال. فحالة الانتظار ومشاهدة الدولة السورية ومؤسساتها تنهار تحت وقع الاقتتال الداخلي، ومعه ما يتسرّب إلى المجتمع السوري من فيروسات دول الجوار الطائفية والمذهبية ، وتتهدد فيه مكونات نسيجه الاجتماعي، حالة الإنتظار هذه شارفت على الانتهاء، ومع تقدم المعارضة المسلحة نحو تحقيق مزيد من التقدم والانتصارات العسكرية بمجهود ذاتي وبالاعتماد على مخازن السلاح السوري المستولى عليه، بات من الضروري قطف ثمار أي نصر محتمل قبل وصول المقاتلين إليه، والمساومة على منحه لهم، كما جرى الأمر في البوسنة والهرسك إبان حرب البلقان.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى