صفحات الثقافة

ديستوبيا كونية!/ خيري منصور

 

 

ستة وثلاثون عاما هي الفاصل الزمني بين نبوءة جورج أورويل وما تحقق منها، العام 1948 الذي كتب فيه الرواية، شهد خريف الحرب العالمية الثانية، وظهور نظم توتالية جعلت من عبادة الفرد إنجيلا جديدا، خصوصا في الحقبة الستالينية حين اختصر الرقيب جدانوف دراما الرقابة الاستبدادية، في منهج أوشك أن يقول فيه إن على الكاتب أن يستخدم الممحاة المعلّقة بطرف قلمه أكثر من استخدامه للقلم ذاته، وانتهى المشهد رغم بشارة اهرنبورغ الشهيرة عن ذوبان الجليد، إلى انتحار شعراء وهجرة علماء وفنانين نذكر منهم للمثال فقط ماياكوفسكي، سيرجي يسنين، زاخاروف وسولجنستين وبرودسكي.

لكن نبوءة أورويل الذي سخر من أباطرة ما بعد الحرب في «مزرعة الحيوان» التي كُتبت برمزية لها تأويلات بلا نهاية كان يتصور أن الأخ الأكبر الذي يلاحق الناس في المرايا وغرف النوم وصنابير المياه هو من إفراز الشيوعية ونظام الكولوخوز، لكنه لو عاش حتى أيامنا لرأى بأم العين النظم الرأسمالية في ذروة توحشها وانتهاكاتها حريات البشر ووفرة آلات التصوير التي تظهر حتى النخاع وتحول الكائن البشري إلى «أبو بريص» الذي تحول شفافية جلده دون حجب أحشائه، بحيث أصبح المشترك فيما يتعلق بالديستوبيا المضادة لليوتوبيا وهي المدينة الراذلة مقابل الفاضلة يشمل الرأسمالي والشيوعي معا، وهذا ما حاول اثنان على الأقل افتضاحه هما، هربرت ماركوز في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» ومجمل أطروحاته. وويلهالم رايش السايكولوجست المعروف، وإن كان رايش قد دفع ثمن ذلك غاليا عندما لفّقت له تهمة الجنون، وهذا ما لخّصه كونديرا بعبارة واحدة هي كثافة السلطة وشفافية الفرد.

ومنذ عام 1948 حتى هذا العام الذي دخلنا إليه ببوصلة معطوبة، كما قال أمين معلوف في كتابه «اختلال العالم»، حقبة يصعب تصنيفها، فهي شهدت صخبا حول حقوق الإنسان والحريات بقدر ما شهدت صمتا وتواطؤا لعدم ترجمة هذه الشعارات وبالتالي منعها من أي صرف.

بالطبع لم يخطر ببال أورويل أن الصفحة السوداء الأولى من الديستوبيا التي تخيلها هي احتلال فلسطين والاعتراف الكوني بالدولة العبرية، إذ سارع سادة المجتمع الدولي يومئذ إلى الاعتراف بها، متجاهلين أن الوجه الآخر لهذا الاعتراف هو تكريس وشرعنة دولية للتراجيديا الفلسطينية، وقد يكون ما يسمى ازدواجية المعيار ببعديه الأخلاقي والسياسي كما تمارسه الولايات المتحدة هو الأمثولة التي تجسّد نبوءة أورويل، ما دام الحب تبعا لمعجمه المعكوس يعني الكراهية والسلم يعني الحرب، والدفاع عن حقوق الإنسان يعني انتهاكها!

ولا أدري ما إذا كان المواطن الأمريكي قد قرأ أورويل، أو أنه لم يسمع به، لكنه علق عبر شاشة سي. أن. أن في اعقاب الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001 قائلا بأنه لن يقبل بالمقايضة التي بدأت بلاده تفرضها على الناس، وهي التنازل عن الحرية في سبيل الأمن، وأضاف أن من يرضى بهذه المقايضة الجائرة لا يستحق الحرية والأمن معا!

قبل رواية أورويل شهد العالم نبوءات أقل تشاؤما، بدءا من المدينة الفاضلة بالمفهوم الأغريقي وجمهورية أفلاطون، مرورا بالمثاليين الغربيين، وليس انتهاء بفلاسفة إسلاميين كالفارابي، لكن بعد أورويل أصبحت الديستوبيا هي ما يستدعي النذير لا البشارة، فالقرن العشرون كان أقصر القرون بمقياس زمني، لأنه ابتدأ مع الحرب العالمية الأولى وانتهى مع الحرب الباردة، لكنه أطولها بحروبه وصراعاته وما جرّه توازن الرعب النووي من كوارث على الثقافة، وحين نقرأ ما كتبته ف. اس. سوندرز في كتابها عن الثقافة في زمن الحرب الباردة بعنوان «من يدفع للزمار» نجد أن ما قالته بحاجة إلى استكمال، وهو من الذي كان وما يزال يدفع للطبال والرّاقصين؟

بين عامي 1948من القرن الماضي والألفية الفائتة، وهذا العام 2016 تسارعت الكشوفات العلمية وحدثت انقلابات كوبرنيكية شملت مناحي الحياة كلها، وكانت الرومانسية من ضحايا هذا التسارع لكن ليس لصالح واقعية منطقية، بل لصالح سوريالية سياسية عَصَفت بأهم إنجازات التاريخ الكلاسيكي، إلى الحد الذي نعي فيه هذا التاريخ حسب أطروحة فوكوياما، ومجمل ما أنجزه التطور التكنولوجي الذي حذف منه البعد الأخلاقي هو هذه المليارات التي تتضور جوعا وتتشرد وتكابد الثالوث الأسود بدءا من الجهل والمرض حتى الفقر الذي بلغ حدا غير مسبوق، حين التهم الجياع أسمالهم وكانت تلك وجبتهم الأخيرة وعشاءهم الأخير لكن بلا وعد بأي قيامة.

وفي هذه المسافة الزمنية تضاعف التصحر مرات عديدة، وهو تصحّر ثلاثي الأبعاد، يقضم الأرض والوعي ومنظومة القيم التي شقي البشر آلاف السنين من أجل ترسيخها، وقد تكون الديستوبيا سواء كانت أورويلية روائية، أو بأرقام وإحصاءات علماء المستقبليات قدرا بشريا وليس مجرد نبوءات سوداوية، فالكوكب الذي نعيش عليه لم يعد آمنا من أدناه إلى أقصاه، وانتهاك البيئة أدى إلى ما يسمى انتقام الجغرافيا تماما كما بدأت الحيوانات والطيور والحشرات تمارس انتقامها أيضا من خلال إنفلونزاتها وفيروساتها وسرطنتها بالمبيدات البشرية لا الحشرية.

والديستوبيا العلمية لا الروائية هي ما ينشر بمختلف اللغات الآن حول عدم صلاحية هذا الكوكب للإقامة البشرية فيه خلال عقود مقبلة، ورغم المؤتمرات الدولية المكرّسة لهذا الشجن الا أن التدارك أصبح غير مُتاح إلا بالحد الأدنى.

أخيرا ثمة ما يستحق التذكير بما يثيره عام 2016 في الذاكرة العربية، فهو متزامن مع مئوية سايكس بيكو التي يجري الآن إعداد طبعة جديدة منها تليق بالديستوبيا التي نعيشها أو بمعنى أدق نموتها!

كاتب أردني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى