صفحات الثقافة

تــلك الثــورات


عباس بيضون

لا بد من الاعتراف ان الحدث السوري مقلق ومؤلم غاية القلق والألم. ان متابعته باتت ترزح على الاعصاب وتستنزفها. هذا حقيقي، لكن ثمة من يستثمرون هذا لإدانة الثورة السورية والشعب الذي يتحمل عبئها. هناك من يدين المتظاهرين لأنهم ما يزالون سادرين في تظاهراتهم ولم يستجيبوا لإرادة من يطلقون عليهم النار. هناك من يحمّل هؤلاء جناية القتلى والجرحى الذين يسقطون من صفوفهم. هناك من يعتقد أن عنف الدولة وعنف النظام مشروع وعلى الآخرين أن يرضخوا له وإلا كانت مسؤوليتهم على أنفسهم واستحقوا كل شهيد وكل جريح يسقط من بينهم. القصة طويلة، يرى هؤلاء، ولا تنتهي بمجرد الإطاحة برأس النظام، في ليبيا هناك انفجار المشاحنات القبلية، في مصر مجازر لا نعرف أي يد للنظام السابق المستمر من 1952 حتى اليوم فيها، فهي تنشأ عن غير استعداد واضح وبدون أدنى توقع كحوادث بورسعيد. في اليمن هناك عصيان داخل الدولة وداخل الجيش من أقارب علي عبد الله صالح. في تونس درجة من الارتباك والفوضى. ولنقل الجميع مرتبكون، عنف ما بعد رحيل رأس النظام لا يزال مستعراً منذ رحيله. فوضى ما بين الجماعات التي أفرج عنها النظام السابق والمستمر عارمة، والجماعات الناجية من أسر النظام تندفع بلا ضابط وتتصادم بدون نظام ولم توجد بعد شرعة او ميثاق او حتى قانون ترسم حدود حراكها وحدود علاقاتها وحدود صداماتها. مجتمعات مقموعة تنفجر بعد عقود من القمع ولا تستطيع بسهولة ان تجد مساراً لانفجارها، تنظيمات دينية في مجتمعات مختلطة ومتعددة تستقوي بالدين الأكثري وتهدد باستثناءات شرعية وتتوخى دولة من لون ديني او طائفي واحد. كل هذا فوق الطاقة، وكل هذا ثقيل على النفس، وكل هذا يستنفذ الحماس ويلجم الاندفاع ويفت في التعاطف. سنجد غير واحد يقول ان زين بن علي كان أسلم لتونس، وأن حسني مبارك خير لمصر، وأن القذافي أجدر بليبيا وأن علي عبد الله صالح أشفق على اليمن وأن نظام البعث وقائده أرحم بسوريا. سنجد غير واحد يقول ان الثورات باطلة منذ الثورة الفرنسية حتى أيامنا هذه. وأنها لم تمر في مكان الا وتركته قاعاً صفصفا ولم تمر في مكان الا وتبعتها المجازر والارهاب والدم والبوار. كلام كهذا، أيا كانت نوايا قائلة وارتباطاته، لا يلقى في عرض الطريق ولا يعنينا من هو قائله اليوم، فقد قيل منذ الثورة الفرنسية مراراً وتكراراً، وبعض قائليه ليسوا مغرضين ولهم يد في الفكر وفي التاريخ وفي الفلسفة. الثورات باطلة بحسب هؤلاء وثمة من لا يجد فيها سوى تدهور مستمر وانزلاق إلى الأسوأ ولا يجد فيها سوى طريق للجحيم. وإذا خلصت النوايا لدى بعض القائلين فإنها لا تخلص لدى البعض الآخر، فمن يتلو بياناً ضد العنف وضد التكتل القبلي والطائفي وضد الصراعات الداخلية وضد الاندفاع الأعمى وضد المجازفة بالناس قد يكون أخذ نصيبه من العنف والتكتل والصراعات الداخلية وجازف قبل غيره بأرواح الناس.

من يقول ان الثورات باطلة يقولها وكأن ما يدعوه ثورات، ومن يؤاخذه على انه ثورات، قام على أنظمة مستقرة محافظة، أنظمة ملكية او امبراطورية اهترأت أو بليت في شيخوختها. لكن الأمر غير ذلك فما نسميه اليوم ثورات في العالم العربي انما قام أصلاً على ثورات. ليست أنظمة تونس ومصر وليبيا واليمن، وسوريا، إذا أخذناها من فمها ومن كلامها الا ثورات وأنظمة ثورية، تنطبق عليها كل مطاعن الثورات ومصائبها. هذه أنظمة نشأت لا بالتدرج او التطور وإنما نشأت عن انقلابات عسكرية انتجت قائد ثورة ومجلس قيادة ثورة ومؤسسات ثورة وحزباً ثورياً حاكماً وعائلات ثورية حاكمة ومافيات ثورية مسيطرة. ما نسميه اليوم ثورات قام أساساً ضد ثورات تميزت بكل ما نطعن عليه في الثورات، رفعت إلى الحكم حزباً وعقيدة وقائداً ونظاماً لا تقبل الجدل ولا المساءلة ولا الاختلاف ولا التعدد، فالعقيدة هي فكر الشعب والحزب او العائلة هما قيادة الشعب وقراره وكلمته، والحزب الحاكم يتراتب فوق الشعب وله امتيازاته في السلطة والرتبة والراتب والانتفاعات، والحزب او العائلة وهما في الغالب واحد يملكان البلاد والعباد والخزانة والموارد وكل شيء. الحزب عقيدة ناصعة قاطعة ومن يخالفها عد في الثورة المضادة، والمجتمع يتصنف ويتراتب بحسبها. هل يكفي ما تقدم لنقول ان الشعوب هنا تتمرد على ثورات شاخت بعد ان استنزفت شعوبها وبعد أن ساستها بالعقيدة الواحدة والحزب الواحد والعائلة الواحدة والمخابرات المهيمنة. انها ثورات بدون شك وسيكون مآلها ما انتهت اليه ثورات مثلها وما تنتهي إليه الثورات بعد ان تفقد اسنانها وعزمها. انها ثورات وسيكون مصيرها مصير الثورات الفاشية والثورات الشيوعية. اسم «ثورات» ينطبق تماما على أنظمة أممت الصناعة والتجارة والمصارف واحتكرت الحياة السياسية وأخضعت الشعب كله لتربية واعداد وعسكرية متماثلة. إذا كانوا يخوفون بالثورات الفاشية والشيوعية فهذه هي الثورات وما تقوم ضدها فهي حركات التمرد وأنا أفضل هذا الاسم فإن «الثورات» هي ما بنوه وما أنشأوه وما رسموه وما قننوه في الأنظمة الثورية. لا عجب أن يكون المدافعون عن هذه الأنظمة من طينتها ومن قماشها، أنظمة كهذه قادرة وحدها على احتضان احلام فاشية وديماغوجيات شعبوية فقد بليت وهي تتكلم باسم الشعب وترسم باسم الشعب وتكذب باسم الشعب وتستغل وتستثمر باسم الشعب. ان الفاشية ليست صفحة مطوية، انها دائما تتسمى باسم الغد وتخطط للانقلاب.

ما هي إذن حركات التمرد العربية، الانتفاضات التي شكلت الربيع العربي، إن لم تكن ثورات. لا تملك هذه الانتفاضات أي برامج للمستقبل. لم تقم بها عصبة واحدة ولم يقم بها فكر واحد ولا تزعم لنفسها عقيدة واحدة ولا مذهباً واحدا، انها تقاطع ضخم تلتقي خطوطه عند فكرة الحرية، وحيث سقط الرؤساء بقيت في الشارع تلك الفسيفساء الملونة وبينها من يملك في اسه البذرة الفاشية، ومن تقوم مخيلته السياسية على احتكار السياسة، ايا كان الاسم الذي يحمله هذا الاحتكار. هذا ما يجعل الصراع مستمراً، لكن ثمة ما هو مؤكد فكرة الحرية ليست يتيمة. لقد كانت وراء الحراك ومن يريد ان يجهضها، سواء من النظام المستمر رغم سقوط رأسه، وسواء من الفاشيات الجديدة، من يريد ان يجهضها لن يجد الطريق امامه معبداً وعليه ان يصادم، وسيخسر كلما انكشف وانكشفت نواياه، سيخسر كلما بدا انه النسخة الجديدة من الفاشية نفسها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى